مشاهدة النسخة كاملة : هل ينتفض فقراء العالم على الرأسمالية؟



توفيق
16-10-2011, 22:31
هل ينتفض هل ينتفض فقراء العالم على الرأسمالية؟؟

http://www.aljamaa.net/ar/imagesDB/48505_large.jpg




بقلم سعيد مولاي التاج

ما يشهده العالم الغربي اليوم من مسيرات احتجاج شعبي ضد تردي الأوضاع الاقتصادية، بقيادة "حركة غاضبون" وغيرها ، التي تكتسح كل العواصم الأوروبية، يرى فيه البعض أزمة أخرى من أزمات الرأسمالية الغربية وبداية لأزمة "ولت ستريت" ثانية، تشبه إلى حد بعيد ما يعرفه العالم من أزمات اقتصادية كبرى متكررة بشكل دوري منذ عقود، مما يطرح سؤالا جوهريا هل هذه الأزمات أزمات ظرفية طارئة أم أنها نتيجة حتمية بالنظر إلى طبيعة النظام الاقتصادي العالمي؟ وبالتالي فما يعرفه العالم مرارا من ركود اقتصادي وبطء في النمو أو غلاء في الأسعار وتضخم وعدم استقرار على كافة المؤشرات، هل هي أزمات حقيقية فعلا يجتهد البعض دائما في إيجاد تبريرات وتفسيرات اقتصادية وسياسية لها، من قبيل ارتفاع أسعار الطاقة أو انخفاض قيمة الدولار أو الظروف المناخية أو أزمة الرهن العقاري أو المضاربات في البورصة أو حتى بعض التوترات السياسية هنا وهناك؟ أم أن كل ذلك في حقيقة الأمر فقاعات مصطنعة ومظاهر وتجليات تخفي جوهر ولب المشكل، الذي هو أزمة هيكلية ملازمة لبنية الاقتصاد الرأسمالي الغربي المهيمن على العالم منذ بدايات القرن الماضي، نبه إليها مجموعة من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين بعد تفجر أزمة "ولت ستريت" الأولى سنة 1929، وخلصوا أنها تتمثل بالأساس في عاملين رئيسين هما :

أولهما: هيمنة الرأسمال العابر للقارات وسيطرته على القرار السياسي.

وثانيهما: تخلي "الدولة" عن دورها التقليدي في مراقبة الاقتصاد وتوجيهه.

يربط بعض المحللين بداية تغول الشركات المتعددة الجنسية إلى فترة وصول "ريغان" و"تاتشر" إلى الحكم في كل من أمريكا وبريطانيا إذ أنه في هذه الفترة تخلص الرأسمال من رقابة الدولة بشكل واسع، وبدأ يعيش طفرة نوعية تفاقمت بشكل سريع بسقوط حائط برلين في بدايات التسعينات.

فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظوماته الاقتصادية تحرر المارد الرأسمالي من كل القيود وخرج من قمقمه ليدوس على كل القيم والأخلاق والاعتبارات الاجتماعية والإنسانية، فانتقل العالم من رأسمالية الدول إلى "رأسمالية مالكي أسهم الشركات" كما سماها الوزير الفرنسي ميشيل روكار. حيث إن التناقض الإيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية بطأ إلى حد كبير من توسع الرأسمالية في العالم وحد من نفوذها في فترات معينة، فالشيوعية أجبرت –حينها- دول الغرب على تبني سياسة اقتصادية أكثر اجتماعية وأخلاقية وعدالة ولو مرحليا.

لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومعه أوروبا الشرقية واندماج الصين تدريجيا في الاقتصاد العالمي بعد تبنيها خطة بلد واحد بنظامين اقتصاديين، صار الرأسمال المتنقل العابر للقارات يملك من الإمكانات الاقتصادية والقوة السياسية ما يجعله يملي اختياراته وشروطه على الدولة الوطنية وهكذا تقلص القرار الاقتصادي داخل الدولة الوطنية، وصار ملكا للشركات المتعددة الجنسية

وهكذا صارت الدولة الوطنية غير قادرة على انتهاج سياسة حمائية محلية في ظل انفتاح السوق وعولمة الاقتصاد-بسبب اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة الحرة، وتحت ضغوط إملاءات الجهات المانحة دوليا-، فالأخطبوط الاقتصادي صار يملك أذرعا سياسية ودبلوماسية وإعلامية وحقوقية قادرة على خنق كل من يريد أن يتحرر من سطوة هذه الشركات العملاقة، وليس من المستبعد أن الدفع بإصلاحات سياسية واقتصادية في دول العالم الثالث، من قبيل إصلاح القضاء وتأهيل الإدارة وتعميم ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح أكثر على السوق العالمي، هو إحدى وسائل "الإدماج القسري" لاقتصاديات هذه الدول في اقتصاد عالمي ظلت عصية عليه مدة طويلة، بسبب تخلفها عن المواكبة، مما يهيئها الآن للوقوع تحت سيطرة الشركات المتعددة الجنسية ويخضعها خضوعا تاما لمعايير وميكانيزمات الرأسمالية الجديدة

