مشاهدة النسخة كاملة : جرائم في حق الوطن



عادل محسن
10-11-2009, 23:59
جرائم في حق الوطن


بقلم الاستاذ : عمر إحرشان

لا نلقي انتباها إلى جرائم ترتكب في حق البلاد يوما بعد آخر، ويكون مرتكبوها عادة أشخاص يفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم في الاستقامة والأمانة والتضحية. ولعل أبرز مثال هو ما تعانيه الإدارة المغربية من أمراض جعلتها بؤرة فساد وأداة تسلط ومؤسسة للإثراء غير المشروع عوض أن تكون أداة خدمة تخضع لمقتضيات القانون وتلتزم بضوابط المصلحة العامة وتضع نفسها على الحياد.

هكذا، يتأكد يوما بعد يوم أن حال هذه الإدارةَ لا يبعث على الارتياح، ويزداد اليقين بأن أوضاعها لا تؤهل البلاد لمواجهة التحديات المستقبلية، وترتفعُ، لحظة بعد أخرى، أصواتُ المطالبين بإصلاحها وتنتشرُ، يوما بعد آخر، فضائحُها، سواء تلك المرتبطة بالاختلاس أو التبذير أو طغيان الامتيازات أو المحسوبية أو المحزوبية، حتى إن الرأي العام ألِف هذا الوضع ولم تعد تصدمه تلك المبالغ الضخمة المختلسة أو تلك الامتيازات الخيالية التي ينعم بها المحظوظون وذوو قرابتهم أو تلك العلاقات الخفية التي تسير هذه الإدارات لأنه، ببساطة، يدرك أن ما خفي أعظم ويعلم أن هذه الفضائح، التي تطفو على السطح، ليست سوى الشجرة التي تخفي غابة الفساد.

نذكر بهذا الأمر بعد تزايد الحديث عن الامتيازات وعن أبطالها الذين حولوا البلاد إلى إقطاعيات عائلية، يحتكرون تدبيرها بعيدا عن المساواة بين جميع أفراد الشعب المسكين، ضدا على ما ينص عليه الدستور.

ونذكر بهذا الأمر بعد أخبار الاختلاسات التي أصبحت معتادة لدى المواطنين الذين يتتبعون أخبارها كفصول تشويقية في مسلسل الفضائح داخل مؤسسات مالية ضخمة بنيت بتضحياتهم وتسير بأموالهم، وبسبب المقاومة التي تلقاها كل محاولة لتفعيل بعض النصوص الزجرية، ونتيجة البرود الذي تقابل به مثل هذه الفضائح، حيث غالبا ما تشكل لجان لتقصي الحقائق ويستغرق عملها عشرات الأشهر، ثم يدخل تقريرها دائرة النسيان دون تحريك مسطرة المتابعة القضائية ودون استرجاع المبالغ المختلسة، وكأن هذه المبالغ لا تساوي شيئا، مع أن عملية طرح بسيطة لمجموع المبالغ التي تتداولها وسائل الإعلام فقط تكشف عن طامة كبرى وزلزال عميق، إذ تكفي هذه الأرقام وحدها لحل مشاكل المغرب الذي يتخبط سكانه في دوامة الفقر والبطالة والعراء والعطش والهشاشة، وغير ذلك من الأمراض.

فلماذا، إذن، تتكرر هذه المآسي؟ ولماذا لم يوضع لها حد؟ ولماذا لم تستنفر الدولة كل وسائلها، وهي التي عودتنا على استعدادها لتفكيك كل «ما من شأنه» تهديد النظام العام؟

لماذا تتدخل الدولة للتغطية على هذه الخروقات، فتضخ سيولة مالية لسد عجز بعض المؤسسات دون أن تحرك مسطرة المتابعة في حق من قادوها إلى الإفلاس؟ ولماذا لم تسارع الدولة، إلى حد الآن، إلى إعادة النظر في القوانين المنظمة لهذه المؤسسات؟

تتوالى الأسئلة وتتنوع بدون جواب واحد يشفي الغليل أو مجيب يبدد الحيرة، ليستنتج الجميع أن الفساد عام وأن المفسدين كثر، وأنهم يشكلون شبكة يحمي بعضها بعضا، ومن شأن متابعة أحدهم جر الجميع إلى الإدانة، ولذلك يستحسن التكتم والتسويف وامتصاص الغضب، وحتى من ثبت تورطه واستحال التكتم عليه فإنه يقدم إلى محاكمة تستغرق سنين حتى ينسى الجميع قضيته فيصدر في حقه حكم مخفف تقل مدته عن مدة الحكم الصادر في حق ذلك المواطن الفقير الذي سرق لأنه لم يجد ما يسد به رمقه. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، إذ إن هذا المحظوظ سرعان ما يستفيد من عفو، أو حتى في حالة سجنه فإنه ينعم بامتيازات داخل سجن من خمسة نجوم، أما الأموال المختلسة فلا مطالب بها.

