مشاهدة النسخة كاملة : هل يجوز تصويتُ المُكْرَه؟



عادل محسن
28-06-2011, 01:34
هل يجوز تصويتُ المُكْرَه؟


http://www.aljamaa.net/ar/imagesDB/28767_large.JPG
عبد العالي مجذوب
2011/06/27

بسم الله الرحمن الرحيم
(1)فتوى الإمام مالك
لقد كان إمامُنا مالكٌ، رضي الله عنه، يُفتي بعدم جواز طلاق المُكرَه، وذلك في إشارة إلى بطلان البيعة التي كان يأخذها ملوكُ بني العباس، وقبلهم ملوكُ بني أمية، باستحلاف الناس على العهد حتى يضمنوا ولاءهم لهم، وهذا الاستحلافُ هو الذي اشتهر بـ"أيمان البيعة". ولم يكن هؤلاء الحكام يكتفون باستحلاف الناس بالله، بل كانوا يستحلفونهم بأشياء أخرى، كأن يحْلف المُبَايِعُ(بصيغة الفاعل)، مثلا، بأن امرأته طالقٌ ثلاثا، وأن مالَه حرامٌ عليه، إن هو نقض بيعَتَه.

وقد فهم حكامُ بني العباس أن الإمام مالكا حينما كان يفتي بأنْ ليس على المُكره يَمينٌ إنما كان يطعن في "أيمان البيعة"، التي كانوا يُكرهون الناس عليها، فلهذا السبب عانى إمامُ دار الهجرة ما عاناه على يد حكام الجوْر في زمانه. ومحنةُ الإمام مالك معروفة ومبسوطة في سيرته لمن أراد أن يرجع إليها بالتفصيل.

لقد كان الإكراهُ دائما من أسباب بطلان العقود، لأن الأصل في إمضاء العقود، عموما، هو الرضا والاختيار الحر. وليس من الحرية في شيء أن يجدَ المرء نفسه مُجبَرا على فعل شيء لا يريده ولا يختاره ولا يرضاه.

وللإكراه صورٌ كثيرة وأشكال متعددة، لكنها تتوحد في القصد والغاية، وهي قذفُ الرهبة والخوف في نفس المُكْرَه(بصيغة المفعول)، وتوليدُ مشاعر القلق لديه، وجعلُه مهتمّا بما يمكن أن يصيبه في نفسه، أو ماله، أو عِرضه، أو وظيفته ورزقه، أو أهلِه وأولاده، أو غيرِ ذلك من أنواع الأذى والخسارة والحرمان التي يمكن أن تلحق به مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، كأن يلحق الأذى بمن تجمعُهم به آصِرةُ القرابة والدم، أو المصلحةُ المشتركة، أو الفكر والإديولوجيا أو غيرُها من الأواصر التي تجمع الناس وتُقرّب بعضَهم من بعض.

(2)الإكراه في عهد (تازمامارت)
لقد كانت وزارة الداخلية، على عهد (تازمامارت)- وقد كانت، وما تزال، هي أمّ الوزارات، وهي القوة الضاربة القامعة المرعبة، التي يعتمد عليها النظامُ المخزني الاستبدادي، في الدرجة الأولى، في تثبيت أمره وترسيخ أركانه- لقد كانت هذه الوزارةُ تُزوّر الانتخاباتِ والاستفتاءاتِ بطرق فِجَّة مفضوحة، وكانت تسلك لهذه الغاية كلَّ السبل، وتستبيح كلَّ الوسائل. وقد كان التخويفُ والإكراهُ على رأس هذه الوسائل التي برَع النظامُ المخزني في استخدامها لإخضاع الناس وجرّهم، وهم كارهون، إلى قول "نعم"، حيث تكون رغبتُهم الحقيقيّةُ، واختيارُهم الذي يرضَوْنه، هو قولُ "لا".

