مشاهدة النسخة كاملة : الإمام البنا والأستاذ ياسين: دراسة مقارنة 4/4



عادل محسن
01-01-2010, 23:41
في الذكرى الستين لاغتيال الإمام البنا
الإمام البنا والأستاذ ياسين: دراسة مقارنة 1/4


بقلم: خالد العسري

الإمام البنا ينسج على غير منوال

"ويح مصر! وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم ولي من أولياء الله! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غرتهم، حسن البنا؟!" تعليق الأمير عبد الكريم الخطابي على خبر اغتيال الإمام البنا رحمهما الله.[1]

ابن الزاوية الحصافية

ماذا لو نبغ من الزاوية الصوفية رجل فاقتنع أن العمل السياسي يجب ألا يظل قارة محتكرة من قبل أحزاب لا تقيم للدين كبير وزن؟ ما يكون مشروعه من أجل الحفاظ على صفاء التربية الصوفية، التي تجعل من أولى غاياتها بلوغ أعلى درجات القرب من الرحمن الرحيم، في تنظيم حديث تكون له القدرة والفاعلية في الواقع من خلال دراية التحرك وسط شرائح المجتمع المتباينة؟ ثم ما تكون الأسبقية في التنظيم المستحدث: لمعاني الصحبة والطاعة المتوارثة عن نظام الزاوية، أم لمعاني الاختلاف وتنوع الآراء وقيم الديمقراطية المستقاة من التنظيم الحزبي الحداثي؟

لقد ارتبط في أذهان المسلمين وسلوكاتهم أن الزاوية لازمة ضرورية من لوازم سلوك مدارج التصوف، وأن الاحتفاظ بمضامين التصوف يستحيل وسط بناء تنظيمي مستقدم من الغرب؛ حتى نبغ في المشرق رجل استطاع الجمع بين التربية الإحسانية العلية؛ والفكر الوقاد الثاقب؛ والتنظيم الجماهيري الحديث القوي، وهي خصال وأعمال قلما ينبغ فيها الرجال وهي مفردة، لكنها اجتمعت في شخصية الإمام حسن البنا بناء صرح الحركة الإسلامية المعاصرة، ومجدد الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري.

لعل أكبر معضلة استطاع الرجل تجاوزها تمثلت في قدرته على تكييف التربية الصوفية السَّنية في تنظيم بني على شاكلة التنظيم الحزبي الحديث، وقد وفقه الله عز وجل على جعل أذكار "المأثورات" و"الوظيفتين الصغرى والكبرى" زاد السالكين المجاهدين في جماعته، كما استفاد أهل السابقة في تنظيمه من صحبته، فكان لذلك أبلغ الأثر في تربيتهم الربانية.

إن مرجع ذلك أن الإمام البنا وقف موقفا مخالفا لما درج عليه أعلام السلفية من الطرق والزوايا، فلم ير فيها شرا ينبغي اجتثاته، بل ثروة تربوية نيرة يجب الإفادة منها بعد إصلاحها، قال في مذكراته: "ولا شك أن الأخذ بقواعد التصوف في ناحية التربية والسلوك له الأثر القوي في النفوس والقلوب، ولكلام الصوفية في هذا الباب صولة ليست لكلام غيرهم من الناس، ولكن هذا الخلط أفسد كثيرا من هذه الفوائد وقضى عليها. ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير في إصلاح هذه الطوائف من الناس، وإصلاحهم سهل ميسور، وعندهم الاستعداد الكامل له، ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجهوا نحوه توجيها صحيحا" [2].

إن الرجل إن تحدث عن الكنوز التربوية الدفينة في الطرق والزوايا فعن خبرة وتجربة، فالرجل من غرس الطريقة الحصافية، التزم أذكارها ومجالسها مذ صباه، يحكي فيقول: "وكنت مواظبا على حضور درس الشيخ زهران رحمه الله بين المغرب والعشاء، فاجتذبتني حلقة الذكر بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانيتها الفياضة، وسماحة هؤلاء الذاكرين من شيوخ فضلاء وشباب صالحين، وتواضعهم لهؤلاء الصبية الصغار الذين اقتحموا عليهم مجلسهم ليشاركوهم ذكر الله تبارك وتعالى، فواظبت عليها هي الأخرى" [3].

