مشاهدة النسخة كاملة : لا يعدم الصّبور الظفر وإن طال به الزّمن



محمّد محمّد المحب
19-11-2011, 22:03
لا بدّ من أن يغرف المسلمون كلّ المسلمين من ذلك المعين الصّافي الذي لا تشوبه شائبة: كتاب الله وسّنّة نبيّه ممّا أجمع على صحّته علماء الأمّة في إطار اجتهاد جماعيّ يعتمد مقاصد الشّريعة سواء عند تمحيص النّصوص أو عند تنزيلها، لكنّ الأمر في الحقيقة لا يعدو أن يكون طموحا حيث ما يزال بعيدا عن التّحقّق بشكل يستطيع أن يحدث الأثر المرغوب في طريقة تفكير النّاس وفي سلوكهم، وذلك بسب تمكّن داء الشّعوبيّة الذي كرّسته القطريّة في النّفوس، وبسبب ما أحدثته القبليّة بمعناها الواسع من ألوان من التّنظير للشّطط والتّخلّف، لا يستطيع أكثر المتعلّمين التّخلّص من أحابيله ناهيك عن عوامّ النّاس ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم، فمع تدجين مؤسّسة الأزهر الشّريف من قبل نظام استبداديّ وعميل وذلك بنزع إدارتها للوقف بالبلد رغبة في تحجيم دورها الاجتماعيّ وإشعاعها الدّينيّ، وبهدف القضاء المبرم على استغنائها عن التّمويل الحكوميّ الذي أتاح لها الاستقلال عن ذوي النّفوذ الاقتصاديّ والسّلطان السّياسيّ، وهو ما أحال علماءها إلى مجرّد موظّفين يأتمرون بأمر الرّؤساء، إلاّ أنّها أدت مع ذلك دورا علميّا لا يستهان به، فخرّجت رجالا أفذاذا وكوّنت أجيالا من العلماء الرّبّانيّين من أمثال الشّيخ شلتوت، ورفاعة رافع الطّهطاويّ، الشّيخ متولّي الشّعراويّ، والشّيخ يوسف القرضاويّ، وغيرهم كثير ممّن لا يحضرني اسمه، لقد جسّدت هذه المؤسّسة العريقة تنوّع المشارب الفكريّة للمجتمع المسلم، فكانت فضاء علميّا متميّزا سمح بالاختلاف، وحضر الإقصاء والأحاديّة، وهذا ممّا يحسب لهذا الصّرح ولا يحسب عليه، لقد كان للإخوة الشّيعة كرسيّا في الفقه الجعفريّ جعل الطّالب الفقيه بطّلع على تراثهم الفقهيّ، ويشعر من خلاله أنّهم رغم الاختلاف لهم ما لعامّة المسلمين من الحقوق وفي مقدّمها المساواة، وعليهم ما على أهل المذاهب الأخرى من واجبات وعلى رأسها واجب الدّفاع عن بيضة الأمّة، لقد كانت هذه الخلفيّة العلميّة والطّريقة التّربويّة تحيل الطّلاّب من عامّة المذاهب الفقهيّة إلى حقيقة مفادها: أنّه كلّما كان الإمعان في استبعاد طائفة ما من الطّوائف تحت طائلة التّعصّب كلّما استدرجت تلك الطّائفة بوعي أو بغيره إلى أن تأخذ المواقف الأكثر تطرّفا لتحمي نفسها على قاعدة المتساويّة السّياسيّة: [كلّ فعل يقتضي ردّ فعل وإن لم يكن مساو له في القوّة فإنّه يكون مضادّا له في الاتّجاه]، لعلّه من نافلة القول التّأكيد على أنّ إنزال النّاس منازلهم مطلب يقتضي أعلى درجة من اليقظة الفكريّة والنّضج العاطفيّ والسّياسيّ، كما أنّ مخاطبتهم على قدر عقولهم مظهر من مظاهر الرّشد الفكريّ الذي يقبل التّنوّع ويسمح بالاختلاف، وعلى هذا الأساس يكون التّعاطي مع اللاّعب الصّفويّ بوصفه واقعا جغرافيّا وسيّاسيّا لا يقبل الشّطب، وعلى نحو من الذّكاء والمرونة هو على مستوى عال من الالتزام الأخلاقيّ الذي يوسّع دائرة المشترك، كما يكون الإيمان باختلاف النّاس من حيث ملكاتهم وقدراتهم، أرقى أشكال الواقعيّة التي تستبعد استنفاذ الجهد وإضاعة الوقت في محاولة القضاء المبرم على تعايش أنماط التّفكير ما دامت إلى الفشل لا محالة، باعتبار أنّ الاختلاف آية من آيات الخلق الإلهيّ التي تستوجب مخاطبة النّاس على قدر عقولهم حتى لا يكذّب الله ورسوله، فبالبيان يتّضح البرهان، وبالبلاغ تؤدّى الرّسالة، والاشتغال