لقد سجّل التاريخُ القريب لمغرب ما بعد الاستقلال رواياتٍ كثيرةً، مُضحكةً ومُبكية، عن بشاعة الإكراه الذي كانت تمارسه السلطاتُ المخزنية الغاشمة على المواطنين، حيث لم يكن الأمر يقتصر على تزوير الانتخابات والاستفتاءات، بل كان يشمل مجالات أخرى، كتنظيم الاحتفالات الرسمية والزيارات الملكية، حيث كان النظامُ يحشر الناس حشرا، ويسوقهم سوقا، مُجْبرين طائعين خائفين، إلى حيث يريد، ليَبِيتوا، ويُصبِحوا، ويَظلّوا، وقد يدوم الأمر أكثر من يوم وليلة، حتى تنتهيَ المهمة التي من أجلها جيء بهم مُكْرَهين، ثم يُقال لهم، دَبّروا أمركم لترجعوا من حيث أتيتم.

فظاعاتُ وزارة الداخلية وغيرِ الداخلية، على عهد (تازممرت) باتت اليوم من التاريخ المخزني المكشوف، في كثير من جوانبه، الذي نقرؤه في تفصيلاته صفحةً صفحةً، وجملةً جملة، والذي يشهد أن ما كان يُسَوّقه النظامُ على أنه ديمقراطيةٌ وانتخاباتٌ واستفتاءاتٌ واستقبالاتٌ واحتفالاتٌ "شعبيةٌ" "تلقائية"، إنما كان في حقيقته، التي لم يكن له حقيقةٌ غيرُها، إكراها في إكراه، وقهرا في قهر، وإرهابا في إرهاب. والشهادات والقصص في هذا الباب أكثرُ من أن تُحصى.

(3)من عهد (تازمامارت) إلى عهد (تازمارة)
أذكّرُ القارئ الكريم أن اسم (تازمارة) منحوتٌ من كلمتين، الأولى هي (تازمامارت)، اسم المعتقلِ السري الرهيب، الذي كان في إقليم"الراشيدية" على عهد الحسن الثاني، والذي مات فيه كثير من المعتقلين في ظروف غايةٍ في الظلم والبشاعة والوحشية اللاإنسانية، والكلمة الثانية هي (تمارة)، حيث أفادت شهادات متعددة بوجود معتقل سري في مقر المخابرات المغربية، مُورست فيه على مواطنين كثيرين أنواعٌ شتى من التعذيب والتنكيل والإهانة والدوْس على الكرامة الآدمية. وقد كتبَ السيد محمد مصدق بنخضراء، الذي يعتقد أنه كان أولَ نزيل بهذا المعتقل السري في سنة 1986، وهو فلسطيني من أصل مغربي، كتابا بعنوان "تازمارة234".

ومما ورِثه الملكُ محمد السادس عن عهد (تازمامارت)، جهازٌ إداريّ متغوّل مبني، في جوهره، على الولاء للنظام المخزني، ومن ثم فهو جهاز لا يعرف إلا لغة السمع والطاعة في تلقي الأوامر وتنفيذ التعليمات. أما وزارة الداخلية، وهي أم الوزارات، كما يُقال بحقّ، وهي القوة الأساس في قيام النظام واستمراريته، وفي قمع المعارضين وملاحقتهم والتنكيل بهم.

وعلى الرغم من الجهود التي بُذلت، والوعود والإشارات التي أُعطيت، والمبادراتِ والسياسات الجديدة التي اتُّبعَت لإصلاح ما أفسده العهدُ السابقُ، ولِلَأْم الجراحاتِ الغائرة التي خلفّها، ولتبييض الصفحات السوداء التي سطّرها، فإن أسلوب الإكراه، الذي تنوعت أشكالُه وتطورت مظاهرُه، ما يزال هو المهيمن، إن لم نقل هو المفضل، من بين أساليب أخرى، لفرض سلطان الدولة المخزنية، وتنفيذ سياساتها ، وإخضاع رعاياها.

والإكراه قد يكون واضحا لا لَبْسَ فيه، في شكله ومضمونه وأهدافه، وقد يكون خفيّا إلى درجة أن المُكْرَه قد لا يشعر بأنه كذلك، بل قد يزعم أنه حرّ ومختار وهو واقعٌ تحت القَسْر والاضطرار.

وسأشير، في نقط مُركَّزة، إلى بعض المعطيات والإجراءات التي تتصل بالاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، المرتقبِ إجراؤه يوم فاتح يوليوز القادم، والتي أرى فيها طغيانَ رُوح أسلوب الدولة القهْري المعهود.

