راجي عفو العفو
21-03-2010, 08:52
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
"الأخفياء" ... من أعجب ما رأيت !!!
محاضرة للشيخ إبراهيم الدويش حفظه الله آمين
الأخفياء
من هو هذا العبد الخفي؟! ومن هم الأخفياء؟! إنهم أولئك الذين عرفوا ربهم، فأحبوه وأحبهم .. إنهم الأنقياء الأتقياء .. إنهم الجنود المجهولون .. الناصحون العاملون .. إنهم الراكعون الساجدون في الخلوات .. إنهم الذين يسعون في ظلمة الليل ليتمسسوا أحوال الضعفاء المساكين، والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال .. إنهم أولئك الذين لا يعرف الناس أعمالهم، ولكن الله يعرفهم وكفى بالله شهيداً.
حقيقة الأخفياء
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وهذه ليلة الإثنين (23/10/ 1414هـ) وعنوان هذا اللقاء: (الأخفياء). ولقد كنت قد تأملت ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد قوله: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (الخفي)، فما زالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود، من هو هذا العبد الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى؟! فقلت: لربما أنهم الذين عرفوا ربهم، وعرفهم سبحانه وتعالى، فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيراً لهم. وقلت: ولربما أنهم الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم؛ إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور، وهجمات الرياء، وطلب الثناء والمحمدة من الناس. وقلت: فلربما أنهم هم الجنود المجهولون، الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة، فكم من ناصح.. ومن مرب.. وداع للحق لا يعرف، وكلمة.. ورسالة.. وشريط طار في كل مطار، فسارت به الركبان، كان خلفه أخفياء وأخفياء، فهنيئا لهم! وقلت: فلربما أنهم أيضاً هم الساجدون الراكعون في الخلوات، فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء، وكم من دمعة بللت الأرض، وبهذه الدمعات وهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا، ورزقنا وسقانا ربنا. وقلت: فلربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل، ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال؛ ليفكوا بها كربة مكروب، وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شريدة الحال كثيرة العيال. وقلت: فلربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس، أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعرفهم، وكفى بالله شهيداً.. فهنيئاً لهم. ثم قلت: وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعاً، وأن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء؟! ولذلك ترددت كثيراً في الحديث عن هذا الموضوع، فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم، وأستغفر الله جل وعلا، ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا، وقد قالها عبد الله بن المبارك :
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد!!
رحمك الله يا بن المبارك عندما قلت هذا البيت تعني به نفسك، فماذا نقول إذاً نحن عن أنفسنا؟! ورحم الله القائل:
أحب الصالحين ولست منهم *** وأرجو أن أنال بهم شفاعه
وأكره من سجيته المعاصي *** وإن كنا سواء في البضاعه
سبب الحديث عن الأخفياء
أولاً: الأسوة والاقتداء بالأخفياء
كان الحديث عن الأخفياء؛ لأنني ولربما لأنك أيضاً نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة .. فأسأل وتتساءل معي: ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟! والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر، فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله. يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب.. أما اليوم؛ فتعال وانظر لحالنا -يا أخي الكريم- كأفراد، فقلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربما كانت طلباً للاشتهار. همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات، وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، إلا من رحم الله منا. وانظر لحالنا كأمة .. ذل ومهانة وهوان واحتقار، ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلاً قريباً: في شهر رمضان؛ ثلاث مذابح للمسلمين، مذبحة السوق في سراييفو، ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ، ومذبحة في السودان! أكان يكون ذلك -يا أخي الحبيب- لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟! أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى: لا والله، لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعـهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
إذاً.. فالسر في حياة أولئك هو: التوحيد لله. وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول: لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي ؛ يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم.
ثانياً: لأهمية الإخلاص وخطر الرياء
ثم أيضاً سبب آخر ومهم جداً للحديث عن الأخفياء -فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة-: إن فقدت الأعمال والأقوال -أياً كان نوعها- خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله. ألم تسمع! لذلك الحديث المفزع للقلوب؛ الذي كلما أراد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لأصحابه وقع مغشياً عليه، يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع لهول ذلك الحديث المفزع: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله)! أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله. وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: [قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بعدهم، أو فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً، يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك!] انظروا صحابة رسول الله يخشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟! يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال: [صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]. لأنهم فعلوا ذلك ليقال: قارئ! وليقال: متصدق! وليقال: جريء! ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء والتسميع، بأن يقول فلان: سمعت وعلمت وسألت وجئت وذهبت؛ مسمعاً للناس بأفعاله عياذاً بالله. فالتزم رعاك الله! التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور، أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة، أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متى شابت النية. ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المقسطين، جعلني الله وإياك منهم. لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء، ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء، ولإقبال الناس عموماً على العبادات، وحرصهم على الخيرات -والحمد لله- مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال والعبادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون، وكان لزاماً أن نتحدث في مثل هذا الموضوع. وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس، لذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيراً وتنبيهاً وتحذيراً لشدة الحاجة إليه.
يُتبع بإذن الله عزوجل
ولمن فضل الاستماع للمحاضرة فهي متواجدة في موقع إسلام ويب كاملة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
"الأخفياء" ... من أعجب ما رأيت !!!
