مشاهدة النسخة كاملة : بحر الدموع



chahid2007
04-07-2006, 15:17
يا اخي، افنيت عمرك في اللعب، وغيرك فاز بالمقصود وانت منه بعيد، غيرك على الجادة، وانت من الشهوات في اوجال وتنكيد، ترى متى يقال‏:‏ فلان استقال ورجع‏.‏ يا له من وقت سعيد، متى تخرج من الهوى وترجع الى مولاك العزيز الحميد، يا مسكين، لو عاينت قلق التائبين، وتململ الخائفين من اهوال الوعيد، جعلوا قرّة اعينهم في الصلاة، والزكاة، والتزهيد، واهل الحرمان ضيعوا الشباب في الغفلة، والشيب في الحرص والامل المديد، لا بالشباب انتفعت، ولا عند تمشيب ارتجعت، يا ضيعة الشباب والمشيب‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى اِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَاُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏سبا 51‏]‏‏.‏

وانشدوا‏:‏

عملت على القبائح في شبابي *** فلما شبت عدت الى الرياء

فلا حين الشباب حفظت ديني *** ولا حين المشيب طببت دائي

فشاب عنده مصغر غويّ *** وشيخ عند مكبره مرائي

قضاء سابق في علم غيب *** فيا لله من سوء القضاء

يروى في بعض الاخبار ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي حذيفة بن اليمان وهو يومئذ امير المؤمنين، فقال لحذيفة‏:‏ كيف اصبحت يا حذيفة‏؟‏ قال‏:‏ اصبحت يا امير المؤمنين احب الفتنة، واكره الحق، واقول بما لم يخلق، واشهد بما لم ار، واصلي بلا وضوء، ولي في الارض ما ليس لله في السماء‏.‏

فغضب عمر لذلك غضبًا شديدًا، وهمّ ان يبطش به، ثم تذكر صحبته مع النبي، فامسك، فهو كذلك اذ مرّ به عليّ ابن ابي طالب رضي الله عنه، فراى الغضب في وجهه، فقال‏:‏ ما اغضبك يا امير المؤمنين، فقصّ عليه القصّة‏.‏

فقال‏:‏ يا امير المؤمنين لا يغضبك ما قال لك، اما قوله‏:‏ انه يحب الفتنة، فهو تاويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اِنَّمَا اَمْوَالُكُمْ وَاَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن 15‏]‏‏.‏

اما قوله‏:‏ يكره الحق، فالحق هو الموت الذي لا بدّ منه ولا محيص عنه‏.‏

واما قوله‏:‏ يقول بما لم يخلق‏:‏ القران، فهو يقرا القران وهو غير مخلوق‏.‏

واما قوله‏:‏ يشهد بما لم ير، فانه يصدق بالله ولم يره‏.‏

واما قوله‏:‏ يصلي بغير وضوء، فانه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بغير وضوء‏.‏

واما قوله‏:‏ ان له في الارض ما ليس لله في السماء، فان له زوجة وبنين، وليس لله شيء من ذلك‏.‏

فقال عمر‏:‏ لله درّك‏:‏ يا ابا الحسن، لقد كشفت عني همًا عظيمًا‏.‏

ويروى ان رجلًا من اهل دمشق يسمى بابي عبد ربه، وكان اكثر اهل دمشق مالًا، وانه خرج مسافرًا، فامسى الى جانب نهر ومرعى، فنزل فيه، فسمع صوتًا يكثر حمدًا لله في ناحية المرج‏.‏ قال‏:‏ فاتبعته، فوجدته رجلًا ملفوفًا في حصير، قال‏:‏ فسلمت عليه، وقلت له‏:‏ من انت يا عبد الله‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ رجل من المسلمين‏.‏

فقلت له‏:‏ فما هذه الحالة‏؟‏

قال‏:‏ نعمة يجب عليّ شكرها‏.‏

فقلت‏:‏ كيف وانت ملفوف في حصير واي نعمة عليك‏؟‏‏!‏‏.‏

قال‏:‏ ان الله خلقني، فاحسن خلقي، وجعل منشاي ومولدي في الاسلام، والبسني العافية في اركاني، وستر عليّ ما اكره ذكره، فمن اعظم نعمة ممن امسى في مثل ما انا فيه‏؟‏‏.‏