إن هذا التناقض بين أداء الإدارة وتطلعات المواطنين، وهذه السلبية التي تحكم أداء السلطات، وهذا الصمت المجتمعي على هذه الجرائم التي ترتكب في حق البلاد.. من شأنه أن يعمق العزوف واللامبالاة وينمي الشعور بالحقد ويضعف الثقة في الدولة ومؤسساتها وكل الفاعلين المجتمعيين. ولا يمكن مواجهة ذلك بالوعود والخطابات والشعارات والنوايا الحسنة، بل يلزم من أجل ذلك تفعيل آليات الزجر والحكامة الجيدة التي أصبحت، للأسف، مجرد أماني.
إن هناك مداخل أساسية لا بد من طرقها إن أزمعت السلطة تبيان إرادتها في الإصلاح، ويمكن اختزالها في:

- إعادة النظر في التشريعات المنظمة، وهذه مسألة غاية في الأهمية، ويجب أن تحظى بالأولوية في برامج الإصلاح لأن الممارسة أثبتت أن سببا أساسيا في ضعف الأداء يكمن في المجال التشريعي حيث المساطر معقدة وغامضة، والقوانين متقادمة، والنصوص المنظمة للرقابة غير فعالة، وعمليات تدقيق الحسابات مناسباتية وتحكمها خلفيات سياسية أحيانا، والهياكل التي أوكلت إليها مهام التنفيذ عتيقة وتنخرها البيروقراطية وأمراض التضخم والتداخل.

- ولا ينبغي أن يسند التشريع إلى برلمان مكون ممن لا همّ لهم إلا إبقاء الوضع على ما هو عليه، بل إن منهم من ينفقون من أجل هذا الكرسي مئات الملايين حتى يحافظوا على امتيازاتهم، ويتصدون لكل قانون يبتغي إصلاح الأوضاع أو يستهدف مصالحهم. ولهذا، فإننا نتحدث عن إسناد التشريع إلى برلمان منبثق عن إرادة الشعب ومشكـّل من كفاءات نزيهة تعي المعنى الحقيقي لوظيفة البرلمان المتمثلة في التشريع والرقابة.

- ويجب الحد من الإفراط في اللجوء إلى استعمال السلطة التقديرية للمسؤولين، والتي غالبا ما تكون سببا في تعقيد المساطر وتفشي الممارسات السلبية، من رشوة واستغلال للنفوذ والتسويف والإرجاء، مما أفقد الإدارة مصداقيتها لدى المتعاملين معها ولدى المواطنين.

- وتتعين، بالموازاة مع ذلك، إعادة النظر في المعايير المعتمدة لاختيار المسؤولين، حتى لا تطغى عليها اعتبارات الولاء والمحسوبية والانتماء الحزبي عوض الكفاءة والأمانة، والله تعالى قال: «إن خير من استأجرت القوي الأمين».

- ولا بد، قبل كل ذلك، من إصلاح القضاء ومنحه الاستقلالية اللازمة والصلاحيات الكفيلة بجعله يتصدى لكل مظاهر الفساد ولكل أنواع المفسدين، مع تطوير قضاء متخصص في هذا النوع من الجرائم.
بدون هذه المداخل، ستتوالى أخبار الفساد وفضائح المفسدين، ولن تساهم إثارتها إلا في تطبيع المواطنين معها أو إشعارهم بها في أحسن الأحوال. وليس في هذا جديد، لأن الجميع يعلم بذلك ويدرك أن «ما خفي أعظم».

تلزمنا، وجوبا، جبهة وطنية واسعة للتصدي لكل مظاهر الفساد حتى نضع حدا لهذه الجرائم التي ترتكب في حق البلاد ويتضرر منها كل العباد.