مشاهدة النسخة كاملة : خبر جديد تأسيس علاقة جديدة بين الحاكم والعالم



عادل محسن
24-08-2010, 02:16
الدكتور زقاقي: يتعين تأسيس علاقة جديدة بين الحاكم والعالم

http://www.hespress.com/_img/drzakaki_.jpg

حاوره: نور الدين لشهب
2010/08/23

يتحدث الدكتور أحمد زقاقي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن تدبير آلية الاختلاف بين المسلمين وعن علاقة العلماء بالسلطة وكذلك عن قضية الفتوى وما يعتريها من فوضى وتخبط وتسيب ...وأشياء أخرى تكتشفونها عبر الحوار التالي.

سؤال :أولا دكتور ما الذي يعنيه لك رمضان؟

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه ومن اتبع هداه،أبارك أولا للمسلمين قاطبة حلول الشهر الفضيل،شهر القرآن والمسارعة إلى الخيرات،شهر التصافي والمودة والرحمة،ما أحوج الإنسانية لاستلهام أحكامه وحكمه،ففيه تسمو الروح وتتطهر،الروح هذا الجسم اللطيف المشترك بين الناس،والكل مدعو إلى الاحتفال به والتفكر فيه،لأنه يصلنا بعالم المعنى،لنتحرر من رق الأشياء والنفس الحريصة على أن تجمع حولها ما ليس له معنى،وفي المحصلة يصير الإنسان نفسه بلا معنى، رمضان مناسبة لمحاسبة ذواتنا فرادى وجماعات،ومناسبة ليستكشف العالم والمقلد والسياسي والحاكم والمحكوم والإسلامي والعلماني واليساري والأمازيغي والسني والشيعي أخطاءه وخطاياه فيتجاوزها،ومناسبة لتدبير اختلافاتنا بالرحمة القلبية والرفق النبوي،وتوسيع دائرة الصداقات واضعين نصب أعيننا قول الباري جل وعلا:"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" كم سيدي فقدنا من أصدقاء نتيجة ردود الفعل الغاضبة،وكم كنا سنكسب من مواقف ومواقع في العالم لو أحسنا الدفع بالتي هي أحسن.بكلمة القطع مع العنف بجميع أشكاله وصوره المؤسسة على الجهل.

سؤال : حديثك عن الصداقات والعداوات وتدبير الاختلاف واللاعنف يصلنا بمسألة فكرية فلسفية وهي مسألة المطلق والنسبي في هذا العالم؟

نعم إن الحديث عن وجوب التحلي بالصبر وسعة الصدر في تدبير الاختلاف يجب ألا يسقطنا في نسبية متطرفة لا ترى الحق مع أي كان،الحق بميزان الشرع والعقل والطبع،وسنبحث يوما ما عما يمكن أن ندافع عنه فلا نجد شيئا،إلا رأسا محشوا بخليط من الثقافات والأفكار والتصورات ينتج عنها حتما تخبط في الحركة والسلوك،ودونك العشرات من "النماذج" البشرية التي تغير مواقفها ومواقعها بمائة وثمانين درجة بين عشية وضحاها،ولعل الحديث النبوي يشير من طرف خفي إلى هذه النماذج عندما نبه على أنه سيأتي زمان "يصبح فيه الرجل مومنا ثم يمسي كافرا".

والحقيقة أنه في تاريخنا وقع تطرف في كلا الجانبين،فالذين لم يروا في العالم إلا المطلق حجبوا عن حقائق التاريخ والجغرافيا والواقع،وكانوا من أشد الناس على المخالفين،تبديعا وتكفيرا وتقتيلا،ورواد هذه "المدرسة" هم الخوارج الذين تكدست عندهم النقول،ولم يوتوا فهما فيها،وقتلوا الخليفة الشرعي،ولهم في واقعنا رواسب في ميادين العلم الشرعي ،فيحتفلون بالأشكال والمظاهر،ويجمدون على حرفية الأقوال والأفعال،إلا أنهم يفترقون عن الخوارج التاريخيين ،لأن هؤلاء لم يكونوا يخافون حاكما ،أما أولئك فصاروا أبواقا له.أما الذين لا يرون في العالم إلا النسبي فكانوا من أشد الناس استهانة واستهزاء بالأحكام الشرعية والأعراف الاجتماعية والقيم الأخلاقية،وإن عثرت على بعض اعتبار عندهم لذلك فبدوافع نفعية براجماتية اقتصادية أو سياسية،ودونك الأمثلة من دعاة الإفطار جهارا نهارا في رمضان أو ممارسة المثلية الجنسية وغير ذلك.

