مشاهدة النسخة كاملة : الأخ الدكتور الريسوني يكتب: شهود الخلود والترشح اللامحدود



توفيق
20-10-2011, 20:34
الأخ الدكتور الريسوني يكتب: شهود الخلود والترشح اللامحدود

2011-10-20 10:44

من المعلوم أن أول امتحان رسب فيه أبونا آدم عليه الصلاة والسلام هو امتحان الرغبة في الخلود، أو هو سراب الخلود. فمن هذا المدخل استزل الشيطان آدم وزوجه نحو المعصية والمجازفة، ملوحا لهما بسراب الخلود.

فلما قال الله تعالى (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، جاء الشيطان ليكون سببا في أول ابتلاء يكشف عن سوأة الكائن البشري وعناصر ضعفه. (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [سورة الأعراف : 19 – 21].

وفي الآية الأخرى من سورة (طَــهَ): قال الله تعالى (فوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه : 120].

وهكذا استجاب آدم وزوجه لنزعة دفينة وهي: أن يكونا من الخالدين، ويكونَ لهما مُلك لا يبلى!!

ولقد فَقُهَ الناسُ "البسطاء" القضية جيدا، فلذلك تجدهم يرددون: البقاء لله، الباقي الله، الدوام لله. ولكن الناس "غير البسطاء" - بحكم تشبعهم بطموحات زائدة وثقافة زائفة - يستطيعون إقناع انفسهم أو على الأصح خداع أنفسهم، بأن "البقاء" مفيد وضروري، وهو مقتضى الحكمة والمصلحة...

هكذا أقنعَ عدد من أصدقائي بحزب العدالة والتنمية أنفسهم وبعضهم بأن البقاء في البرلمان لفترات غير محددة أمر مفيد للحزب وكوادره القيادية، ومفيد لمصلحة الأمة وفعالية البرلمان...، مع أن هؤلاء الأصدقاء جادلوني سنة 2005، وطلبوا مني تأجيل دعوتي لتحديد النيابة البرلمانية في ولايتين، بأننا في البداية ومحتاجون إلى بقاء أصحاب التجربة، ووعدوني بتبني الفكرة واعتمادها في الانتخابات المقبلة. ثم مرت "المقبلة"، وها هي أخرى حلَّت، وما زالت فكرة البقاء والدوام بلا حدود ولا قيود.

الغريب أننا نجحنا في اعتماد فكرة حصر تولي المسؤوليات في ولايتين فقط، في حركة التوحيد والإصلاح، ثم اعتُمدت الفكرة بحزب العدالة والتنمية. فلما جئنا إلى مجال هو أحوج بكثير إلى إقرار هذا النهج، اصطدمت الفكرة بالتأويلات والتبريرات والتهرب والتسويف!! ، بينما كان المفروض - على الأقل - أن يَطَّرِد المنطق والمنهج. وأما الحقيقة الواضحة فهي أن دواعي التحديد والحصر للمناصب ذات الإغراء والجاذبية والتنافسية أقوى وأوجب. لكن أنصار البقاء والخلود كانوا هم الغالبين.

وبغض النظر عن شهوة البقاء والدوام، ومدى حضورها وتحكمها، فإن بقاء شخص ما في البرلمان لفترات متتالية غير محدودة لهو عنوان العجز والفشل؛ لأنه يعني أن هذا الشخص لم يرتق ولم يتقدم.

قبل سنوات أخبرني أحد الإخوة البرلمانيين الجدد أنه بعد شهور قليلة من عمله البرلماني حفظ اللعبة من أولها إلى آخرها... وكل ما هو مطلوب وممكن هو أن نكرر ذلك في كل اجتماع وفي كل جلسة.

ولقد تعلمنا جميعنا - في مختلف مراحلنا التعليمية - أن الناجحين يرتقون وينتقلون من مستوى إلى آخر، وأما الراسبون الفاشلون فهم الذين يعودون إلى حيث أقسامهم ومقاعدهم، ولكن لمرة واحدة، وليس بلا حدود.

