مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في مقالات حول اتّفاقيّة «إيكس ليبان»



محمّد محمّد المحب
05-01-2012, 20:10
لمن لم يعش من الشّباب الناشئ تلك الفَترة العسيرة من تاريخ المغرب، لبعضِ مَن عاصَروا أحداثَ الاحتلال المَهُولَةَ ولم يَعُوا حقائقها بفعل ما كانوا عليه من تخدير التّهريج الحزبيّ وخذلان دعاياته الباطِلة السّافلة، فكلمة "الاحتقلال" هي من نحت بطلِ الرّيف المجاهدِ محمّد بن عبد الكريم الخطّابيّ رحمه الله، وهي كلمةٌ مركبة من "الاحتلال" و"الاستقلال"، فغرابة تركيبها تدلّ على شكّ واضح في حقيقة ما حصَّل عليه المفاوضون من الاتّفاقيّة المشئومة، وعلى إنكار معلن لاستحواذ الحزب الذي قرّر أن يفرضِ فيما بعد احتكاره للمشهد الحزبيّ بالعنف، ذلك العنف الذي لم ينفرد به جناح من أجنحته دون آخر، فما حصل من انشقاق وإن كانت بوادره ظاهرةً فإنّه لَمْ يُعلَنْ إلا بعد ثلاثِ سنوات من دخول الاتّفاقيّة المخزيّة حيّز التّنفيذ، ما يفيد مشاركة الأجنحة الحزبيّة مجتمعة فيما ورّطت فيه البلد عن رضا واختيار، أورد الأستاذ معنينو في ذكرياته رسالة بعث بها الخطّابيّ من القاهرة إلى صديقه الوازّانيّ بتاريخ27 يوليو 1960، وهي رسالة تقطرُ أسىً وأسفاً على هذا "الاحتقلال" البيّن الذي يحتفل به الشعب المغربيّ المُتفائل وهو يصارِع الإرادة المخزنيّة، في وقت كان فيه الحزب المتفرّد بالسّلطة يسقط حكومةٌ تلو أخرى، في بَحثٍ دائم عن ذلك "الانسجام" الموهوم الذي كان يشاطر القصر في تصوره بوَلاءٍ غيْرِ مشروطٍ، ففي حفلات بذخ كانت أبرز الوجوه الحزبيّة تسعى إلى الاستيلاء على مواقع القرار في الدّولة لمَلْءَ الفراغات، بينما لم يكن قادة جيش فرنسا قد غادروا الدّيار، وعامّة الشّعب في نَشوةٍ لا يفطِنون إلى ما صاغه صانعو الفظائع في كهوف التعذيب من احتلال من نوع جديد، يكتب الخطّابيّ: ((إن ما أصابنا ويصيبُنا، وما نراه يحدُث في بلادنا من المنكر ومن الاتجاه الذي تسير فيه بعض الطّبقات من التّقليد الأعمى والمرُوق من الدّين الحنيف، مَنشأُهُ عدم الاهتمام من الذين يعنيهم الأمر في الحقيقة، وعدم الاكتراث بالنّهي عن المنكر والأمر بالمعروف الواجب على كل مسلم عاقل يريد الخير لأمته وبلاده، (...) ففُشُوُّ الخلاعة والزّندقة والإلحاد، والانحلال في الأخلاق الذي نراه من خلال الوقائع، فشيْءٌ تنفطر منه الأكباد، وشيْءٌ يُنذرُ بالفناء والدَّمار والهلاك والتلاشي لأمتنا الكريمة، أصبحنا في وضعية لا ناهيَ فيها ولا مُنتهيَ))، وهو ما شجبَه الأستاذ علالٌ بنفس الأسف، عندما رأى من سياسة المسخ الثقافيَّ رأي العين، فانبرى ينتقدَ أسبابه وظواهره ونتائجه الخبيثة في كتابه القيّم "دفاع عن الشريعة"، لقد شجب الخطابيُّ على نحو صادق وشجاع ضُلوعَ المفاوضين في خذلان إخوانِهم في الجزائر بما أتاحوا لفرنسا من تفرغ، فكتب: ((كيف نسمح لأنفسنا أن نعيد مصالحة السلطان المولى عبد الرحمان لفرنسا سنة 1830، وخذلانَهُ لجهادَ الأمير عبد القادر الجزائريّ رحمه الله؟، كيف نترك الجزائريين يُقاتلون وحدهم، فنُمكن الفرنسيّين الغاصبين من هذا القطر الجار الذي يعدّ قنطرة لابتلاع بلدنا؟ ألا سُحقاً للظّالمين، وتَبّاً للمنافقين، وخُسرانا للمذَبذبين، وهلاكا للمتسلّقة الانتهازيّين الذين داسوا كرامتَهم وكرامة أمّتهم، مفضّلين الرّاحة والتّمتع بالشّهوات، ثمّ أليست اتّفاقيةَ إيكْسْ ليبان هي عين اتّفاقيّة جي مولي مع بورقيبة؟؟ أليست في حقيقتها مؤامرةَ مدبّرة نجح فيها العدوّ وعملاؤه [((من سمّاهم الفقيه البصريّ "القوّة الثّالثة"))] في تخدير الشّعب المسلم وتشجيعه على الاطمئنان إلى استقلال مزيّف؟ وهو ما يجب أن يطلق عليه الاحتقلال؟ إنّنا حصّلْنا على معلومات دقيقة ومفصّلة تفصيلا كافيا لكشف كلّ المؤامرات المصطنعة التي دبّرت للمجاهدين، مما جعلنا نأسَفُ لحدوث ما شوّه سمعة بلدنا، ومسَخ تاريخنا، وسوّد صحيفة وجودنا كأمّة شريفة ذات تاريخ مجيد)) ويُفضي هذا البطل المجاهد إلى صديقه ببعض المعلومات الدقيقة التي تحمِل بين طيّاتها قوائمَ بثمانين مركز للتّعذيب والتّقتيل بعناوينها المضبوطة، منها الدّور والكهوف والسّراديب والضّيعات ونقط البوليس ومراكز السّلطة، ويَعدّ9672 معتقلا أغلبهم من المجاهدين، ولم يبق وقتها طليقا في السّاحة سوى عناصر الاحتلال الدّاخليّ التي سخّرتها فرنسا لحماية مصالحها وتصفية جيش التّحرير. لم تسمح فرنسا بهذا الاستقلال المجزوء هكذا لوجه الله، فقد أعطته بشروط أوّلها أن تظلّ هذه الاتّفاقيّة المخزية في «إكس ليبان» سرّا من أسرار الدّولة التي لا يجب رفع السّرّيّة عنها، مع ضرورة أن يحافظ الحزب المفاوض على مصالح فرنسا في المغرب لمدة مائة عام من تاريخ «إعلان الاستقلال» أو ما سماه «غي مولي»، رئيس الوفد المغربي المفاوض ورئيس مجلس الوزراء الفرنسي، بالاستقلال داخل الاستقلال، وطبعا، ليست هناك من وسيلة للمحافظة على مصالح فرنسا الاقتصاديّة في المغرب سوى عبر تقويض التّعليم التّقليديّ بالعربيّة وتقويّة التّعليم العصريّ باللّغة الفرنسيّة لتمتين الرّوابط الثّقافيّة بفرنسا، وهكذا رأينا كيف ظلّ زعماء الحزب أوفياء لهذا العهد إلى اليوم، لقد ظلّوا حريصين على تعليم أبنائهم في مدارس البعثة الفرنسيّة وإرسالهم إلى فرنسا لاستكمال الدّراسة العليا هناك، ثم العودة إلى المغرب لاحتلال مناصب المسؤوليّة التي يخدمون من خلالها بلد الحماية ومصالحه، وتكفي فقط مراجعة أسماء الشّركات التي تفوز بالصّفقات العموميّة الكبرى للوقوف على حقيقة مفادها أنّ أغلبها إن لم تكن كلّها شركات فرنسيّة. وسواء في الطّرق السّيّارة، أو في التجهيز، أو في الصّحّة، أو في الّنقل، وحتى في التّعليم، وبالعودة إلى مفاوضات «إيكس ليبان» بقيادة «غي مولي»، سنكتشف أنّ أغلب أعضاء الوفد المفاوض قد خرج بعد التّوقيع على الاستقلال المشروط بهدايا ثمينة أصبحوا بفضلها من أصحاب المليارات، وهي إمّا هدايا عينيّة تمثلت في الاستغلال الحصريّ لشركات فرنسيّة كبرى تركت تحت تصرّفهم، أو عبارة عن مواقع سياسيّة تمثلت في مناصب حكوميّة وأخرى ساميّة، لكن في مقابل ذلك كان لزاما عليهم تصفية المقاومين وحلّ جيش التّحرير حتى لا يقع المغرب بين أيدي هؤلاء الرّجال الأشاوس الذين قاتلوا جيشها في الجبال والمدن والبوادي بشراسة، وللإبقاء عليه بين أيد أمينة لتجّار البورجوازيّة الطّفيليّة الذين تعودوا على التّقلّب في المناصب المخزنيّة أبا عن جد، وهكذا، تمّ تدشين أولى الحملات