إن تمة حقيقة لا نتحرج من الاعتراف بها وهي أن رصيد مسلمينا المعاصرين من آليات تدبير الاختلاف أوفر من رصيد من سبقونا،رصيد يمتح من الحكمة الشرعية قرآنا وسنة ومن الحكمة البشرية التي يجب أن ننفتح عليها ونعلمها ونتعلمها.

سؤال : مادمتم تكلمتم عن العلم الشرعي ألا ترون أن تمة تطورا طرأ على هذا العلم،بحيث كاد أن يتوقف الاجتهاد فيه في فترة من فترات التاريخ الإسلامي،بينما تطورت العلوم الإنسانية وتوسعت مجالات اهتماماتها،هل لنا أن نعرف أسباب هذا التطور؟

أولا يجب أن نحرر مجالات اشتغال العلم،فنقول هو علم يآيات الله في الأنفس والآفاق،فأعلم وتعلم أنت أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها،والمعرفة تنتقل بالسند والتلقين،بواسطة أشخاص/نماذج يتمثلون الفكرة ليكونوا أقدر على توصيلها،في تاريخ البشرية مثل الأنبياء بحق وعن جدارة واستحقاق وبتكليف إلهي تلك النماذج الهادية،التي لم تكن منقطعة عن الشعب والناس،ولم تجعل من نفسها نخبة منعزلة في أبراجها العاجية،وكان كل واحد منها ذا قلب مع الله،ويد تعمل في البيئة الملوثة تصلحها،وهكذا تصدى موسى عليه السلام للاستبداد والتأله السياسي فوقف في وجه وفرعون وحليفه الاقتصادي قارون،وتصدى قبله لوط عليه السلام للتفسخ الأخلاقي والمثلية الجنسية،وتصدى شعيب للفساد الاقتصادي وتطفيف المكيال والميزان،ورد عليه مخالفوه برد فحواه:ما شأن دينك بانتقاد أوضاعنا الاقتصادية،وحكى الرحمان قولهم فقال:"قالوا ياشعيب أصلواتك تامرك أن نترك ما يعبد آباِؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء" أي اتركنا ولبراليتنا المتوحشة ،وجميع الأنبياء كانوا يرمون إلى تعبيد الناس لرب العالمين وحده،وإزالة الطواغيت التي تحول دون ذلك سواء كانت في عالم الضمير أم في عالم الواقع، بعد الأنبياء من خلفهم في مهمة التمثل والبيان والتبليغ؟،طبعا العلماء،والحديث واضح في هذا الباب "العلماء ورثة الأنبياء" ،وهؤلاء أيضا مدعوون إلى الالتحام بقضايا الناس كالأنبياء تماما، وعدم إقامة أي اعتبار لأي شيء آخر غير تبليغ الشريعة وحقائق الإيمان بإخلاص وصفاء ونقاء،وتعليمها للناس،من منطلق الواجب لا بمنطق الأستاذية والشفوف على الأقران.وهم المسؤولون عن حماية الدين من التزييف والتحريف تكليفا شرعيا بمقتضى الحديث الشريف:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين،وتأويل الجاهلين،وانتحال المبطلين".ولا شك أن العلم الشرعي كثيرا ما واجه أخطار الحَرفية والتحريف والانحراف.

أما العلوم الإنسانية وبالرجوع إلى التطور الفكري الغربي سنتبين أن ذلك التطور كان محكوما بالإجابة عن إشكالية مثلتها ثنائية الله/الإنسان،فالكنيسة لم تقم وزنا للإنسان،واستغلته باسم الدين،بتحالف وثيق مع الملوك المستبدين،وشأن الاستبداد في كل زمان ومكان أن يبحث له عن المشروعية الدينية،فضاق الناس ونخبتهم المفكرة ذرعا بسياسات الكنيسة فأعملوا التفكير في طرق الخلاص وأوصلهم التفكير إلى ثورات على الكنيسة رفعت شعار"اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، وإذا كانت الكنيسة قد عادت العلم وتطرفت في تهميش مطالب الإنسان المادية ،تطرفت الثوراتهي الأخرى، فلم تقم وزنا لمطالب الإنسان الروحية،فأعلنت فلسفات موتَ الإله، وكان محور التفكير العقلي والعلمي هو الإنسان فظهرت العلوم الإنسانية التي تحتوي على درر نفيسة من الحكمة البشرية،في تاريخنا الإسلامي،في صدر الإسلام والخلافة الراشدة كانت النظرة متكاملة للإنسان،أرسى الإسلام حقوقا للإنسان تلبي مطالبه الروحية والمادية،بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة وفي أكثر فترات التاريخ الإسلامي انصب الاهتمام على إنسان محدد هو الحاكم وهكذا ظهرت مقولات" السلطان ظل الله في الأرض" وغيرها،وحاول علم المقاصد أن يقيم هذا الاعوجاج فأدار البحث والنقاش حول مصالح المكلف،وتحدث العز بن عبد السلام "بائع الملوك" عن مصالح الأنام.