لقد غدا اليافع مواظبا على "الوظيفة الزروقية صباحا ومساء، وزادني بها إعجابا أن الوالد قد وضع تعليقا لطيفا جاء فيه بأدلة صيغها جميعا تقريبا من الأحاديث الصحيحة" [4]، وأصبح أمل الشاب اللقاء بالشيخ وصحبته والتلقي عنه، حتى التقاه وعمره تسعة عشر عاما "حيث تلقيت الحصافية الشاذلية عنه، وأذنني بأدوارها ووظائفها" [5]، وقد ترك البنا في شيخه شهادة يمتن له فيها بحسن تربيته له، نقتطف منها قوله: "وجزى الله عنا السيد عبد الوهاب خير الجزاء، فقد أفادتني صحبته أعظم الفائدة، وما علمت عليه في دينه وطريقه إلا خيرا" [6].

البنا والتحول العميق

وانتقل الشاب من دمنهور إلى القاهرة ليباشر أولى حصصه في وظيفة التعليم، "وحيث المقر الرسمي لشيخنا السيد عبد الوهاب الحصافي" [7]، وكان حسن البنا يجد "متعة كبرى في (الحضرة) عقب صلاة الجمعة من كل أسبوع في منزل الشيخ الحصافي، ثم في كثير من ليالي الأسبوع في منزل الخليفة الأول للشيخ الحصافي (...) وهكذا كانت حياتي العلمية والعملية والروحية مستقرة لا يعكرها شيء والحمد لله" [8].

تذكرنا هذه الصفحات من حياة الإمام البنا بحياة علامتنا المختار السوسي رحمهما الله، والذي كانت هو أيضا حياته العلمية والروحية مستقرة حتى التقى بأبي شعيب الدكالي رحمه الله، وانتقل إلى مدينة فاس، عاصمة المغرب العلمية، ليستبدل "فكرا بفكر" كما قال، وليتمكن من الانفتاح على واقع الناس الهائج المائج عوض الاكتفاء بالقعود في زوايا الذكر مستحليا مجالسها، ناسيا آلام أمته، وهو واقع سينفتح الإمام البنا على شبيهه أشد ما يكون الانفتاح في العاصمة المصرية ليصدم بمظالمه، وبأصوات الإلحاد والإباحية التي تهجم على قيم المجتمع بخيلها ورجلها، بينما تقف الدعوة الإسلامية خجولة محتشمة، تهمس حتى لا تكاد تبين، وقد هدها ما فعله أتاتورك ب"الخلافة" في تركيا المسلمة.

لم يعد يهدأ للإمام البنا بال في تلك الفترة، وهو يرقب خفوت صوت المعسكر الإسلامي، نقرأ في مذكراته: "وصرت أرقب هذين المعسكرين: فأجد معسكر الإباحية والتحلل في قوة وفتوة، ومعسكر الإسلامية الفاضلة في تنقص وانكماش. واشتد بي القلق حتى إني لأذكر أنني قضيت نحوا من نصف رمضان من هذا العام في حالة أرق شديد، لا يجد النوم إلى جفني سبيلا من شدة القلق والتفكير في هذه الحال" [9].

حاول البنا أن يبحث عن مسعف من حوله، ينتصر معه لعدل تيتم في وطنه، وينازل معه ظلما طالت سطوته وظلمته، فكان أول توجهه لرجال الزاوية الذين خبرهم وخبروه، ورأى أنما النقص يأتيهم من عدم تهممهم بالشأن العام، فإن فعلوا كانوا أقرب إلى الكمال. لكنه صدم بإجاباتهم، والتي صاغها له أحدهم في بيت شعري يوجز منهجهم في الحياة:

وما أبالي إذا نفسي تطاوعني **** على النجاة، بمن قد مات أو هلكا

ولكن البنا أصبح غير الذي كان، وما عاد همه خويصة نفسه، كما أن فقهه اتسع فعلم أنما اجتهاد الصوفية في التربية فرع، وأن التربية النبوية هي الأصل، وقد كانت تربيته صلى الله عليه وسلم جامعة متهممة بكل الإنسان وبكل ما يحيط به، فوجب رد الفرع إلى الأصل، وذاك ما استشرفه البنا من خلال سعيه لبناء جماعة "قوامها العلم والتربية والجهاد" [10]، فكان تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" إيذان فراق مع الزاوية الحصافية.

يقول البنا: "واستمرت صلتنا على أحسن حال بشيخنا السيد عبد الوهاب حتى أنشئت جمعيات "الإخوان المسلمين" وانتشرت، وكان له فيها رأي ولنا فيها رأي، وانحاز كل إلى رأيه. ولا زلنا نحفظ للسيد ـ جزاه الله عنا خيرا ـ أجمل ما يحفظ مريد محب مخلص لشيخ عالم عامل تقي، نصح فأخلص النصيحة، وأرشد فأحسن الإرشاد" [11].

لقد بدأت صفحة جديدة في حياة البنا ،وحياة الأمة الإسلامية، من خلال نقلته من زاوية التربية والقعود، إلى بناء أولى لبنات التنظيم الإسلامي المعاصر الجامع لهموم التربية والجهاد.

لقد كان في ذلك من السابقين الأولين، فكل من نسج على منواله من بعده فهو من حسناته. رحمه الله وأجزل له الثواب، ورزقه صحبة سيد الأحباب، بفضل الله الملك الوهاب.

تاريخ النشر: الخميس 24 دجنبر 2009
-----------------------------------------
[1] سعيد حوى: المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين. ص 193.
[2] حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية. ص: 22 ـ 23.
[3] المرجع نفسه. ص: 15.
[4] المرجع نفسه. ص:16.
[5] المرجع نفسه. ص: 19.
[6] المرجع نفسه. ص: 20.
[7] المرجع نفسه. ص: 37.
[8] المرجع نفسه. ص: 41 ـ 42.
[9] المرجع نفسه. ص: 51.
[10] المرجع نفسه. ص: 67، وانظر أيضا ص: 23.
[11] المرجع نفسه. ص: 21.

عادل محسن
01-01-2010, 23:42
في الذكرى الستين لاغتيال الإمام البنا
الإمام البنا والأستاذ ياسين: دراسة مقارنة 2/4



بقلم: خالد العسري


الأستاذ ياسين والولادة الثانية

"فللروح في هذا العالم نشأتان. إحداهما: النشأة الطبيعية المشتركة. والثانية: نشأة قلبية روحانية، يولد بها قلبه، وينفصل عن مشيمة طبعه؛ كما ولد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن. ومن لم يصدق بهذا فليضرب عن هذا صفحا ويشتغل بغيره" ابن قيم الجوزية.[1]

الوارد على الزاوية

في المغرب خطا رجل نفس خطوات الإمام حسن البنا، فكُتب للأستاذ عبد السلام ياسين أن يجمع بين سلوك التربية الإحسانية، والقدرة على النظر في تاريخ المسلمين وحاضرهم، والتنظير لمستقبلهم. وبنى هو أيضا تنظيمه الذي جعل له الشارة والشعار "العدل والإحسان"، بغية أن تجعل الأمة حكم الاستبداد تحت أقدامها، ورغبة في أن يتطلع أبناؤها إلى السلوك إلى الله عز وجل، وما يتطلبه السلوك من صحبة، وصدق، ومداومة على الذكر.

إن كان الإمام البنا قد التحق بالزاوية الحصافية منذ صباه، فإن العلاّمة ياسين عاش حياته كعامة المسلمين إلى سن الأربعين، كان في إبانها لا يبحث إلا عن الرقي في السلم الاجتماعي، وكان ذهنه خلوا مما يجري ويمور في عالم الناس.