الدّمويّة بدار بريشة في تطوان، وبمعتقل «غفساي» في تاونات، وبمعتقل دار المقري بالرّباط، وبإحدى مفوّضيّات الشّرطة/«الساتيام» بالبيضاء، وهي المراكز التي أعدم فيها وعذّب حتى الموت أكثر من تسعة آلاف مقاوم أو مشتبه به في حملة ضدّ لجن المقاومة ما بين 1956 و1960. ومنذ السّنوات الأولى للاحتقلال، أصبح الحزب المفاوض يسيّر الأمن والعدل والسّجون، وأصبح أعضاؤه عمالا وقضاة ووزراء في الخارجيّة. لقد اتّضح مع مرور الوقت وتغيّر الظّروف الدّاخليّة والدّوليّة أنّه في الوقت الذي سلّم فيه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان رفات الفقيد عبد السّلام الطّود الذي اختطف من طرف ميليشيات الحزب إلى عائلته المعروفة بشوريّتها لدفنه وسط حضور جماهيريّ كبير بمقبرة القصر الكبير أنّ تهمة الرّجل مثل كثير ممّن طوردوا واضطهدوا، أو اعتقلوا وعذّبوا حتى الموت، هي المعارضة العلنيّة لاتفاقية «إيكس ليبان» التي ظلّت بنودها سرّيّة، وأنّ مرحلة كتلك الممتدة ما بين 1956 و1959، تاريخ حلّ جيش التحرير وتصفية حدو أقشيش وإبراهيم الوازّانيّ وعبّاس المساعديّ تستحق فعلا دراسة تاريخية علمية معمّقة ومتجرّدة بوصفها فترة مهمّة في تاريخ المغرب المعاصر، ولعل أوّل سؤال يجب أن يجيب عنه الباحث في معرض تلك الدّراسة هو في أيّ سياق جاءت هذه المفاوضات؟ والحال أنّ عوامل أخرى ساعدت على حصولها، منها تكبّد الجيش الفرنسيّ في الهند الصّينيّة هزائم ثقيلة أجبرته على الانسحاب من المستعمرات، ومنها أيضا الرّغبة في تقويض مخطّط مكتب المغرب العربيّ بقيادة الأمير عبد الكريم الخطّابيّ الذي وقّعه آنذاك عن الجانب المغربيّ علاّل الفاسي، وعن تونس الحبيب بورقيبة، والشاذلي المكّيّ عن الجزائر، والذي ينصّ بنده الثاني على ضرورة مواصلة الكفاح حتى تحرير المغرب العربيّ الكبير، فكان ضروريّا بالنّسبة لفرنسا حتى لا يفلت زمام الأمور من قبضتها أن تجد طريقة لفكّ هذا الارتباط، حيث اقترح رئيس الحكومة الاشتراكيّ «بيير مونديس فرانس» فكرة الاستقلال الذّاتي على تونس فقبلت، واقترح على المغرب مفاوضات «إيكس ليبان» بشروط فقبل، وعلى هذا النّحو انفردت فرنسا بالجزائر التي تعتبرها امتدادا طبيعيا لها، وهذا ما جعل الصّراع يدور بين حزب الاستقلال والمنشقين عنه فيما بعد حول مفاوضات منحت المغرب استقلالا مشروطا بتبعيّة اقتصاديّة كاملة لفرنسا، وهو ما دفعه من موقع السّلطة والحكم إلى قمع أيّة معارضة لكي يستطيع الوفاء بتعهّداته التي وقّع عليها مع الفرنسيّين، وعلى هذا الأساس جنّد مليشياته الدّمويّة وشيد معتقلاته السّريّة الرّهيبة التي سيختطف إليها معارضيه لتعذيبهم وتصفيتهم، وهي معتقلات سرّيّة عرفها المغرب قبل معتقل تمارة بسنوات طوال، وإلى اليوم لا يزال مصير العديد من هؤلاء المختطفين مجهولا، وفي مقدّمهم الأخوان الحدّاوي اللّذان كانا ينتميان إلى منظمة «الهلال الأسود». وبالموازاة مع المطاردة الميدانيّة شنّ الإعلام الحزبيّ حملة تشويه لرموز المعارضة، حيث قامت الجرائد النّاطقة بلسانه بالتّشهير بكلّ من حاول التّنصل من بنود هذه الاتّفاقيّة الاستعماريّة خصوصا بعد أن شعر بعض الموقّعين عليها بحجم الخطأ الذي ارتكبوه في حقّ بلدهم، فحاولوا