سؤال : بهذا المعنى ترى أن السلطة شكلت على مدار التاريخ تحديا للعلماء أعاقهم في كثير من الأحيان عن القيام بما أنيطوا به من مهام ووظائف؟

نعم،وهذا يدفعنا إلى إثارة إشكالية أخرى هي علاقة العلماء بالسلطة،ويمكن أن نتبين طبيعة هذه العلاقة منذ الأيام الأولى للإسلام،ففي البداية كان النبي – عليه الصلاة والسلام- مؤيدا بالوحي ،وكان له مطلق التصرف إما بالإمامة أو بالقضاء وفض الخصومات أو بالتبليغ عن ربه عز وجل وللإمام القرافي المالكي في "فروقه" تفصيل جيد في وجوه هذه التصرفات،كما كان يقوم بمهام التربية التي تخرج علماء الصحابة،وكان كل واحد منهم يتميز باجتهاده الخاص وشخصيته المستقلة في إطار الاحترام الواجب لإخوة الدين،ولم يجعل منهم نماذج"منمطة" ولا نسخا مكررة،ولا كان يُقصر الفتوى على شخصه وهو نبي،بل يرسل معاذ بن جبل إلى اليمن ويمنحه كامل الحرية للاجتهاد إذا أعوزه الدليل الشرعي من كتاب أو سنة،وهكذا استمر أمر العلماء بفقه للواقع ودراية للواجب في الواقع، ونور يمشون به في الناس،وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في الحكم علماء مجتهدون كبار من الصحابة تصدوا لمهمة الحكم، فأضفت عليهم الأمة صفة الرشد فسموا خلفاء راشدين لأنهم أولا لم يصادروا حق الأمة في اختيار وانتخاب من يسوسها،ولم يحتوشوا الأموال ولم يراكموا ترواث أو ينفردوا بامتيازات تجارية دون باقي الناس،ولم يكونوا بمنأى عن النصح والانتقاد والتوجيه،بل كانوا هم الساعين إلى ترسيخ تقاليد لمشاركة الناس في الشأن العام،وإلا ما معنى قول أحدهم:" إذا أحسنت فأعينوني،وإذا أسأت فقوموني" ،ولم تكن خطاباتهم مقدسة بل كانت موضع نقاشات وتعليقات عمومية ،ألم تنهض امرأة لأحدهم من آخر الصف لتعترض على عزمه تحديد الصداق،وخلد التاريخ إذعانه للحق فقال"أخطأ عمر وأصابت امرأة" فكان عملاقا بحق حتى في خطئه،وكانوا يحسنون التعامل مع المعارضات،ويتقنون تدبير الاختلاف،فعلي الإمام – كرم الله وجهه- إزاء معارضة كفرته ضمن لها حرية التعبير ما لم تحمل السلاح،وضمن لها الرزق والمعاش ولم يصادر أموالها،ولم يحرمها من ارتياد مساجد الله،ولما سإل عن تكفيرها قال :"من الكفر فروا" يعني الخوارج،ثم حدثت بعدُ أعظم بدعة في التاريخ السياسي الإسلامي ألا وهي بدعة توريث الحكم،بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة،وغدا الحاكم يقول للناس:أيها الناس لا يوجد من بينكم من هو جدير بالحكم إلا ابني أو أخي أو ابن عشيرتي،فكانت ردة سياسية تستوجب المواجهة بدون تردد،كما واجه أبو بكر رضي الله عنه الردة العقدية،وتكثفت الضغوط المادية والمعنوية على العلماء ليعطوا بيمينهم رغبة أو رهبة بيعة قسرية إكراهية للمتغلبين من الحكام،وتضخمت فنون القول في فروع الأحكام وضمرت في الفقه السياسي والدستوري وحقوق العباد،وأصبح الدين في خدمة الدولة وليس العكس،وإذا نهض العلماء للمطالبة باسترجاع وضعيتهم الاعتبارية منذ ذلك الحين إلى اليوم مستدلين بحديث"العلماء ورثة الأنبياء" عارضهم السلطان مستدلا هو الآخر بأثر "إن الله يزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان" ،ومتذرعا بضرورات الحفاظ على الأمن العام،