محاضرة للشيخ إبراهيم الدويش حفظه الله آمين
الأخفياء
من هو هذا العبد الخفي؟! ومن هم الأخفياء؟! إنهم أولئك الذين عرفوا ربهم، فأحبوه وأحبهم .. إنهم الأنقياء الأتقياء .. إنهم الجنود المجهولون .. الناصحون العاملون .. إنهم الراكعون الساجدون في الخلوات .. إنهم الذين يسعون في ظلمة الليل ليتمسسوا أحوال الضعفاء المساكين، والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال .. إنهم أولئك الذين لا يعرف الناس أعمالهم، ولكن الله يعرفهم وكفى بالله شهيداً.
حقيقة الأخفياء
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وهذه ليلة الإثنين (23/10/ 1414هـ) وعنوان هذا اللقاء: (الأخفياء). ولقد كنت قد تأملت ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد قوله: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (الخفي)، فما زالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود، من هو هذا العبد الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى؟! فقلت: لربما أنهم الذين عرفوا ربهم، وعرفهم سبحانه وتعالى، فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيراً لهم. وقلت: ولربما أنهم الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم؛ إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور، وهجمات الرياء، وطلب الثناء والمحمدة من الناس. وقلت: فلربما أنهم هم الجنود المجهولون، الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة، فكم من ناصح.. ومن مرب.. وداع للحق لا يعرف، وكلمة.. ورسالة.. وشريط طار في كل مطار، فسارت به الركبان، كان خلفه أخفياء وأخفياء، فهنيئا لهم! وقلت: فلربما أنهم أيضاً هم الساجدون الراكعون في الخلوات، فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء، وكم من دمعة بللت الأرض، وبهذه الدمعات وهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا، ورزقنا وسقانا ربنا. وقلت: فلربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل، ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال؛ ليفكوا بها كربة مكروب، وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شريدة الحال كثيرة العيال. وقلت: فلربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس، أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعرفهم، وكفى بالله شهيداً.. فهنيئاً لهم. ثم قلت: وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعاً، وأن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء؟! ولذلك ترددت كثيراً في الحديث عن هذا الموضوع، فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم، وأستغفر الله جل وعلا، ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا، وقد قالها عبد الله بن المبارك :
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد!!
رحمك الله يا بن المبارك عندما قلت هذا البيت تعني به نفسك، فماذا نقول إذاً نحن عن أنفسنا؟! ورحم الله القائل:
أحب الصالحين ولست منهم *** وأرجو أن أنال بهم شفاعه
وأكره من سجيته المعاصي *** وإن كنا سواء في البضاعه
سبب الحديث عن الأخفياء
أولاً: الأسوة والاقتداء بالأخفياء
كان الحديث عن الأخفياء؛ لأنني ولربما لأنك أيضاً نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة .. فأسأل وتتساءل معي: ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟! والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر، فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله. يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب.. أما اليوم؛ فتعال وانظر لحالنا -يا أخي الكريم- كأفراد، فقلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربما كانت طلباً للاشتهار. همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات، وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، إلا من رحم الله منا. وانظر لحالنا كأمة .. ذل ومهانة وهوان واحتقار، ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلاً قريباً: في شهر رمضان؛ ثلاث مذابح للمسلمين، مذبحة السوق في سراييفو، ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ، ومذبحة في السودان! أكان يكون ذلك -يا أخي الحبيب- لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟! أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى: لا والله، لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعـهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
إذاً.. فالسر في حياة أولئك هو: التوحيد لله. وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول: لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي ؛ يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم.
ثانياً: لأهمية الإخلاص وخطر الرياء
ثم أيضاً سبب آخر ومهم جداً للحديث عن الأخفياء -فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة-: إن فقدت الأعمال والأقوال -أياً كان نوعها- خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله. ألم تسمع! لذلك الحديث المفزع للقلوب؛ الذي كلما أراد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لأصحابه وقع مغشياً عليه، يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع لهول ذلك الحديث المفزع: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله)! أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله. وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: [قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بعدهم، أو فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً، يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك!] انظروا صحابة رسول الله يخشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟! يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال: [صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]. لأنهم فعلوا ذلك ليقال: قارئ! وليقال: متصدق! وليقال: جريء! ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء والتسميع، بأن يقول فلان: سمعت وعلمت وسألت وجئت وذهبت؛ مسمعاً للناس بأفعاله عياذاً بالله. فالتزم رعاك الله! التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور، أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة، أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متى شابت النية. ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المقسطين، جعلني الله وإياك منهم. لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء، ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء، ولإقبال الناس عموماً على العبادات، وحرصهم على الخيرات -والحمد لله- مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال والعبادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون، وكان لزاماً أن نتحدث في مثل هذا الموضوع. وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس، لذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيراً وتنبيهاً وتحذيراً لشدة الحاجة إليه.
يُتبع بإذن الله عزوجل
ولمن فضل الاستماع للمحاضرة فهي متواجدة في موقع إسلام ويب كاملة