فقلت‏:‏ رحمك الله، لعلك ان تقوم معي الى منزلي، فانا نزول على النهر هاهنا بازائك‏.‏

قال‏:‏ ولم‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ لتصيب شيئًا من الطعام، ونعطيك ما يغنيك عن لبس الحصير‏.‏

قال‏:‏ ما لي في ذلك من حاجة‏.‏

فابى ان يسير معي، فانصرفت وقد تقاصرت عندي نفسي ومقتها، وقلت‏:‏ لم اخلّف بدمشق رجلًا اكثر مني مالًا، وانا التمس الزيادة‏.‏

فقلت‏:‏ اللهم اني اتوب اليك مما انا فيه، فتبت ولم يعلم احد بما اجتمعت عليه، فلما كان في السحر، رحل الناس، وقدّموا اليّ دابتي، فصرفتها الى دمشق، وقلت‏:‏ ما انا بصادق في التوبة ان انا مضيت الى متجري، فسالني القوم فاخبرتهم، فعاتبوني على المشي معهم فابيت‏.‏

فلما قدم على دمشق قال ناقل الحديث‏:‏ فوضع يده في ماله وتصدق به، وفرّقه في سبيل الله، ولزم العبادة حتى توفي رضي الله عنه، فلما توفي لم يوجد عنده الا قدر حق الكفن‏.‏

وانشدوا‏:‏

ذكر الوعيد فطرفه لا يهجع *** وجفا الرّقاد فبان عنه المضجع

متفرّدًا بغليله يشكو الذي *** منه الجوانح والحشا يتوجع

لما تيقّن صدق ما جاءت به الـ *** ايات صار الى الانابة يسرع

فجفا الاحبّة في محبّة ربّه *** وسما اليه بهمّة ما يقلع

وتمتعت بوداده اعضاؤه *** اذ خصّها منه بودّ ينفع

كم في الظلام له اذا نام الورى *** من زفرة في اثرها يتوجّع

ويقول في دعواته يا سيدي *** العين يسعدها دموع رجع

اني فزعت اليك فارحم عبرتي *** واليك من ذلّ الخطيئة افزع

من ذا سواك يجيرني من ذلتي *** يا من لعزته اذلّ واخضع

فامنن عليّ بتوبة احيا بها *** اني بما اجترمت يداي مروّع

قل التصبّر عنك يا من حبّه *** في الجارحات سقامه يتسرّع

كيف اصطبار متيّم في حبّه *** قدما لكاسات الهوى يتجرّع

لاحت وعن صدق المحبة ما بدت *** للناظرين نجوم ليل تطلع

ما الفوز الا في محبّة سيده *** فيها المحبّ اذا تواضع يرفع

يروى ان قتادة بن النعمان الانصاري رضي الله عنه كان من الرماة المذكورين، شهد بدرًا واحدًا، ورميت يومئذ عينه، فسالت على خدّه، فاتى النبي صلى الله عليه وسلم وهي في يده، فقال‏:‏ ما هذه يا قتادة‏؟‏ قال‏:‏ هذا ما ترى يا رسول الله، فقال له رسول الله‏:‏ ‏(‏ان شئت صبرت ولك الجنة، وان شئت رددتها لك ودعوت الله لك فلم تفقد منها شيئًا‏)‏، فقال‏:‏ والله يا رسول الله ان الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، ولكني مبتلى بحب النساء، واخاف ان يقلن‏:‏ اعور فيردنني، ولكن احبّ ان تردّها اليّ وتسال الله لي الجنة، فقال‏:‏ ‏(‏افعل ذلك يا قتادة‏)‏ ثم اخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، واعادها الى موضعها، فعادت احسن ما كانت ، الى ان مات ودعا الله له بالجنة‏.‏

قال‏:‏ فدخل ابنه على عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، وهو خليفة فقال له عمر‏:‏ من انت يا فتى‏؟‏ فقال‏:‏

انا ابن الذي سالت على الخدّ عينه *** فردّت بكف المصطفى احسن ردا

فعادت كما كانت باحسن حالها *** فيا حسن ما عين ويا حسن من ردّ

فقال عمر‏:‏ بمثل هذا فليتوسل اليه المتوسلون، رضي الله عنه‏.‏


من كتاب بحر الدموع
لابن الجوزي

ميساء
04-07-2006, 16:50
بارك الله فيك , شكرا لك على هذا الموضوع القيم