سؤال : كأنك تنادي باعتزال العلماء للسلطة أليست هذه نظرة عدمية،إذ استجدت تطورات وشيدت مؤسسات من خلالها أصبح العلماء يؤدون أدوارا مهمة لا سيما بعد إقرار خطة إعادة هيكلة الشأن الديني بالمغرب مثلا ؟

تكون النظرة عدمية إذا نحن غضضنا الطرف عن الثروة الفقهية والعلمية التي خلفها لنا العلماء والفقهاء والصلحاء والربانيون من هذه الأمة في العربية وعلوم اللغة وأصول الفقه ومقاصد الشريعة وعلوم الحديث وعلوم القرآن وعلوم السلوك والتربية والسياسة الشرعية والفلسفة،والعلوم الكونية،باجتهاد استجمعوا شروطه وعلوم آلاته،نعم في بعض المحطات التاريخية بدا أن بعض الاجتهادات العلمية التي أسست لعلوم شرعية وإنسانية دقيقة كانت يتيمة لم يكن لها سابق ولا لاحق في نضجها وعمقها كموافقات الشاطبي في المقاصد ومقدمة ابن خلدون في فلسفة التاريخ وسننه،هذا فضلا عن نظريات العلماء العلمية التي ظلت حبيسة الطروس والدفاتر وحولها الغرب إلى تقنيات كما حول شورانا إلى مؤسسات.

أما موقع العلماء في خطة الشأن الديني بالمغرب فيبدو أنه موقع هامشي،بالنظر إلى النيات التي تريد عزلهم عن القضايا الكبرى للوطن،ولا يراد منهم إلا شيء واحد هو الوفاء "لعقيدة" البيعة،في بداية الخطة وتوسيع المجالس العلمية صدر لها توجيه يحذرها من أن تصير جزرا معزولة عن العلماء الآخرين الموجودين خارجها،فضُرب عن عمد بهذا التوجيه عُرض الحائط،وأصبحت المؤسسات الدينية بالفعل جزرا معزولة عن العلماء خارجها،وأشبه ما تكون بإكليروس ديني يريد أن يحتكر تأويل الدين والنطق باسم الله،في مسعى أحادي الجانب "لتدبير الكلام في الدين"،ثم ما الذي بقي للعلماء فعله بعد خروج البرلمان منتصرا في معركة تنازع التشريع بينه وبين العلماء هؤلاء الذين لم تعطهم حتى صلاحية مراقبة القوانين والتشريعات كي لا تصطدم بالشريعة.

إننا سيدي في واقع يجوز لنا أن نقول إن العالم يعيش فيه تحديات ثلاث :تحدي النفس ،وتحدي السلطان،وتحدي الشيطان،نعم تمة رأي وجيه يقول أنه لما انسحب الطيبون والشرفاء والحكماء من الشأن العام فسح المجال لذوي النيات السيئة والمفسدين والمتملقين والمتسلقين ولصوص المال العام،لهذا يتعين تأسيس العلاقة بين الحاكم والعالم على أسس جديدة وتسييجها بضوابط دستورية تضمن أولا استقلال مؤسسة العلماء حتى لا تحسب اجتهاداتهم ولا مواقفهم على أية جهة من الجهات،وتشرك ثانيا أهل الخبرة في العلوم الدقيقة والمعاصرة في اجتهاد جماعي،ويستعان ثالثا بما تقدمه العلوم الإنسانية في مجالات تشخيص الظواهر الاجتماعية والإحصاءات والدراسات النفسية.