كيف انقلب الرجل من كرهه للزوايا والطرق إلى أن يكون أحد خريجيها المبرزين؟ كيف تحول الاسم النكرة حتى حين إلى مرشد عام لأكبر تنظيم إسلامي في المغرب بعد عقدين من السنين؟ كيف وقع التحول الثاني في حياة الأستاذ عبد السلام ياسين بالانتقال من زاوية القعود إلى التأسيس للسلوك الجماعي الجهادي؟

كان الرجل منذ صباه أبعد الناس عن الصوفية واعتقاداتهم، لم يحتضنه مرب منذ الصغر كما حصل مع الإمام البنا، فكان أن عاش في بداية عقده الرابع أزمة روحية خنقت أنفاسه، وأذهبت السكينة عن قلبه. وما عاد الموقع الوظيفي ولا المكانة الاجتماعية الراقية التي يحتلها مع علية القوم ترياقا لهمومه الداخلية التي تتمحور حول سؤال المصير، والغاية من الوجود. واستمر الرجل على ذلك الحال حتى لحقه السقم، ثم تداركته رحمة الله عز وجل بأن قيض له من يدله على الطريق، وهي تفاصيل تذكرنا بتجربة الإمام أبي حامد الغزالي.

حكى الرجل عن ذلك فقال: "كنت قد شارفت الأربعين عندما تداركني الرؤوف الرحيم بالمؤمنين بهبة ويقظة، فهام الفؤاد، وغلب التفكير في المبدأ والمعاد، فوجدتني محمولا على الطلب مدفوعا إليه. كيف السبيل إليك يا رب؟ وعكفت على كتب القوم، فما منهم إلا من صرفني للبحث عن الرفيق قبل الطريق. بمن أستنجد يا رب غيرك؟ وشككت وترددت: أهو شرك مع الله؟ لكنني بعد أن استغرقت في العبادة والذكر والمجاهدة والتلاوة زمانا تبيَّنت أن أطلب ما عند الله هو غير طلب وجه الله. الأعمال الصالحة إن كان فيها الإخلاص وقبلها الحنان المنان تُنيل الجنان. لكن أي شيء يرفعني إلى مقامات الإحسان وفسحات العرفان. واشتد بي الأسى، وعِفت نفسي، وتضرعت وبكيت عليه، هو الملك الوهاب. وأتحفتني ألطافه بلقاء عارف بالله ربانيٍّ صحبته أعواما رحمه الله. وفهمت منذئذ ما معنى كون الطريق مسدودا، ولم هذه السدود، وكيف اختراقها، وأين، ومتى، وأيان!" [2].

أصبح الرجل وليدا في طريق القوم، يتعهده شيخه بتغذيته "الغذاء الروحي الذي لا يخطر وجوده ببال من يسألني عن مؤلفات شيخي سؤال تبكيت، لأن الرجل العظيم رحمه الله ما كان معه من مؤهلات القراء المهرة الحاذقين إلا زاد متواضع من حفظ القرآن والتفقه في الدين. عالم الروح وعجائب القلب واختصاص الله عز وجل من شاء من عباده بما شاء من مادة ترياق القلوب أمور ما عند المبكتين بها خبر. كان الله لنا ولهم. وُلدت الميلاد المعتمد في طريق الله على يد محسن من المحسنين، في ظل قلب تزكى لما زكاه الله. شيخ صوفي قال الاصطلاح." [3]

ياسين والتحول العميق

ما الذي نقل الرجل من الأنس بالذكر في أحضان الزاوية إلى ميدان التدافع السياسي؟ ما الذي غير مسار الرجل من صحبة الفقراء الدراويش إلى بناء تنظيم "العدل والإحسان" لاحقا؟ لفهم هذا التحول لا بد من استحضار خمسة محددات يتداخل فيها التربوي بالفكري بالواقع السياسي الذي عاشه الرجل.