نقلا عن موقع الدكتور أحمد الريسوني

توفيق
26-10-2011, 23:45
الأستاذ يعود فيوضح بمقال آخر

أحمد الريسوني: مسألة الترشح اللامحدود .. عود على بدء


حين كتبت مقالي الأخير (شهوة الخلود والترشح اللامحدود)، كتبته على عجل وباختصار شديد، وذلك حتى لا يتأخر عن مناسبته التي دعت إليه، أعني مناسبة الترشح والترشيح للانتخابات البرلمانية. فالكتابة كانت من وحي المناسبة، غير أني حرصت على الإشارة فيه إلى أن الفكرة قديمة وليست وليدة لحظة أو مناسبة، وليست - كما ظن البعض - مبنية على معطيات ناقصة حديثة العهد، بمعنى أن فكرتي لم تتولد في جدة أو في مرحلة "الغيبة الكبرى"، مع أنني أتابع - من هنا وهناك - الصغائر والكبائر عن المغرب وما يعتمل فيه. هذا فضلا عن كوني الآن موجود بالمغرب منذ فترة تزيد على الشهرين، استقبلت فيها مئات الزوار، وكان منهم معظم القياديين في حركة التوحيد والإصلاح، وفي حزب العدالة والتنمية وفريقِه البرلماني. وسمعت منهم كل ما يستحق السماع، وناقشنا كل ما يستحق النقاش. وأظن أن ذلك كان كافيا لإخراجي من غيبوبتي واستعادتي حق الكلام في الشأن المغربي!

بعد نشر المقال المذكور تلقيت وسمعت بشأنه عدة ملاحظات وتحفظات، سواء على فكرته برمتها، أو على بعض جزئياته وحيثياته. وسواء من المؤيدين أو من المعارضين، كانت هناك دعوة صريحة أو ضمنية لمزيد من البيان والتوضيح للمسألة، بصرف النظر عن المناسبة والسياق. وهذا ما تيسر لي من إضافات وتوضيحات.

أولا: التفكير من داخل الجُبِّ والتفكير من خارج الجُبِّ

يُذكر أن الفقيه الحنفي الكبير شمس الأئمة أبا بكر السرخسي رحمه الله، أملى قدرا كبيرا من مؤلفاته على تلاميذه وهو محبوس في الجب؛ حيث حبسه الأمير بسبب كلمة حق قالها له. والحقيقة أن الذي يقرأ مؤلفات الإمام السرخسي وفقهَهُ، يدرك أن الرجل كان يفكر ويتكلم من خارج الجب الذي هو فيه، وأن عقله كان حرا طليقا مستنيرا، بينما الأمير الآمرُ بحبسه هو الذي كان تفكيره وتدبيره محبوسين داخل ظلمات الجُب.

و"فكرة الجُبِّ" هذه توجد مضمنة في الحديث النبوي الشريف باسم "الجُحر". ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ فَمَنْ؟)

وقد جاء بعض الفلاسفة الغربيين فعبروا عن هذه الفكرة -أو جزءٍ منها- بمصطلح "الباراديغم -paradigm"، وهو يعني القالب النمطي المُتَّبعَ والمألوف للتفكير والسلوك.
أوردت هذا الكلام من البداية لأقول: إنني لست ملزما بالباراديغم السياسي الانتخابي السائد وقيمِه وقواعدِه، وأن من منطلقاتي وأهدافي أن أسهم في خلخلة هذه المنظومة وتنقيتها وترقيتها، بدل التسليم بها وتزكيتها. نعم أنا أومن بقاعدة "ما جرى به العمل" بشروطها الفقهية المالكية، ولكني لا أتَّبع ما جرى به العمل في الجحر السياسي الحزبي.