. مع نسبة الأمية المرتفعة وسط المواطنين عامة، وفي كتلة الناخبين خاصة، يُطلَبُ إلى الشعب أن يَفهم ويستوعب وثيقةَ مشروع الدستور، التي تضم مائة وثمانين(180) فصلا موزعةً على أربعة عشر(14) بابا، في وقت قياسي لا يتعدّى ثلاثة عشر يوما، من 17 يونيو تاريخ الإعلان عن تقديم مشروع الدستور، إلى فاتح يوليوز وهو يوم الاستفتاء. وأعتقد أن أهل الاختصاص أنفسهم لا تكفيهم هذه المدة لدراسة الوثيقة دراسةً فقهيةً نقديّة تقويمية حقيقية.

وفي عشرة أيام فقط، وهي المدة المحددة للحملة الاستفتائية، يُطلب إلى الناخبين من الشعب، الذين سيذهبون يوم فاتح يوليوز للإدلاء بأصواتهم، وهم في جزء كبير منهم من الأميين وأشباه الأميين- يُطلب إليهم أن يفهموا ويستوعبوا ما سيُعرض عليهم في التجمعات والمهرجانات واللقاءات والبرامج الحوارية وفي غيرها من الوسائل والوسائط المعتمدة للدعاية والتبليغ والإقناع، ويُكَوِّنوا لأنفسهم رأيا شخصيا في القضية، فيحكموا عندئذ ويختاروا أن يقولوا "نعم" أو أن يقولوا "لا". وهل هناك أكثرُ من هذا العبث؟ وهل هناك فوقَ هذا التحكُّم والإجبار؟

احتكارُ وسائل العمومية مائة في المائة، تقريبا، لصالح الرأي المُوالي لمشروع الدولة، ومِنْ ثَمَّ إبعادُ الصوت المعارض، وتضعيفُه، بل وتسفيهُه وتجريحُه وإدانتُه. فلا يرى الناسُ في الإعلام العمومي ولا يسمعون إلا خطابا واحدا يتكرر بالليل والنهار: مدحٌ، واحتفالٌ، وفرحٌ، وتجنّدٌ منقطع النظير لقول "نعم". ضيوفُ البرامج المخصصة لموضوع الاستفتاء على مشروع الدستور كلُّهم، مع استثناء ضعيف ضعيف جدا، على نفس الخطّ، وفي نفس الاتجاه، وهو الكلام في "إيجابيّات" المشروع، ولا شيءَ غير الإيجابيات. بل حتى أساتذة الجامعات ورجال القانون، الذين كان يُفترَض فيهم أن يكونوا موضوعيّين وعِلمِيّين ومُنصفِين ومُتوازِنِين، رأيناهم، في غالبيتهم العظمى، يغرقون في خطابات المدح، ويستغرقون في العَرَضِيِّ الفرْعي، ويسكتون عن الجوهري الأصلي. وماذا سيقول الإنسان العاميُّ العاديُّ، الذي يشكل النسبةَ الكبرى من الكتلة الناخبة؟ سيقول إن الصواب هو ما يعرضه تلفزيونُ الدولة، وإلا لما كان هناك معنى لدعوة فلان وفلان من العلماء والأساتذة والفقهاء والمُحلّلين المرموقين!!

توظيفُ "البلطجية"، على الطريقة المغربية، للتشويش على المعارضين، والاعتداء عليهم، بالضرب والسبّ وغيرهما من أشكال الأذى والإهانة، وذلك في كثير من الحالات، وفي العديد من المدن، وهو ما يفرض الاعتقادَ بأن الأمر مُدبّرٌ ومُخطَّطٌ له سَلَفا. وفي هذا الجو البلطجي الوَبيء، تغيب الصورةُ الحقيقة، ويُفرض على المواطن العادي أن يُعطيَ صوتَه بناء على الخيالات والأوهام والفراغ، وتحت تهديد عبارة "عاش الملك"، التي يسمعها ترِنّ في أُذنيْه، لا يسمع غيرَها من الأصوات المعارضة والعبارات المخالفة.

اعتمادُ لوائح انتخابية عليها أكثرُ من علامة استفهام، وأيضا اعتمادُ بطاقة الناخب، بدل البطاقة الوطنية، في التصويت. وفي هذه الإجراءات الإدارية ما فيها من إمكانية التلاعب والتزوير، وخاصة أن الإدارةَ المشرفةَ على هذه الإجراءات هي دائما وزارة الداخلية المكروهة بما لها في النفوس من صورة بشعة، وبما لها من سوابق فاحشة في التزوير وخرق القانون والتلاعب بإرادة المواطنين.