المحدد الأول يتمثل في وفاة الشيخ الحاج العباس القادري رحمه الله سنة 1972، وهو المرشد الذي ربى الأستاذ ياسين وغذاه التغذية الروحية منذ سنة 1965، وقد كان هَمُّ المريد لحظتها هو خدمة شيخه والتلمذة له، والتعريف به والصياح على جموع الناس أن هذه هي الطريق، وأني قد "وجدت الحق مع الصوفية كما وجده الغزالي" [4].

المحدد الثاني تمثل في غزو البدع وعطايا السلطة صفوف الزاوية التي تربى فيها، يقول الرجل عن تلك المرحلة: "وأذكر نعمة الله علي في الملأ لأنه وهبني بعد وفاة شيخي منذ ثلاث سنوات ما يقصده المريدون من الصحبة، وكان رحمه الله أوصاني قبل وفاته أن ألزم ابنه وخلفه من بعده فلزمت. وعاصرت منذ تسع سنوات نشأة الانحراف عند الصوفية الصادقين إخواني، وعرفت بذلك كيف يدخل إلى أصحاب الزوايا حب الدنيا وكراهية الموت، ومن ثم كيف تتحول دعوة صادقة إلى أحبولة مشبوهة رغم صدق الشيخ وفضله، وإن خلَفَ شيخي فيما أعلم رجل الخير والفضل، لا أزكي على الله أحدا، بل الله يزكي من يشاء، لكن عناصر من الأتباع يستميلون الشيخ، وهو بشر ضعيف، حتى يحولوه إلى رمز يلوحون به، وحتى يحولوا الزاوية إلى مركز استهلاك بعد أن كانت مأوى للمساكين، ولقد رأيت كيف دخل الأثاث الزاوية وكيف غزتها الهدايا، ونصحت وآلوت علِمَ الله، وتمزق فؤادي شفقة على أهل بيت عرفوني الله وعلموني المحبة والتقوى، فعادوني وآذوني، وانتهى العداء إلى مداه لما نصحت لهم بالجهاد والنهوض للدفاع عن الإسلام الذي أصبح في ديارنا لعبة يدبر مسرحها ديدان القراء" [5].

المحدد الثالث تمثل في تحول فكر الرجل من فقه الخلاص الفردي إلى جمعه بفقه الخلاص الجماعي، وهو ما سعى إليه الأستاذ عبد السلام ياسين مع مريدي الزاوية حين نصح "لهم بالجهاد والنهوض للدفاع عن الإسلام"، فلما لم يجد منهم العزم كتب رسالته الشهيرة "الإسلام أو الطوفان" نصيحة إلى الحسن الثاني، ملك المغرب حينها، وقد كانت رسالة قوية في المبنى والمعنى، قال "كلمة هي أقرب إلى الحق: رجل مؤمن يتقدم بالنصيحة ويأمر ملكاً حائراً مذعوراً مهدداً يجهل الإسلام، رغم السبحة والأذكار، بتقوى الله جلت قدرته. ولو وجدت لك عذراً غير الجهل لالتمسته لك إبقاء عليك ورفقا بك. لأنك تحكمنا منذ سنين بدعوى عريضة صاخبة أنك باعث الإسلام، وما بك إلا تبرير سياستك المزرية بالإسلام وأهله، متألها تائها كعهدنا بك" .

لقد شكلت الرسالة حدا فاصلا بين ياسين والزاوية البودشيشية على مستوى النظر الفكري والموقف السياسي، كما كلفته قضاء ثلاث سنوات ونصف وراء أسوار معتقل من نوع خاص، ليخرج بعدها من مستشفى المجانين وهو يعتقد جازما استحالة مدافعة الواقع العفن دون تشكيل تنظيم قوي يتبنى قضيتي الإصلاح والتغيير، وهو ما ينقلنا إلى الحديث عن المحدد الرابع.