استغلال مناصبهم السّياسيّة لوضع أولى اللّبنات لبناء مؤسّسات اعتقدوا أنّ تأسيسها سيضمن للمغرب استقلالا اقتصاديّا، وقد ظهر جليّا خلال أحداث الرّيف سنة 1958 و1959، أنّ للحزب المنفرد بالسّلطة آنذاك دور كبير في سحق النّخبة المناوئة، وأنّ القضاء المبرم على ثورة الرّيف قد نفّذه الجنرال أفقير الذي كان منتجا خالصا للجيش الفرنسيّ، والذي اشترط تنصيبه لحقيبة الدّاخليّة والدّفاع مؤسّس الموساد الإسرائيليّ الصّهيونيّ «إيسير هاريل» خلفا لمحمّد الغزاويّ الذي أنهى مهامّه وأدّى مهمّته «بنجاح» على رأس هذه الوزارة، لقد كان النّظام السّياسيّ وهو يمحق انتفاضة الرّيف، مرعوبا من تمرّد ينتهي باستقلال ذاتيّ يجعل المنطقة تحت نفوذ منافس إسباني يقاسم فرنسا استعمارها الاقتصاديّ للمغرب، ففي إحدى تلك الرّسائل نشرتها صحيفة "كفاح المغرب العربيّ" التي كان يصدرها أنصار جيش التّحرير من دمشق بتاريخ 7 يناير 1956، وتحت عنوان: "بطل الرّيف يحذّر المتخاذلين ويدعو الشّعب لمتابعة النّضال" وجّه الخطّابيّ النّداء التّالي: ((أيّها الإخوان، إنّ الظروف قد حتّمت علينا أن نوجّه إليكم هذا النّداء حتى لا يفوت الأوان، فهناك جماعة متضامنة من المستغلّين تتربّص بكم الدّوائر، وتريد أن توقعكم من جديد في قبضة الاستعباد بعدما حملتم أسلحتكم وأدركتم ما يجب عليكم فعله لأخذ حرّيتكم واستقلالكم، هذه الجماعة قد باعت الكرامة والشّرف والوطن وسلمت البلاد لطائفة قليلة من المستعمرين بثمن بخس، هو تلك المناصب الزّائفة الحقيرة والمهينة، وقد سبق للمحتلّ أن صنع مثل هذه الفئة في تونس وعمل معها ما سوّد تاريخ هذا البلد المسكين، لولا أن قيض الله في الآونة الأخيرة لها رجالا لم يرضوا بتلك المهانة وصاروا يحاربون اتّفاقية الخزي والعار. ويمكننا أن نقول إنّ تونس اليوم ثائرة على الذين سلّموا بلادهم وماضية في محو العار، وهي بلا شك ناجحة بإذن الله لأن الحقّ يعلو ولا يعلى عليه، وكل ما كان أبرم بواسطة جماعة دعاة الهزيمة وعشّاق المناصب قد انهار تماما، وسوف ينهض التّونسيون لاستئناف الكفاح في الوقت اللاّئق والمناسب. إنّ الشّعب الفرنسيّ ليس في نيّته أن يحارب مرّة أخرى ليخلق هندا صينيّة جديدة في شمال إفريقيا. وقد اقتدت جماعة الرّباط بجماعة تونس المستسلمة فأبرزت اتّفاقية إكس ليبان إلى حيز العمل والتنفيذ، وأخذت تناور وتدلّس وتغري الشّعب بالكلام المعسول. وهي سائرة في نفس طريق اتّفاقية تونس، وستطالب المناضلين بإلقاء السّلاح، بعدما طلبت منهم الهدوء بحجّة أنّ المفاوضة لا تكون إلاّ في الهدوء، والهدوء لا يكون إلا بإلقاء السّلاح وتسليمه لهذه الجماعة التي تجلس على كراسيّها تتفرّج على الأعداء وهم يجهزون على ما تبقّى من الجزائر. فحذار من السّقوط في الفخّ المنصوب، وإنّنا على يقين من أنّ الشّعب المغربيّ سوف يستمرّ في الكفاح والنّضال إلى أن يُخرِجَ آخرَ جنديٍّ فرنسي من شمال إفريقيا، أيها الإخوان دعاة الهزيمة موجودون في الأقطار الثلاثة من بلادنا، فلا يجوز بأي حال من الأحوال بأن يسمح لهم أن يثبطوا من عزائمنا أو يوهنوا من عقيدتنا في الكفاح الشّريف، فالنّصر حليف المناضلين في سبيل الحقّ. وإنّنا لا نريد أن تفوت هذه الفرصة من غير أن نلفت