-فمن ذلك أن الباراديغم الحزبي الانتخابي يقتضي بداهة تمكين الحزب -أي حزب- من حصد أكبر عدد ممكن من المقاعد، ويعتبر ذلك هدفا مرحليا أعلى للعملية الانتخابية، ومعيارا من معايير الترشيح فيها. وهذا يستلزم ترشيح من هم أقدر على انتزاع المقاعد لأنفسهم ولحزبهم، وهنا يكون مَن اشتهروا، أو من هيأوا أنفسهم وأعدوا عدتهم وكثروا أصواتهم، هم الأنسب والأحظى بالتزكية والترشيح. وأما الغافلون المغمورون فلا يصلحون ولا يفلحون، مهما كان صلاحهم وأهليتهم.

-والباراديغم الحزبي الانتخابي يرى أن انتزاع المقعد الانتخابي فوز ونصر وغُنم وشرف ومفخرة ...
-وهذا الباراديغم يرى ضرورة أن يقدِّم الحزب زعماءه ووجهاءه ورموزه، وأن ينصرهم في المعركة الفاصلة، ليصل بهم في النهاية إلى بَر الامان (أي: برلمان)، ليكتسبوا الشرعية الانتخابية ويعززوا مكانتهم الاجتماعية، لأن ذلك من مصلحة الحزب، وما كان من مصلحة الحزب فهو مصلحة للوطن... ومعلوم أن هؤلاء الزعماء هم أنفسهم من يصنع هذه الأفكار ويبثها، بمعنى أنها تنبع منهم وتصب عندهم.

-وفي هذا الباراديغم أيضا: لا غضاضة ولا إشكال في أن يكون الزعماء الحزبيون قياديين في الحزب وكل هيئاته العليا، وأعضاء أو رؤساء في البلديات والجهويات، وأعضاء أو رؤساء في مختلف اللجان، وقياديين في المنظمات الموازية، وأعضاء في البرلمان ولجانه ومكتبه، ووزراء إذا لزم الأمر، ويقولون هل من مزيد، لأنهم غير مكترثين بقول المعري: فما أعجبُ إلا مِنْ راغب في ازدياد، بل قاعدتهم تقول: "هات، ستة من ستين".
فداخل هذا الجب تتشكل وتسود فلسفة الترشح اللامحدود والمناصب اللامحدودة.

ثانيا: اعتبار الخبرة والتجربة في الترشيح.
عادة ما يقال: إن صاحب الخبرة والتجربة والسبق في مجال ما أو مهمة ما، هو الأولى والأصلح دائما لذلك المجال وتلك المهمة.
وهذا حق يراد به باطل، أو هو حق يوضع في غير موضعه.

فالخبرة كما تُتداول وتُتعلم من الغير وتؤخذ مما هو قائم ومعمول به، فإنها أيضا يمكن أن يصنعها كل واحد بجهده وفكره وإبداعه وخصوصياته. وصاحب الخبرة إذا طال بقاؤه فيما هو فيه قد يصاب بالملل والضجر، وقد تستولي عليه الرتابة والممارسة الروتينية، فيضعف عطاؤه ويخبو حماسه، فيقف عند الحد الأدنى أو دونه. كما أن طول البقاء في المنصب والموقع، كثيرا ما يجر إلى الانحلال والإخلال، أو إلى الفساد والاستبداد، هذا إذا كان الشخص في أصله صالحا مستقيما فعالا...

ومقابل هذه الحالات والآفات كلها، يكون الوافد الجديد إذا حل محل القديم، أبعدَ عن هذه الآفات وأقرب إلى أضدادها. وذلك فضلا عما يفترض أن يكون له من مؤهلات ومميزات ومبادرات جديدة، هي التي أهلته للتكليف الجديد.