يتلخص المحدد الرابع في مقولة أنه "لا جهاد إلا بجماعة منظمة" [6]، وهو ما سعى الأستاذ عبد السلام ياسين إلى تشكيله متخلصا من البناء التنظيمي للزاوية، ومستفيدا من تجربة الإمام البنا التنظيمية، والتي تبدت في بناء هرم تنظيمي بألقاب استعملها البنا، أمثال: الأسرة، والشعبة، والنقيب، والمرشد العام، ومجلس الإرشاد... قبل أن تتطور "جماعة العدل والإحسان" وتكتسب التجربة الميدانية لتطور بنيتها التنظيمية بشكل مستقل نظرا وعملا عن باقي اجتهادات التنظيمات الإسلامية.

المحدد الخامس تجلى في مقولة أن "التنظيم بدون تربية جسم بلا روح" [7]، وهو ما عنى عدم التخلي عن الكنوز التربوية المستفادة من العارفين بالله، والتي من أهم مرتكزاتها الحفاظ على أمهات الخصال التربوية والمتمثلة في ثلاثية: الصحبة والذكر والصدق.

لقد أصبح نموذج الصحابة الكرام الجامعين لمعاني التربية والجهاد هو النموذج المحتذى عوض القعود عند النموذج الصوفي، لذلك أكد الأستاذ عبد السلام ياسين أن "لست أدعو الأجيال المقبلة للتصوف؛ وإن كانت التربية الصوفية هي التي احتفظت بجوهر الأمر كله، بل أدعو إلى اقتحام العقبة التي انحدر منها الصوفية الكرام عن ذلك الأفق العالي الجهادي الذي تحرك في ذراه الصحابة المجاهدون، نالوا بالجهاد المزدوج، الجهاد الآفاقي والأنفسي درجة الكمال. وجمعوا إلى نورانية القلوب المتطهرة حمل الأمانة الرسالية إلى العالم. وبذلك لحقوا بمقعد الصدق" [8].

لقد أصبحت حركية عضو جماعة العدل والإحسان تنشد كمالين عبر مسارين: مسار سلوك المجاهدة الفردية وسط جمع المؤمنين وبصحبة ولي مرشد للتحقق بمقام الإحسان، ومسار حركية جماعة تتحرك بنظام الصف لإحداث التغيير المطلوب في قطرها فتلا لحبل إعادة توحيد الأمة الإسلامية.

تاريخ النشر: الخميس 31 دجنبر 2009
----------------------------------------------------------
[1] ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين. 3/106 ـ 107
[2] عبد السلام ياسين "الإحسان" 1/130.
[3] عبد السلام ياسين: الإحسان 1/8.
[4] عبد السلام ياسين: رسالة الإسلام أو الطوفان. وهي رسالة نصيحة وجهها الأستاذ عبد السلام ياسين إلى ملك المغرب الراحل الحسن الثاني.
[5] المرجع نفسه.
[6] عبد السلام ياسين: المنهاج النبوي. ص 128.
[7] المرجع نفسه. ص 68
[8] عبد السلام ياسين: الإحسان 1/94.

عادل محسن
10-01-2010, 23:41
الإمام البنا والأستاذ ياسين: دراسة مقارنة 3/4

بقلم: خالد العسري


لوازم التربية

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾

أصالة التربية وحداثة التنظيم

اشترك الإمام البنا والأستاذ ياسين في تشييد تنظيمين ببنية حديثة يجمعان في ماهيتهما بين التربية السَّنية ومهام التغيير المطلوب إنجازها في واقع الأمة، ووسليتهما الأولى في ذلك بناء أفراد قدوتهم الصحابة الكرام الذين كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، لاسيما وأن القرآن الكريم ينبه أن التغيير في واقع الناس مقدمته الشرطية تغيير ما بالأنفس. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ توسل البنا وياسين في مهام التغيير وإصلاح واقع الأمة بالبنيات التنظيمية الحزبية الحديثة المستوردة من النسق السياسي الغربي، فأسسا تنظيمين على شاكلة ما هو متعارف عليه في النسق السياسي للدولة الحديثة، لكن سؤال المعنى والجوهر؛ سؤال التربية الذي يجعل المرء في مصاف أهل الإيمان حتى يرى أن النداء القرآني: "يا أيها الذين آمنوا" إنما المعني به هو نفسه، فالأكيد أن التنظيم الحزبي الحديث لا علم ولا خبر له عنه، وإنما يستفاد من القائمين على بوابة التربية، من رجال التصوف الكُمَّل، وعلى خبيرين في الميدان عثرنا، فالبنا وياسين من تربة الزاوية نبت ريشهما، لذلك كان السؤال الجامع بينهما هو كيفية تنزيل التربية الصوفية في بنية تنظيمية حديثة تسعى إلى تحقيق الخلاص الفردي لأبنائها دون تجاهل الخلاص الجماعي لأمتها؟ وما هي مقدمات التربية وشروطها الواجب التزامها حتى تكون المعنى لمن حمل شارة التنظيم واسمه؟