نظر الشّعب الفرنسيّ إلى أنّ إهدار كرامة الشّعوب ليس من شيم الأمم المتمدّنة، ولا من خصال المؤمنين بالأديان السّماويّة)). بعد حلّ جيش التّحرير ومطاردة زعمائه من طرف الميليشيات الحزبيّة واغتيال النّاشطين في المنظّمات والأحزاب المعارضة لاتفاقية «إكس ليبان» وبنودها السّرّيّة التي سلّمت بموجبها فرنسا المغرب استقلاله المشروط بالبقاء رهن التّبعيّة الاقتصاديّة واللغويّة والثقافيّة لها، تسلّم محمّد الفاسيّ حقيبة أوّل وزارة للتّعليم لذلك فهم الحزب، منذ البدء، أنّه للاستمرار في احترام التّقسيم الاستعماريّ للمغرب إلى مغرب نافع ومغرب غير نافع، يجب تقسيم التّعليم بدوره إلى تعليم نافع وتعليم غير نافع، تعليم مجدٍ وعلميّ ينتج نخبة تتحكّم في أغلبيّة ستتلقّى تعليما متواضعا لا يحترم متطلبات سوق الشّغل. وهكذا، ففي سنة 1957 سيعلن عن قرار تعريب التّعليم الإعداديّ انسجاما مع الهوّيّة الدّينية للمغاربة، كما تقرّر مع قرار المجلس الأعلى للتّعليم الوطنيّ بضغط من الحزب بطبيعة الحال، تعريب التّعليم العموميّ بجميع مراحله، بينما كان الأثرياء والسّياسيّون والوزراء يوجّهون أبناءهم إلى مدارس البعثات الفرنسيّة ليستقبلوا بالأحضان، ولمن أراد العودة إلى المواقع الإلكترونيّة لمدارس هذه البعثة ليجد التّواريخ التي نال فيها أبناء هذه ((الطّبقة)) شهادة الباكلوريا ليتوجّهوا بعد ذلك إلى استكمال الدّراسة في الخارج، وهو ما يؤكّد إلى حدّ ما حرص المحتل على إلزام المفاوضين في «إيكس ليبان» بالحفاظ على النّخبة واشتراط ضمان مصالحها لضمان تبعيّة البلد اقتصاديّا ولغويا، وإلاّ ما حاجة حزب وقته إلى جريدة يوميّة ناطقة بلغة المحتلّ تروّج ثقافته وذوقه ونمط حياته وهو المدافع عن اللّغة العربيّة والثّقافة الإسلاميّة بمقتضى مقرّره الأيديولوجيّ؟ لعلّ الرّغبة في الحفاظ على «الوجود الفرنسيّ» بوصفه ضمانا لمصالح النّخبة كان يقتضي الازدواجيّة في السّياسة التّعليميّة بالتّوجّه نحو فرنسة أبناء النّخبة لتتلقى تعليما عصريّا في مدارس البعثة يسند تكوينا متطوّرا في معاهد فرنسا المرموقة، كمدرسة «الطّرق والقناطر» ومدرسة «المناجم» ومعهد HEC، لقد تخرّج من هذه المؤسّسات أغلب أبناء السّاسة والزّعماء وأبناء الأسر الثّريّة فأصبحوا وزراء ورؤساء مؤسّسات عموميّة، ينفّذون تبعا لتكوينهم الفرنسيّ سياسة تحافظ على مصالح فرنسا وتنمّيها، وللتّأكّد من ذلك يكفي الرّجوع إلى أسماء الشركات التي تتعاقد معها الدّولة للوقوف على حقيقة أنّ الأغلبية السّاحقة من هذه الشّركات فرنسيّة، تستهلك منتجات فرنسيّة، وتوظّف مكاتب دراسات فرنسيّة، بخبراء فرنسيّين. فرنسا اليوم، تعتبر المستثمر الأجنبي الأول في المغرب. والاسم الذي تطلقه فرنسا على هذا الاستثمار هو «الوجود الاقتصاديّ الفرنسيّ»، وهي أرضيّة تجمع كل الشركات الفرنسيّة المتواجدة بالمغرب والتي لديها ارتباط مباشر بالشّركات الأمّ الموجودة بفرنسا، وبالإضافة إلى فروع هذه الشّركات، هناك المكاتب التّمثيليّة والشّركات الخاصّة. الجميع يعرف أنّ الشّركات الفرنسيّة الموجودة بالمغرب تندرج ضمن تجمّع يعرف بحسب التّسمية التي أطلقتها غرفة التّجارة الفرنسيّة والصّناعة بالمغرب وهي: «الوجود الاقتصاديّ الفرنسيّ» ، لكن ما حكاية «الوجود الاقتصادي الفرنسي» بالضبط؟ إذا عدنا إلى تلك الصفحات المنسيّة من التّاريخ الرّاهن للمغرب، فإنّنا سنعثر على جذور هذه المؤسّسة في بداية الخمسينيّات، حيث كانت عبارة La Présence Française تحيل إلى منظّمة تدافع عن المصالح الاقتصاديّة للمستعمر الفرنسيّ بالمغرب، ولم تكن هذه المنظّمة تكتفي بالدّفاع السّلميّ، بل كانت لديها ذراع مسلّحة تقودها ميليشيات تطارد المقاومين المغاربة كان من بين أبرز أعضائها الدكتور «كوس»، و«كاترين لاكوست» و«جون دوشاطو» والصّحافي «ماكسينس طوماس»، ونظرا لاحتياج منظّمة «الوجود الفرنسيّ» إلى ذراع إعلاميّة لإدارة المعركة، كانت فكرة تأسيس مجموعة «ماص» الإعلاميّة التي أصبحت تتحكم في الأغلبيّة السّاحقة من الصّحف الصّادرة في المغرب، وأطلقت جرائد بالفرنسيّة أهمها «ليكو دي ماروك»، و «لوبوتي ماروكان»، و «لافيجي ماروكان»، و «لوكوريي دي ماروك»، و «لاديبيش ماروكان»، وقد تخصصت هذه «الجرائد» في الدّفاع عن الأيديولوجيا العنصريّة الاستعماريّة للمنظّمة، وفي تحويل المقاومين المغاربة إلى إرهابيّين، ولعلّ أكبر ضربة تلقتها منظّمة «الوجود الفرنسيّ» كانت هي اغتيال أحد أدمغتها المفكّرة وأحد أكثر أعضائها تأثيرا، ويتعلق الأمر بالدّكتور «إميل إيرود» الذي تربّص به ثلاثة مقاومين يوم 30 يونيو 1954، هم محمّد بلمختار، وإدريس لحريزي، وإبراهيم فردوس، وأردوه قتيلا في أحد شوارع وسط الدّار البيضاء، الآن وقد مرّت مياه كثيرة تحت الجسر ونسي المغرب مقاوميه ونسيت فرنسا معمّريها، ما جدوى تسمية غرفة التّجارة والصّناعة الفرنسيّة للشّركات الفرنسيّة الموجودة بالتّراب المغربيّ باسم «الوجود الاقتصاديّ الفرنسيّ»، علما بأنّ هذه التّسمية تعني في الوجدان الشّعبيّ المغربيّ ما تعنيه؟ السّؤال نفسه يطرحه كثيرون عن جدوى الاحتفاظ بتسمية الثّانوية الفرنسيّة التي تجسد التّمثيل الأسمى للتّعليم والتّكوين الفرنسيّ باسم «ليسي ليوطي»، علما بأنّ هذا الاسم فيه حمولة استعماريّة واضحة، بحكم إحالته على اسم الماريشال الذي كان مشرفا على تنفيذ مخطّط الاستعمار الفرنسيّ بالمغرب. والمصيبة أنّ اسم هذا الماريشال، الذي استعمر المغرب وقتل أبناءه بالآلاف، أصبح مرادفا لدى المغاربة للتّعليم الجيّد الذي يضمن مواصلة التّكوين في معاهد فرنسا والحصول على شواهد تصلح لتقلد مناصب المسؤولية، هكذا، عوض أن يكون ليوطي رمزا للاستعمار أصبح رمزا للتّعليم الجيّد الذي يتهافت عليه المغاربة ليدفعوا من أجله نصف رواتبهم الشّهريّة، إن إصرار غرفة التجارة والصناعة الفرنسيّة بالدّار البيضاء على جمع ما تشرف عليه من شركات وفروع مؤسّسات ماليّة بالمغرب ضمن مؤسّسة واحدة تطلق عليها اسم «الوجود الاقتصاديّ الفرنسيّ» ليس من قبيل الصّدفة العابرة، بل هو رسالة واضحة إلى كلّ من يقرأ التّاريخ ويفهمه، مفادها أنّ هناك جهات في فرنسا لازالت تعتبر المغرب مستعمرة تابعة لنفوذها الاقتصاديّ لا يحق لأيّة دولة أخرى الاقتراب منها. وكما كانت لمنظّمة «الوجود الفرنسيّ» صحافة «ماص» التي تدافع وتبرّر سياستها العنصريّة الاستعماريّة، هناك اليوم صحافة فرنكفونيّة مجنّدة يوميّا وأسبوعيّا للدّفاع عن مصالح الوجود