ومعلوم أن ترك صاحب المنصب لمنصبه -في البرلمان أو غيره- لا يعني أبدا ضياع تجربته وخبرته وحرمانَ حزبه أو وطنه منها. فالإنسان الصالح كالغيم، أينما تحرك سَـقى ونفع. بل نستطيع الإفادة منه في ذات الموقع والمجال الذي غادره، ولا سيما إذا تعلق الأمر بأشخاص رساليين ومناضلين. وهناك الآن عدد من الأطر من مختلف التخصصات يقدمون خبراتهم العالية للحزب وللبرلمانيين على مدى عدة ولايات برلمانية، حتى ليمكن اعتبارهم أساتذة ومدربين لأولئك البرلمانيين، من غير أن يترشحوا ولا أن يتطلعوا إلى أن يكونوا من "السادة النواب المحترمين"، كما أنهم لم يطلبوا يوما جزاء ولا شكورا. فالبرلماني السابق أولى -وأوجب في حقه- أن يقدم مثل ذلك وأكثر منه لإخوانه الجدد الذين حلوا محله.

ومن جهة أخرى فإن إبقاء القدامى -أصحاب التجربة والخبرة- في مواقعهم ومناصبهم لفترات طويلة أو لامحدودة، يُضَيق من فرص التكوين والتدريب والترقية لغيرهم، مما يجعل المسؤوليات والخبرات دُولةً بين الفئة القليلة وحكرا عليها، ولو بدون قصد. وهكذا تصاب الهيئة أو الدولة أو المجتمع بالقحط والعقم في تخريج ذوي الكفاءات والمهارات وترقيتهم وتمكينهم، ونصبح كما جاء في الحديث الشريف: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»، وقد نصل إلى أسوأ من هذه النسبة.

وعلى هذا المسار وصلت مجتمعاتنا مرارا إلى فكرة القائد الفذ، والزعيم الأوحد، فريد عصره، ووحيد زمانه، وأعجوبة قومه... نجد هذا عند الحكام، وعند قادة الأحزاب والتنظيمات المختلفة، وعند العلماء ومشايخ الصوفية...

ثالثا: البرلمان ليس "أعز ما يطلب"

أما المهدي بن تومرت صاحب كتاب "أعز ما يطلب"، فيقصد بذلك أمور العقيدة والتوحيد، وهي بدون شك أعز ما يطلب، بغض النظر عن آراء ابن تومرت فيها.
والمهم عندي من هذه العبارة هو أننا لو تحرينا أعز ما يطلب في مجالات الدعوة والإصلاح والنهضة والبناء وخدمة الأوطان، فبدون شك لن يكون المكوث في البرلمان والمرابطة على ثغوره إلى أجل غير مسمى، هو أعز ما يطلب.
وإذا كان هناك من يرى أن الترشيح للبرلمان، يجب أن يُرصد له ويستبقى فيه أكفأ الناس وأكثرهم خبرة وعطاء، ولو مكثوا هناك مرات ومرات، فأنا أرى -والعلم لله تعالى- أن في ذلك جناية، ليس على الحزب والبرلمان فحسب، بل على هذه النوعية المتميزة من الأشخاص.

فالنبغاء العلماء الأقوياء لا يجوز حبسهم وإيهامهم أنهم قد بلغوا سدرة المنتهى، وأنهم يحققون أعز ما يطلب، وإنما يجب تركهم -بل تشجيعهم -ليمضوا من مقام إلى مقام أعلى ومن عمل إلى عمل أسمى.

وأنا أعرف عددا من الأصدقاء الأعزاء دخلوا البرلمان واستكانوا إليه، فتركوا جامعاتهم، وعطلوا أطروحاتهم، ونسوا كتبهم وبحوثهم، وآخرين أماتوا طموحاتهم النبيلة، وتركوا مشاريعهم الواعدة، ومسؤولياتهم الجليلة، وبقوا يدورون بين الدورات البرلمانية والدورات الانتخابية، ظانين أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.

الرباط في25 أكتوبر 2011