فالدول بسبب منافستها المحمومة على استقطاب الاستثمار، أجبرت على الخنوع لكافة شروط هذه "الشركات الإمبراطورية"(تخفيض الضرائب، تخفيض الأجور، تخفيض التكاليف الاجتماعية والصحية، توفير اليد العاملة المؤهلة وتوفير التسهيلات الإدارية والقانونية والتساهل في قوانين البيئة)، وتحولت إلى واحات ضريبية تساهم -عن غير عمد-في تفجر الأزمات العالمية الدورية التي تتحايل الشركات المتعددة الجنسية على الدول كل مرة بنقلها من مكان إلى مكان، حيث إنه في غضون عقدين من الزمن فقط عرف العالم أزمات متتالية تم نقلها بذكاء بين أمريكا اللاتينية (المكسيك والأرجنتين) وآسيا (جنوب شرق أسيا) وأوروبا. فوضع "الاقتصاد المتشابك" الذي صار يعيشه العالم أدى إلى الرفع من سرعة انتقال الأزمة عبر العالم، فعلى سبيل المثال بعد هبوط قيم الأسهم في "ول ستريت" مؤخرا انخفض المؤشر العام للقيم بنسبة 7.1% في فرانكفورت و6.8% في باريس و5.4% في لندن و7.5% في مدريد و3.8% في طوكيو و5.1% في شنغهاي و6% في ساوباولو و9.8% في الرياض و9.4% في دبي و3% في بيروت و4.2% في القاهرة.

هذه القوة والقدرة على التنظيم، والسرعة في المناورة والتكتل والتنقل، التي لا تملكها كيانات تقليدية كالدول، جعلت الرأسمال يتحكم في الأسعار وفي الإنتاج وفي الأجور وفي الاستثمار، وحتى في القرارات السياسية المحلية والعالمية. وهذا كله بسبب تخلي الدولة عن دورها في توجيه الاقتصاد، خاصة في القطاعات الاجتماعية الحيوية التي تعتمد عليها الأغلبية العامة من الناس، مما جعلها في الأخير رهينة للأطراف المتحكمة في قرارها السياسي رغم الاحتياطات السياسية والاحترازات القانونية.

الآن لا يمكن للدولة الوطنية أو حتى الاتحادات الكبرى (الاتحاد الأوروبي) أن تتخلى عن تحمل مسؤولية الحفاظ على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي بانتهاجها أمرين:

- أولا التخلص من التبعية الخارجية لسياسات المؤسسات الاقتصادية المركزية مثلا (البنك المركزي الأوروبي).

- ثانيا الحد من نفوذ الشركات المتعددة الجنسية وكارتيلات الأبناك، في إطار اقتصاد عالمي عادل متكافل أو متضامن، يتشارك الجميع فيه في اقتسام التكاليف وفي توزيع الأرباح وفق نظرية المعايير "الاجتماعية الدولية" التي بدأت المطالبة بها دوليا، إذ أنه لابد من وضع اتفاقية دولية تضع شروطا للاستثمار في العالم، معممة ومتطابقة بموجبها يتخلص الرأسمال من بعض جشعه ويتحمل جزء من تكاليف الأزمات التي يسببها.

فالكثيرون يرون أن الدولة التي تعتبر الآن أكبر مشغل أو ضامن للشغل في كل الدول تتنازل مجانا لصالح الشركات المحلية أو الدولية، وتغامر باستقرارها والحفاظ على السلم الاجتماعي على حساب المصالح الكبرى للبلاد، لصالح قطاع خاص لا يقدم أي تنازلات عن أرباحه، بل يفر إلى وجهات أخرى أو يعلن إفلاسه عند شعوره بأدنى تهديد يمس هامش ربحه، مما يجعل الحديث عن أي دور للقطاع الخاص المحلي آو الدولي في تنمية متوازنة باعتباره شريكا أو مقاولة مواطنة، هو حديث غير ذي جدوى لأن الرأسمال شريك في الغنم جبان عند الغرم.

لهذا على السياسيين أن يستغلوا هذه الفرصة التاريخية وهذه المتغيرات في العالم، وصحوة الشعوب الكبرى، من أجل إعادة تقييم العلاقة مع الشركات العابرة للقارات ومع الرأسمال الأخطبوطي، ولوضع أسس جديدة لسياسة أكثر عدلا وإنصافا، وللتحرر من هيمنة لوبيات المال التي تسيطر على دواليب السياسة.

تاريخ النشر: الأحد 16 أكتوبر/تشرين الأول 2011