يشترك البنا وياسين مع أعلام التصوف في أن أولى شروط التربية يتمثل في صدق طلب وجه الله عز جل، وإخلاص القصد والنية له. عرف الإمام القشيري الصدق في رسالته بقوله: "والصدق: عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة النبوة، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ . والصادق الاسم اللازم من الصدق، والصدّيق المبالغة منه: وهو الكثير الصدق، الذي الصدق غالبه، كالسكّير والخمّير وبابه. وأقل الصدق: استواء السر والعلانية. والصادق من صدق في أقواله، والصديق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله. قال أحمد بن خضروية: من أراد أن يكون الله تعالى معه فليلزم الصدق؛ فإن الله تعالى مع الصادقين"[1].

جعل الإمام البنا الإخلاص مرادفا للصدق، ووضعه ركنا ثانيا ضمن أركان البيعة العشرة الواجب على المنتمي إلى صف "الإخوان المسلمين" أن يحفظها، وقال في تحديد مدلوله، "وأريد بالإخلاص: أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، وبذلك يكون جنديَّ فكرة وعقيدة، لا جندي غرض ومنفعة: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه الدائم: [الله غايتنا] و[الله أكبر، ولله الحمد]" [2].

الأستاذ عبد السلام ياسين في بحثه عن حركية المنهاج النبوي في واقع مغاير لواقع التنزيل، جعل كمال الإيمان كمال التحقق بشعبه التي وردت في الحديث النبوي الشريف، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون – عند البخاري: بضع وستون – شُعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" [3]، ولمقاصد تربوية وتنظيمية أدرج الشعب في خصال عشر، وجاءت خَصلة الصدق الثالثة في الترتيب، ومن الشروح التي قدمها للكمة قوله: "أعني بكلمة صدق: استعداد الوارد ليتحلى بشعب الإيمان، ويندمج في الجماعة ويكون له من قوة الإرادة وطول النفس ما يمكنه من إنجاز المهمات حتى النهاية. لا فائدة من ضرب الحديد البارد، ولا فائدة من محاولة تربية من ليس له استعداد." [4]

سبق المفردون

بعد هذا الشرط المرتبط بالوارد على التنظيم، يتفق البنا وياسين مع رجال التصوف أن الذكر ركن ثان في صحة السلوك والتزكية.

ترك البنا للإخوان المسلمين وغيرهم "المأثورات" رسالة قيد فيها فضل الذكر وآدابه، وعين ما على العضو المنتسب للإخوان أن يحافظ عليه من أوراد، ومن ذلك "الوظيفة الكبرى" أو "الوظيفة الصغرى"، وورد الدعاء. قال في تقديمه لرسالته: "وبعد: فإلى الإخوان المسلمين نتوجه بهذه الوظيفة، وما هي بخاصة بهم ولكنها للمسلمين عامة، لعل فيها إعانةً لهم على طاعة الله تبارك وتعالى، وهي تقرأ صباحا من الفجر إلى الظهر، ومساء من العصر إلى ما بعد العشاء فرادى وجماعة. ومن فاتته كلها فلا يفوتنه بعضها حتى لا يعتاد إهمالها وتضييعها. والورد القرآني في الوقت المناسب ليلا أو نهارا، وما بعدهما من الأدعية والأذكار يقرأ عند مناسباته" [5].