على نزع الخرافة والبدعة لم يكن يوما ولن يكون شأنا للأزهر وحده، كما لم يكن من الحكمة استعجال النّتائج في ذلك، لأنّ آفة هذه الأمّة ليس الجهل بدينها فقطّ، وإنّما بسائر أنواع العلوم وألوان الفنون، ما جعلها إمّعة عالة على غيرها من الأمم، لذلك كان من أبرز مظاهر التّخلّف التي نجمت حتما عن التّفرّد السّياسيّ والاستبعاد الاقتصاديّ الذي يقتل في النّاس الطّموح عن سبق إصرار، فيحول بينهم وبين السّعيّ في الأرض ليحملهم على القناعة بواقع الظّلم الاجتماعيّ والخضوع للمستبدّ، وعلى القبول بالخرافة قبولا يكرّس الظّلم والجهل بمقاصد الشّريعة ومعاني التّوحيد بشكل منهجيّ، ولا أثر للمذهب في ذلك ولا فيما يترتّب عنه من نتيجة ما دام الجميع يستوي في هذه المعاملة، ولذلك أيضا كان التّعليم بوصفه عمل الأنبياء ودأب الصّالحين، ممّا يقتضي الصّبر والمثابرة و سعة الصّدر والأناة مع الحلم ليثمر ويحقّق المرغوب. لقد أفاد الشّهرستانيّ في الملل والنّحل أنّ نشوء المدارس الكلاميّة كان بسبب الموقف من الإمامة العظمى، وقد أثّر الاختلاف حوله في نشوء المذاهب فيما بعد حيث ظهرت ثلاث مدارس فقهيّة رئيسة أوّل الأمر هي: مدرسة الرّأي ومدرسة الأثر أو الحديث، ثمّ مدرسة أهل البيت، إلاّ أنّ تشعّب المذهبيّة وازدياد شوكتها خطورة بظهور الشّعوبيّة عند العرب كما عند العجم، وبظهور الغلوّ والقناعة بالتّقليد والقعود عن الاجتهاد، سيفضي بالأمّة إلى سوء المآل والمصير مادامت تعاني من هذا الانحراف المزمن في المسير، لذلك لا بدّ من تزكّية الدّعوة إلى غلق الباب على حمقى التّعصّب بالعمل الملموس والاستعداد للتّغيير، وليس بالشّعارات والتّنظير، بل لا بدّ من اجتناب التّنابز بالألقاب وتفادي الأحكام المسبقة التي تستعدي المختلف لمناقشة الأمر معه بهدوءٍ حتى تتّضح الرّؤية عند كلّ طرف! إنّ تقديم عليّ عليه السّلام وولده وآل البيت عموما على الصّحب الكرام لا يعدّ مخالفة لمعلوم من الدّين بالضّرورة، كما لا يلزم من تقديم المفضول مع وجود الفاضل الخروج من دائرة الإيمان لأنّ الاعتقاد بولاية عليّ عليه السّلام عند محقّقي الشّيعة ليست من ضروريّات الدّين وإن كانت من لوازم المذهب، أسأل الله أن يتقبّل منّي ما أتقرّب به إليه سبحانه من برّ بالنّبيّ المصطفى بتقديم عليّ وفاطمة والحسن والحسين وآل العبّاس وسائر أمّهات المؤمنين في الحبّ والولاء عن سائر الصّحب الكرام، تأوّلا لقوله تعالى: ((قل لا أسألكم عليه من أجر إلاّ المودّة في القربى))، حيث لا أجد مانعا من بيعة الخليفتين الرّاشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ما دامت التّولية قد تمّت بتحقيق ولاية الأمّة على نفسها بالاستناد إلى قواعد الشّورى المعروفة آنذاك، أي باختيار ورضا المهاجرين والأنصار، وباحترام قرار النّاس واختيارهم الحرّ، بل باحترام رأي الإمام عليّ نفسه الذي بايع عليه السّلام الخليفتين عن رضا ببيعة النّاس وقبول بها من غير إكراه، فكان لهما نعم الوزير ونعم المشير، بل لا بدّ من أن يتأسّس التّجديد بإعمال الاجتهاد الجماعيّ على نحو يستوعب الحالة الإسلاميّة استيعابا شاملا من خلال نظام معياريّ وواقعيّ يكوّن الإطار العامّ الذي يضع أمام فعّاليّات الأمّة السّياسيّة ومكوّناتها الاجتماعيّة هدف الإصلاح الشّامل والمستمرّ ويجعل أهدافه قيد الفعل على المستويات الأربعة التّالية بحسب اقتراح العلاّمة المجتهد سماحة المرجع الشّيخ حسين المؤيّد في بحث قدّمه أمام المؤتمر العشرين للمجلس الأعلى للشئون الإسلاميّة حول موضوع "مقوّمات الأمن المجتمعيّ في الإسلام " بعنوان: (المنظومة الفكريّة والمعياريّة للأمن المجتمعيّ)، حيث اقترح:
ـ على المستوى الفكريّ: مواجهة حالات الغلوّ والجهل والخرافة والانحراف والسّطحيّة الفكريّة الّتي تأخذ إمّا شكلا تكفيريّا يعادي المجتمع، أو شكلا فولكلوريّا يساهم في تيئيس النّاس وتضليلهم، فيدفعهم بذلك إلى الانسحاب الطّوعيّ من ساحة الفعل الحضاريّ
ـ على المستوى الاقتصاديّ: الحفاظ على الوجود في ظل اقتصاد معولم تسيطر عليه الكتل والقوى الاقتصاديّة الكبرى وعلى ثروات الأمَّة من النَّهب والاستنزاف، ثمّ ببناء القوّة الذاتيَّة والعمل على تحقيق التقدّم العلميّ في مختلف المجالات، وبتحقيق التّنميّة المستدامة على أساس متين من العدالة في التّوزيع من غير تعطيل للمكاسب والأعمال التي لا تستقيم حياة النّاس إلاّ بها ودون السّماح بالتّعاملات المحرّمة
ـ على المستوى الاجتماعيّ: الاحتفاء بموجّهات الفاعليَّة الحضاريَّة والعناية بالثّوابت التّأسيسيّة الدّاعمة لتماسك المجتمع عناية تأصيليَّة واجتهاديّة تلغي الطّائفيّة العشائريّة منها والمذهبيّة وتحمي المقاومة بوصفها خيارا شعبيّا يبرز المنطلقات الفكريّة لكلّ نقد حركيّ يثري التّجربة الإسلاميّة ويحافظ على وجهها الجهاديّ الذي يحضّ كلّ مسلم على مصارعة الهوى والشيطان، وعلى صدّ أعداء الأوطان وحماية كرامة الأمّة من الامتهان
ـ على المستوى السّياسيّ: مواجهة التجزئة والاستبداد والتّصدّي للاحتلال وأطماع الدّول ((العظمى))، ومأسسة التّعدّديّة والشّورى وإنهاء ما يفرضه غيابهما من أشكال طائفية وعشائريّة وتفرّد سياسيّ لا يقلّ خطرا عن التّحدّي الصّهيونيّ، وذلك بتكريس الحرّيّة والمشاركة الشّعبيّة في تحديد الأولويَّات وبناء الخيارات الإستراتيجيّة، وفي نقس الاتّجاه أيضا تسير نظريّة «المرجعيّة المؤسّسة» للمرجع الشّيعي الرّاحل العلاّمة محمّد حسين فضل الله وهي عبارة عن منهجيّة متكاملة تختلف مع الصّيغة التّقليديّة للمرجعيّة التي سار عليها الشّيعة الأوائل، مادامت طبيعة الظّروف السّياسيّة والاجتماعيّة التي تحيط بالمسلمين، وضخامة التّحديات التي تواجه مجتمعهم تفرض إحداث نقلة نوعيّة في واقع المرجعيّة كجهاز ينبغي أن تتشكّل معالمه وفق صيغة جماعيّة جديدة تضفي عليها صبغة العمل المؤسّسي والمنظّم، ولعلّ هذه الغاية هي ما حذا بالعلاّمة المجتهد الشّيخ يوسف القرضاوي إلى تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لخدمة القضايا الإسلامية والاستمداد من منهج الإسلام، والاستهداء بهديه في كل الخطوات، وتمثيل المسلمين بكل مذاهبهم بما يجعله في منأى عن المحليّة والإقليميّة، والطّرح القوميّ أو الأيديولوجيّ، مستقلاّ عن الحكومات منفتحا على سائر المكوّنات الفقهيّة تفاديا للتّفرّد بالرّأي واستبعاد الرأي المختلف، لقد سعى كلّ عالم من هؤلاء الأفاضل نحو انطلاقة جرّيئة تردم الفجوات وتصل النّفوس والعقول والقلوب بمناخ الرّسالة العامّ الذي جعل المسلمين على اختلاف ألوانهم ولغاتهم أمّة واحدة، والذي جمع عموم السّلف من الآل الأطهار والصّحب الكرام الأبرار تحت سقف الإسلام نداء الحياة ودعوة النّبيّ الخاتم بدون أي قيد آخر إلاّ النّصيحة لله وللرّسول ولعامّة المسلمين وخاصّتهم والرجوع إلى القرآن والسّنّة اللّذين لم ولن ينته دورهما بموت النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، واللّذين ما يزال الرجوع إليهما حلاّ لعقد الاختلاف وترسيخا لروابط المحبّة والائتلاف