الفرنسيّ في المغرب، فهي من فرط استعلائها على ثقافة البلد ولغته ومقدّساته، أعادت إلى الواجهة صحافة «ماص» بصيغة جديدة منقّحة ومزيدة تطالب من خلالها وبشكل علنيّ بإلحاق المغرب بفرنسا لغويّا وثقافيّا وسياسيّا، متجاهلة كم هو مكلف هذا الخضوع لسلطة الشّركات الفرنسيّة التي تتحكّم في قطاعات الخدمات العموميّة الأكثر حيويّة بالنّسبة لخزينة الدّولة، فبعد مرور أكثر من نصف قرن على الاحتقلال، نجد أنّنا لا نستطيع التّحكم في قطاع تدبير الماء والكهرباء والتّطهير والنّقل بشكل حاسم وحازم ينهي الأزمات الطّارئة في المدن الكبرى، فأغلب الأطر الأجنبيّة التي تأتي بها هذه الشّركات للعمل بالمغرب تأتي بها لتوفّر أموالا يتمّ تحويلها بعد أن تضاف إليها الأرباح السّنويّة إلى عملة صعبة ثمّ تخرج من المغرب، لذلك تعاني البنوك المغربيّة اليوم من شحّ في السيولة، حيث إنّ احتياطي العملة الصّعبة في بنك المغرب اليوم لم يعد يكفي لتغطية ستّة أشهر، أي أننا نقترب من مرحلة الخطر بسبب هذا النّزيف الذي تعرفه خزينة الدّولة بفعل تضخّم أرباح الشّركات الفرنسيّة بالخصوص، وحرص هذه الشّركات على إرسال ما جنت من أرباح بفضل المعاملة التّفضيليّة التي تتمتع بها إلى الشّركات الأمّ التي أصبحت تعاني أزمات حادّة نتيجة الأوضاع الاقتصاديّة الصّعبة في أوربّا، ولعلّه ليس من المستغرب أن نرى كيف أنّ المشاريع الكبرى والقطاعات العموميّة المربحة المفروض في الدّولة والجماعات تسييرها وعدم تفويتها إلى الخواصّ، أغلبها محتكر من طرف شركات فرنسيّة، فالمغاربة هم من سيدفع الثّمن كمستهلكين ممّا ستحصل عليه شركة «ألستوم» من تلك الصّفقات العموميّة الكبرى من حجم «التي.جي.في» و«طرامواي» الدار البيضاء. لقد أصبحت أغلب الدّول الصّناعيّة المتطورة، كألمانيا وإيطاليا واليابان وغيرها مقتنعة تماما بأنّ المغرب هو مجرّد حديقة خلفيّة لفرنسا، لذلك فهي تأبى خوض غمار منافسة فعليّة لهذا الاحتكار لاعتقادها بعدم جدواها، وهو ما يحرم البلد من الاستفادة ممّا تسهم به عروض تلك الدّول في تخفيض كلفة المشاريع الكبرى على ميزانيته المختلّة، فالمؤكّد أنّ هذا الاحتكار هو أبرز مظاهر التّبعيّة التي كرّستها اتّفاقيّة إيكس ليبان التي لم تكتف بالمجال الاقتصاديّ، وإنّما وضعت برنامجا تعليميّا مضبوطا لتكوين نخبة سيعهد إليها بالسّهر فيما بعد على الّتدبير المفوّض لمصالحها عن بعد وبتكلفة أقل، إنّ التّعليم بالنّسبة لفرنسا واجهة أساس للدّفاع عن المصالح في المستعمرات السّابقة، فخريجو المدارس والمعاهد العليا الفرنسيّة يعتبرون بحقّ أحسن المدافعين عن «الوجود الاقتصاديّ الفرنسيّ» بحكم الدّراسة في فرنسا، والتّشبع بالثقافة والقيم الفرنسيّة الغربيّة، فليس سرّا أن خرّيجي كلّ هذه المعاهد يحتلّون مناصب مهمّة في المؤسّسات الحكوميّة والعموميّة، بل حتى الخاصّة لأنّهم الأكثر حظوة بالحصول على مناصب عمل أكثر بكثير من خريجي معاهد كندا وأمريكا الشّماليّة. الرّسالة إذن واضحة، المعاهد الفرنسيّة هي وحدها القادرة على منح مفاتيح الوصول إلى المناصب السّامية، والحصول على المناصب العليا في إدارة المؤسّسات العموميّة، وعلى هذا النّحو نجحت فرنسا في تشكيل نخبة «محلّيّة» قادرة