وجعل الأستاذ عبد السلام ياسين الذكر من أمهات الخصال في نسقه التربوي التنظيمي، وأشار بأنه لا يعني به "ذكر اللسان وحده ولا الأوراد والمراقبة، بل نقصد به كل الأعمال العبادية الروحية" [6]، وإن كان يندب أعضاء التنظيم وغيرهم أن يحافظوا على أورادهم "ويتنافسوا في الذكر، فما جاء من أذكار وعبادات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محدودة بالعدد فلا مكان لتجاوزها، وما ترك فيه لنا الخيار أو ندبنا فيه إلى الإكثار أكثرنا. تحديد العدد ورفعه بالتدريج سياسة للنفوس الكالة الكسول وليس تشريعا، وبعضهم يندد بمن يعين لنفسه عددا من النوافل والأذكار والدعوات والقرآن أو يحدده له غيره، يعتبر ذلك اقتياتا على الشارع. وما هو إلا سياسة. المحذور أن يتقدم أحد بين يدي الله ورسوله فيما جاء منصوصا على عدده، والمكروه أن تتعدى دائرة السنة، كأن تختم القرآن في أكثر من شهر أو أقل من ثلاث. وليس مذهبنا أن نحدد لأحد وردا. وللورد، تحديدا ودواما، سند في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: "أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل"، الدوام معناه تكرار عدد العبادة يوميا. وهذا معنى الورد" [7].

لكن الرجلين اختلفا في شرط الصحبة الذي يعد القطب الأعظم في السلوك عند الصوفية، صمت عنه البنا في كتبه، وجعل ياسين ديدنه التذكير به في كل مكتوباته ومجالس وعظه وإرشاده، قال: "إن الصحبة لكامل من الأولياء المرشدين شرط مفروغ من أهميته الحيوية عند السادة الصوفية أهل المعرفة بما هي الطريق. وإن شئتَ قلت باختصار: الطريق هي الشيخ الواصل الموصل الحبل بالسند المتصل. فما يبقى إلا شرطُ الصدق عند الطالب، وشرط الصبر مع المرشد، وشرط الاستقامة على السنة، وشرط الاجتهاد حتى يأذن الله سبحانه لمن يشاء بما يشاء، مع دوام الذكر والدعاء" [8].

يذكر ياسين في كل حين أن الشروط الثلاثة الأساسية في السلوك هي الصحبة والذكر والصدق، ويثبت "تلازمها وتساندها وبناء بعضها على بعض، وانتقاض بعضها بانتقاض بعض. ولا تجد دالا على الله من أهل التربية إلا ونظام هذه الشروط عنده قار، وإن تنوعت الفروع والتطبيقات. والصحبة هي الباب والمفتاح" .

فما سبب غياب هذا الشرط المفتاح في الفقه التربوي للإمام البنا؟ وكيف كان اجتهاد العلماء من تنظيمه من أجل استدراك هذا النقص؟ وهل الصحبة أصلا مدخل شرطي لتحقيق "الكمال" التربوي؟

تاريخ النشر: الجمعة 8 يناير2010
-------------------------------------------------------
[1] الإمام القشيري: الرسالة القشيرية. ص 210 ـ 211.
[2] حسن البنا: مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ـ رسالة التعاليم. ص 271
[3] صحيح مسلم. كتاب الإيمان. باب بيان عدد شعب الإيمان وأدناها وأفضلها.
[4] عبد السلام ياسين: المنهاج النبوي. ص 53.
[5] حسن البنا: مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ـ المأثورات. ص 342.
[6] عبد السلام ياسين: الإسلام غدا.ص 62.
[7] عبد السلام ياسين: المنهاج النبوي. ص 149.
[8] عبد السلام ياسين: الإحسان 2/441.

محبة العدل والإحسان
11-01-2010, 00:50
أكرمك الله أخي الفاضل وبارك الله بك

البطل
11-01-2010, 12:15
السلام عليكم شكرا صديقي العزيزجزاك الله بملايير الخيرات