سؤال : ما تفضلت به من حديث عن إشراك ذوي الخبرة في الاجتهاد يجرنا إلى الحديث عن قضية الفتوى،ربما لاحظتم ما أصبح يعتريها من فوضى وتخبط وتسيب،وما أثارته من نقاشات وجدالات بين مختلف الهيئات السياسية وبعض أطراف الحركة الإسلامية على أعمدة الصحف والمجلات،وتعقدت الأمور بالتوظيف السياسي،كيف يمكن معالجة الفتوى في واقعنا؟

كما تعلم الفتوى هي بيان الحكم الشرعي في نازلة تهم مناحي الحياة الخاصة أوالعامة للناس،وعندما نقول بيان الحكم الشرعي،فيلزم بداهة الإحاطة بالشرع وأدلته ومصادره،والفقه الدقيق للواقع وطبائع النفوس البشرية،وحتى طبائع العمران البشري على حد عبارة ابن خلدون رحمه الله،والأهم من ذلك النظرة الكلية للأمور حيث ترتبط الدنيا بالآخرة ،والدين بالسياسة،والدعوة بالدولة،والخلاص الفردي بالخلاص الجماعي،والرحمة بالحكمة،والرفق بالمدافعة القوية(لا العنيفة) والسلمية.نعم قد تبدو الشروط التي اشترطها العلماء في المنتصب للفتوى قاسية فإنها في الحقيقة كانت ترمي إلى تأمين التعامل مع النص، واجتناب التسيب في الفتوى،وتعكس المستوى العلمي العالي الذي بلغوه،ومرات عديدة تابعت فيها برامج الإفتاء المباشر عبر الفضائيات لم يحدث أبدا أن أرجأ مفت من المفتين الإجابة عن سؤال إلى الحلقة اللاحقة ،وإن حدث فليس للتبين ولكن لضيق وقت البرنامج.والأدهى أن تُقدم الفتاوى تحت الطلب ،وتستخدم وقودا للصراعات والحروب السياسية،والكل يتذكر فتوى الفولاذي أي الفتوى التي أجاز فيها بعض"العلماء" لمصر بناء الجدار الفولاذي بينها وبين قطاع غزة المحاصر،ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تاكل من خشاش الأرض،فكيف بآلاف من البشر يمنعون من ضروريات الحياة،إنه الفهم المنتكس،والفقه المنحبس،والقلب المتجرد من المشاعر الإنسانية لقاء عرض زائل وقليل من الحياة الدنيا،ثم أخيرا ما تلاحظه سيدي من تسيب في الفتوى هو في أغلبه انعكاس للتجزئة السياسية المعاصرة ،وانعدام التدبير الحسن للاختلاف،باختصار يجب إحاطة الفتوى بعدة ضوابط: ضابط ذاتي:أي التعويل قبل كل شيء على أهلية من يتصدى للفتوى:ورعه وحظه من الله وحظه من العلم وحظه من المعرفة بالواقع وطبائع الناس وقدر عقولهم.وضابط تاريخي:وذلك بمعرفة التغير الذي طرأ على الحكم وجر معه التغيرات التي طرأت على مجالات اشتغال العلم أي ما أشرتُ إليه سابقا من تضخم المقالة في الشأن العبادي وضمورها في الفقه السياسي،وعدم الخضوع للفتاوى المظروفة بظروفها ،أو المحررة تحت الطلب.وضابط علمي:بتحصيل النظرة الكلية والفقه الجامع ،بين النصوص وأدوات الفهم والتأويل والتحليل والاستقراء.وضابط تنظيمي: بضمان استقلال مؤسسة العلماء عن الدولة.وضابط منهجي: أي القيام باجتهاد جماعي والتأكد من أهلية الاجتهاد أو الإفتاء بوسائل التقييم الصارم .

سؤال : هناك دكتور موضوع يستأثر بالاهتمام البالغ سواء من قبل رجال السيف أو من قبل رجال القلم،وله جذور في الشرع والتاريخ،وهو موضوع التصوف،وإزاء العودة القوية للاهتمام به،هناك من يتحدث عن توظيف له في الصراع السياسي أو ما شابه،كيف تنظرون إلى هذه القضية؟