على الوصول إلى مناصب المسئوليّة، تضمن من خلالها المصالح الحيويّة لتحقّق بذلك أهم بند في الاتّفاقية وهو البند المتعلق باحترام مبدأ «الاستقلال داخل التبعيّة»:«Indépendance dans l’interdépendance»، لذلك يصبح الكشف عن مضامين هذه الاتّفاقيّة المخزيّة وبنودها اليوم قبل الغد ضرورة قصوى من الضّرورات المنهجيّة التي من شأنها مساعدة المغاربة على تعرّف موعد انتهاء صلاحيتها المهينة، فيتفرّغوا «للجهاد الأكبر» ليرسموا لأنفسهم خطّة سياسيّة واقتصاديّة يتخلّصون بها من تبعيّة دفعوا ثمنها غاليا، ويحصلون على استقلال كامل وفعليّ. لقد صاغ المغفور له محمّد الخامس مباشرة بعد العودة من المنفى عبارته المشهورة بحكمة ودقّة فقال رحمه الله وهو الخبير بمتطلّبات المرحلة: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وذلك بعدما لم يجد من وصف يطلقه على المهمّة التي تنتظر المغاربة سوى وصفها بالجهاد الأكبر، جهاد بدأ مع أوّل حكومة، لكنّه ما فتئ أن عرف في مسيرته تذبذبا تارة وتراجعات أخرى ونكسات أحيانا كثيرة بفعل ما كان ينتهج من سياسة ارتجاليّة تغيّب التّطلّعات الحقيقيّة للمواطنين، فرنسا، مثلها مثل جميع الدّول ذات التّاريخ الاستعماريّ، تعرف أنّ اللّغة أداة فعالة في إطالة أمد الاستعمار الاقتصاديّ داخل المستعمرات السّابقة. ولهذا الغرض، أنشأت وزارة خاصّة بالفرانكوفونيّة تنفق عليها ميزانية سنويّة تعادل الميزانيّة الحكوميّة السّنويّة للمغرب، اللّغة والثّقافة الفرنسيّتان توجدان في خدمة الاقتصاد الفرنسيّ أساسا، وهذا ما لا تريد الحكومة المغربيّة أن تفهمه، هل يعقل في بلد يحترم نفسه أن تحتلّ سيّدة لا تفهم ولا تقرأ اللّغة الرّسميّة للبلد، منصبا حسّاسا ومهمّا وخطيرا مثل مديرة أخبار، أو نائبة المدير في قناة عموميّة؟. هل يتصوّر أنّ قناة عموميّة فرنسيّة تقبل بتشغيل مديرة أخبار ألمانيّة من أصل فرنسيّ تجيد اللغة الألمانيّة ولا تفهم الفرنسيّة؟. لهذا كلّه، فالجهاد الأكبر هو جهاد من أجل حماية اللّغة والهوّيّة المغربيّة من المسخ الذي يتهدّدها من كلّ جانب. هناك اليوم هجمة شرسة وحاقدة ومدمّرة على لغة القرآن التي اعتمدت لغة رسميّة في الدّستور، وخلفها نعثر على «وليدات فرنسا» متنكّرين في ثياب المدافعين عن الأمازيغيّة، البعض يعتقد أنّ الحرب على اللّغة العربيّة في المغرب تختفي وراءها أهداف دينيّة بالأساس، والحال أنّ الهدف الاقتصاديّ محرّك رئيس لهذه الحرب، لأنّ من يفرض لغته يفرض تعليمه، ومن يفرض تعليمه يفرض نخبته، ومن يفرض نخبته يفرض تبعيتها لمصالحه الاقتصاديّة ويضمن دفاعها المستميت عن هذه المصالح عندما تمسك بزمام التّسيير والسّلطة، هذه ببساطة هي المعادلة، وجميع التفاصيل والجزئيات الأخرى ليست سوى شظايا لهذه الحرب المفتوحة بين لغتين وهويتين ومصيرين مختلفين، الله المستعان. محمّد محمّد المحب
((منقول بتصرّف شديد)
لاستكمال البحث والقراءة يرجع إلى:
* http://bighouse.jeun.fr/t430-topic * http://bourasyoba.maktoobblog.com/ * http://www.ahewar.org/debat/ * http://www.maghress.com/hespress/4921 * http://www.pubarab.com/t188628-topic * www.islamichistory.net/researchers/.../abstract.doc