مشاهدة النسخة كاملة : هام الخطاب الإسلامي في قبضة التاريخ



عادل محسن
10-02-2010, 23:14
الخطاب الإسلامي في قبضة التاريخ





هل يمكن عد التنظيمات السلفية القتالية من مكونات الحركة الإسلامية؟

شرعية هذا السؤال تنبع من أن التنظيم السلفي المتأثر بالعقيدة الوهابية كان مبتدأه الرفض لكل الأشكال التنظيمية للإسلاميين، بل عدها من البدع المنكرة، والضلالات العظمى التي ابتلي بها العالم الإسلامي، وكانت تلك ميزته الفضلى في نظر النظام العربي الذي كان يغض الطرف عن تشدد خطابه وفعاله تجاه مكونات المجتمع وعاداته، ما دام من أصوله الاعتقادية عدم مجابهة أو معارضة السلطة.

إن مبنى الخطاب السلفي الوهابي يقوم على الإرث الفقهي التاريخي الذي يُنظر إليه بقداسة تقارب النظر في القرآن الكريم، وتتم صياغة مفهوماته ومعاركه على مرتكز الثنائيات، وقد كان الشغل الشاغل لأبنائه هو تمييز التوحيد عن شبهات الشرك القولية والعملية.

إن المنطقة الرمادية لا وجود لها البتة في الفكر الوهابي، فمبناه الفقهي- الكلامي يدفعه إلى القول بأن: "التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما. فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس"، ومن هذا المبدأ هاجمت الدعوة الوهابية عادات المسلمين التي تراها كفرا وضلالا، فحاربت التبرك بالأولياء، وزيارة القبور، وأنكرت الشفاعة، والتوسل بالنبي r، وأنكرت تأويل القرآن الكريم وكفرت كل من يقول بذلك، وكانت حربها شعواء ضد الصوفية وكل مقولاتهم، كما كانت جمرة على التنظيمات الإسلامية التي عدتها ضالة من مناحي عدة:

أولاها: بناؤها على شاكلة التنظيم الحزبي في ديار الإفرنجة الكفار.

وثانيها: اعتمادها مقولات الغرب الكافرة من ديمقراطية وتعددية سياسية، وحقوق الإنسان...

وثالثها: أن تعددها التنظيمي يجعل من الأمة - المطلوب شرعا وحدتها - أحزابا وشيعا.

ورابعها: أنها تعلن عصيانها ومعارضتها لأولي الأمر، الواجب طاعتهم أبرارا كانوا أو فجارا.

ولعل النقطة الأخيرة هي الحسنة العظمى التي كان يراها لهم "أولو الأمر"، لذلك غضوا الطرف عن خطابهم وفعالهم في ذلك الحين، فالكل يعلم أن الوهابية مرتكزها الفقهي حنبلي، وأن الإمام ابن حنبل جعل من أصول السنة والاعتقاد في كتاب يتناقلونه قوله: "ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة، بأي وجه كان، بالرضى أو الغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله r، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق"2، وقد كان السلفيون الوهابيون يصمتون عن كل مظالم وبدع الحكام، بل يقفون إلى جانبهم ويفتون بأن أعداءهم إما صابئة أو خوارج أو غيرها من مصطلحات الفرق الكلامية في عهود غابرة، وبالمقابل يجدون أكبر دعم من السلطات الحاكمة. نقرأ شهادةً لأحد العارفين بدهاليز السلطة، والمعمرين في هرمها، قوله في الموضوع: "ونظن ظنا أن الداخلية المغربية كانت في عهد وزير الدولة في الداخلية ترعى الحركة الوهابية لأسباب جيوسياسية معينة من جهة؛ ولأسباب أخرى شخصية ترجع إلى العلاقة الحميمية التي كانت بين المسؤولين والتي فيها منافع ومصالح. وبسبب ذلك كان للوهابية في بلادنا من يرعاها في جميع أجهزة الدولة، لاسيما وأن بعض الناس كانوا يستفيدون من الضيافة الكريمة والهدايا لهم ولأسرهم في بعض دول الخليج"3.

بعد حرب الخليج الثانية وقع تحول مفصلي في تاريخ السلفية الوهابية أدى إلى انقسامها، فخرجت من رحمها "السلفية القتالية" التي رأت في دخول القوى الغربية أرض الحرمين لقتال قوة عربية موالاة للكفار، واستباحة لدماء المسلمين وديارهم ومقدساتهم، فحكموا بردة الحكام الممالئين للغرب، وأعلنوها حربا لا هوادة فيها على الصليبيين وأتباعهم.