لا بد بداية من الإشارة إلى أنه في تاريخنا استحدثت عدة مصطلحات شكلت متاريس مفهومية حالت دون النفاد إلى حقيقة ولب كثير من العلوم،وهذا ما سماه البعض بجناية المصطلحات،ومنها مصطلح التصوف،وأنت تعرف أن الخلاف التاريخي الذي استحكم بين الفقهاء والمتصوفة من أهم أسبابه "جناية المصطلحات" وهو ما أكده الإمام السيوطي رحمه بقوله:"واعلم أن دقائق علم التصوف لو عرضت معانيها على الفقهاء بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان،وكانوا أول قائل بها،وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها"،هذا بالإضافة إلى جناية أخرى خطيرة وهي جناية "التعميم" أي مؤاخدة الكثرة بجرائر القلة،والغفلة عما يوجد عند المخالفين من حق يقتضي الإنصافُ الاعترافَ به لتحقيق التواصل بين مختلف طوائف ومذاهب وفرق وأحزاب الأمة،ونتيجة لآفة "التعميم" حدث أن كُفر أهل السنة جميعُهم لأن من بينهم نواصب ومنحرفين عن أهل البيت،وكُفر الشيعة جميعهم لأن من بينهم روافض يسبون الصحابة،وكفر المتصوفة جميعهم لأن من بينهم الممخرقين وأصحاب الشطحات والقائلين بالتعطيل،وكفر اليساريون كلهم لأن من بينهم ملحدين،والأمازيغيون كلهم لأن من بينهم من يعادي الإسلام وينادي برحيل العرب،والغرب لا يرى فيه البعض إلا أبيض أو أسود ولا مكان للمناطق الرمادية التي أثبتت وجودها حركة المتضامنين الدوليين مع الفلسطينيين ،متضامنون ذوي النفوس الإنسانية الرحيمة من كبار المثقفين والسياسيين والمفكرين والجمعيات غير الحكومية،وهكذا دواليك، ولهذا فالتصوف الحقيقي ليس شيئا آخر غير مجاهدة النفس للترقي في مدارج الإيمان والوصول إلى مرتبة الإحسان التي قال عنها رسول الله صلى عليه وسلم :"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"،فيصير المرء يقيس أعماله ويقيمها بالمليمتر والسنتمتر،وتتولد لديه حساسية في الضمير وشفافية في الشعور،إلا أن تطورا خطيرا وقع آل بمعاني الإحسان والتطهر والتزكية إلى نوع من "تصوف الرسم" كما سماه ابن تيمية،ويقصد بصوفية الرسم المتشبهين والمتبركين والمنتسبين بالآداب واللباس والزي فقط،وهذا هو التصوف الذي تريد الكثير من الدول الإسلامية ومنها المغرب نشره والترويج له،أي التصوف التبركي المنعزل عن الاهتمام بالشأن العام للناس،والمزكي بإطلاق لسياسات الحاكمين وإن خالفت الشريعة والحقيقة،وهو تصوف أوصى كذلك معهد"راند" الأمريكي في أحد تقاريره بإشاعته ودعم طُرقه في إطار الحرب على الإرهاب وقطع الطريق على حركات الإحياء الإسلامي الجادة.

سؤال أخير :بوصفكم أحد أعضاء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين،راجت أخبار مؤخرا عن خلافات بين مسيري الاتحاد من جهة ،وبين الاتجاهات السلفية والشيعة من جهة ثانية ما حقيقة ما جرى في اجتماع الجمعية الثالثة للاتحاد؟

الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كما تعلم حديث النشأة والتأسيس،وهو إلى الآن ما زال يبلور خططه الاستراتيجية للعمل مسترشدا بحكمة وحنكة رئيسه فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله،وبمشاركة جميع أعضائه،والاختلاف طبيعي أن يكون في مؤسسة عالمية تضم علماء ذوي مشارب ومذاهب مختلفة،والخلاف بين الشيعة والسنة يوجد داخل الاتحاد كما يوجد خارجه،وله امتدادات في الزمان والمكان،وأسباب ومظاهر ليس هذا مقام التفصيل فيها،وفي رأيي أن أهم ما يمكن أن يفعله الاتحاد في الفترة الراهنة هو بلورة تصور مشترك بين أعضائه يكون موضوعا لدورات تكوينية لهم حتى يتخففوا من خلافاتهم القطرية،والاتحاد الآن بصدد تجهيز سفينة العلماء للمشاركة في الحملة العالمية لكسر الحصار عن الإخوة الأشقاء في قطاع غزة.

وأخيرا إن كان من شيء ينفع في التجديد بعد أن يجدد أفراد الأمة إيمانهم،هو أن نعيد النظر في تروثنا الفقهية والعلمية والشرعية بما يجعل من "الوحدة" أصلا اعتقاديا،ومقصدا من مقاصد الشريعة،ومطلبا شرطيا لحفظ الكليات المعروفة،باجتهاد مجدد لا يستحضر القائمون به إلى رقابة من هو على كل شيء رقيب سبحانه.

خادمة الحبيب
28-08-2010, 01:01
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مشكور اخي على نقل الحوار

المداح
28-08-2010, 20:57
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شكر الله لكم مجهوداتكم أخي الفاضل
واختي الفاضلة