استغلالُ بيوت الله للدعاية لمشروع الدستور الممنوح، وحضّ المصلين على التصويت بـ"نعم"، لأن الأمر، حسب نصّ الخطبة الرسمية الموحدة المعمّمة على الخطباء، استجابةٌ لوليّ الأمر، الذي طاعَتُه من طاعة الله ورسوله. وهذا يعني أن المواطن الذي سيقول "نعم" هو مطيع لله ورسوله ولولي الأمر، ومن ثَمَّ فهو من أصحاب الجنة الفائزين، وأن المواطنَ الذي يقول "لا" هو عاصٍ لله ورسوله ولوليِّ الأمر، فهو إذن من أصحاب النار الخاسرين. هذه هي الإيحاءاتُ التي تقذفها الخطبةُ الرسمية في قلوب المسلمين العاديين المطحونين بالآلة الإعلامية المخزنية أينما حلوا وارتحلوا. فهل بعد هذا الإكراه من إكراه؟

الحضورُ الكثيف الزائدُ عن الحدّ واللزوم لصُوَر الملك في التجمعات والمهرجانات والمسيرات الدعائية، التي تُنظَّمُ لصالح التصويت بـ"نعم" لمشروع الدستور الممنوح، وترديدُ الشعارات المؤيدة للملك، والهاتفة بحياته، مثل شعار "ملكُنا واحد، محمد السادس"، وشعار "عاش الملك". وعندما يُغطّي الإعلامُ الرسميُّ، وخاصة الإعلام المصور، هذه التجمعاتِ والمهرجانات والمسيرات بهتافاتها وشعاراتها الصادحة بحياة الملك، ويَعرضُها على المواطن العادي في بيته، بالإخراج المناسب الذي تطغى عليه التحريفاتُ والمغالطات، فإن المقصود من ذلك يكون أساسا هو أن يقعَ في روع المواطن أن مدار الأمر كله على الملك، فمن قال "نعم" فهو مع الملك، ومن قال "لا" فهو ضدّ الملك، وفي هذا ما فيه من التلبيس والتدليس والمخادعة والضغط والإكراه، لأننا جميعا نعرف ماذا يعني أن تُصنَّف لدى السلطات المخزنية أنك ضدّ الملك. وما يزال عهد (تازمامارت) شاهدا على الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها النظامُ المخزنيُّ في حق المواطنين بسبب هذا التصنيف.

الأصلُ أن يكون الناسُ أحرارا في سحب بطاقة الناخب أو عدم سحبها من مكاتب السلطات العمومية، لأن الأمر يعنيهم في خاصة أنفسهم لا يعني غيرَهم. هذا هو الأصل في حرية التصويت والاختيار والتعبير. أما أن تقوم هذه السلطاتُ، بما تمثّله وترمُز له في لاوعي الشعبِ المقهور المطحون، بإِتْيَان الناس في بيوتهم، والطوافِ عليهم في أسواقهم ومحلات أعمالهم وتجارتهم، لتسلّمهم بطائقَهم، ففيه الشيءُ الكثير من التأثير المعنوي والمادي، لحمل الناس على الذهاب لمكاتب التصويت. ولا ننسى أن علاقة الناس بالسلطات المخزنية تقوم على مخزون نفسي تَرَسّخ في النفوس عبر أجيال وأجيال، كما تقوم هذه العلاقةُ على ماضٍ وسوابقَ وممارساتٍ تجعل المواطنين، في كثير من الحالات، وفي المناطق القروية على وجه التخصيص، يخْشَون السلطة أكثرَ مما يخشون الله، إن كانوا مؤمنين طبعا.

كانت هذه بعض الأمثلة، التي يتبيّن فيها بوضوح مدى تدخل السلطات وتأثيرها في اختيار الناس، ومدى الضغط والإكراه، اللذين يتعرض لهما المواطنون في كل مكان، في بيوتهم، وفي الشارع، وفي العمل، لينصاعوا لإرادة الدولة المخزنية، ويخضعوا لسلطانها.


وبعد، فهل يصِحُّ، بعد كلّ هذه المُنْكَرَات المخزنية، تصويتُ المُكْرَه؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.