ونحن أمام هذه الطبعة الجديدة من الفكر السلفي الوهابي القتالي نلحظ أنه ظل وفيا لمرتكز الثنائية في بنائه الفقهي/ الكلامي/ الجهادي، والتحول الذي حصل ارتكز أساسا في استبدال الثنائية التي كانت سائدة في الفقه السلفي التقليدي التي كانت قائمة على ثنائية السنة والبدعة، وأصبح بدلها القول بثنائية فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان. ولا يغيب عن ذهن القارئ أن الثنائية الأولى كانت تهم مجتمع المسلمين، وأن السلفية كانت تصرف خطابها بأشكال وألوان من العنف الفقهي واللفظي، وأحيانا بشكل مادي، لكن بما أن عنفها كان منصبا فقط على مكونات المجتمع، بحيث لا يطال الدولة ومؤسساتها فقد كان يُغض الطرف عليه، بل كان يجد التشجيع والمساندة، لكن بعد أن أصبحت ثنائية السنة والبدعة مقولة ثانوية أمام ثنائية الكفر والإيمان المستهدف فيها الغرب وكل من يرتبط به، وبعد أن تحول العنف اللفظي إلى سيرة قتالية تبتغي امتلاك شتى أنواع الأسلحة والمتفجرات لإرهاب الدولة ومؤسساتها، فقد أصبحت السلفية الوهابية أجمعها متهمة لأن بناءها الفقهي شكل البساط والغطاء والمحضن لسلفية قتالية أصبحت من العناوين الكبرى في معادلة السلم والحرب العالميين، وظل الحكام العرب مشدوهين: كيف خرجت من رحم الوهابيةِ القاعدةِ "قاعدةُ" وهابية!

لقد تحول الخطاب الوهابي مع تنظيماته القتالية من البحث في الذات والصفات، ومفردات التوحيد، ومقولات التوسل والتبرك، وصرع الجن والسحرة، وبيع أعواد الند وحبة البركة... إلى الحديث عن الصليبية واحتلالها ديار المسلمين في الأندلس والعراق وفلسطين.. وتبعية الحكام المرتدين، وعقيدة الولاء والبراء، وعن الأسلحة وأنواعها، وكيفية صناعة المتفجرات بمواد تقليدية، وكيفية زراعة الكمائن لعساكر السلطة... لقد تحولت "السلفية المقاتلة" إلى مفردة كبيرة من مفردات الموت. ولعل ذلك ما يفسر استبدال تنظيماتها مصطلح" الجهاد" بمصطلح "القتال" في تسمياتها لمنح دقة أكبر لتفسيرهم لمعنى الجهاد، لذلك تتم الإشارة إلى التنظيم بأنه "جماعة مقاتلة" أو يجمع بين "الدعوة والقتال".
لقد تحولت السلفية من رفضها للأشكال التنظيمة للحركة الإسلامية إلى محاولة بناء تنظيم عالمي إمارته في أفغانستان، ومع ظني أنها تملك اليوم مقومات التنظيم الإسلامي فإنها تظل بعيدة عن المفردات التي صاغت وميزت خطاب الحركة الإسلامية التي ما كان قيامها ابتداء إلا رحمة بالناس، وقبل صناعة الموت في ساحات الجهاد حيث تكون المقاومة مشروعة بنصوص الوحي والقوانين الوضعية، فإنها تسعى إلى صناعة الحياة في ديار المسلمين بإعلانها أن حربها ضد الاستبداد الخانق للحرية والدعوة، وأن استعمال المفردات العقدية في الخلافات السياسية له أوخم العواقب على الأمة؛ إذ يزرع فيها بذور فتن لا تهدأ إلا لتشتعل بشكل أقوى، كما أن التغيير لا يعني رفع السلاح إلى ما لا نهاية، بل بالمشاركة السياسية* ورفع أهداف قابلة للتحقيق عبر مراحل، وبالمشاركة بفعالية في مؤسسات المجتمع، والقبول بالآخر، وهي مفردات لا تجدها في معجم السلفية القتالية حتى هذا الحين.



خالد العسري
2010/02/09