مشاهدة النسخة كاملة : موقف العلماء من الصوفية للحافظ عبد الله بن الصديق الغماري



المراكشي
05-02-2012, 04:44
موقف العلماء من الصوفية


علمت –فيما سبق أول الكتاب- أن الدين ينبني على ثلاثة أركان: الإِيمان، الإِسلام، الإِحسان، وأن التصوّف هو مقام الإِحسان، وأن المقامات والأحوال التي يتكلم فيها الصوفية كلها واردة في الكتاب أو السنّة بالعبارة الصريحة، أو الإِشارة الواضحة، وأن الصحابة –خصوصاً منهم أهل الصّفة- كانوا متخلقين بأخلاق الصوفية، وكذلك التابعون وتابعوهم وهلم جرا، وعلى هذا فلا عجب أن يكون موقف علماء المسلمين من الصوفية موقف التأييد والتعاضد والمساندة، وكان الأئمّة أهل الفقه والكلام، وأكابر أعلام الإِسلام –كما يقول الحافظ السيوطي- يصبحون أهل الطريق، ويحضرون مجالس وعظهم ويبالغون في الثناء عليهم، وينقلون عباراتهم وإِشاراتهم في دروسهم وتصانيفهم.
وإِليك بعض الأدلة على ذلك:
1- نقل الإِمام زروق في قواعده والتتائي عن الإِمام مالك أنه قال: من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوّف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق ا.هـ
فانظر كيف اعتبر الإِمام مالك رضي الله عنه التصوّف والفقه جزأين متلازمين لا يتم أحدهما إِلا بالآخر.
2- قال الإِمام الشافعي رضي الله عنه: صحبت الصوّفية فلم أستفد منهم سوى حرفين، وفي رواية: سوى ثلاث كلمات، قولهم الوقت سيف إِن لم تقطعه قطعك، وقولهم: نفسك إِن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وقولهم: العدم عصمة، نقله الحافظ السيوطي وغيره، والإِمام الشافعي يعدُّه الصوفية من الأبدال.
3- روى الحاكم والخطيب بسند صحيح عن إِسماعيل بن إِسحاق السراج قال: قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أن الحارث –هذا يعني المحاسبي- يكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه، ففعلت، وحضر الحارث وأصحابه، فأكلوا وصلّوا العتمة، ثم قعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت إِلى قريب نصف الليل، ثم أخذ الحارث في الكلام، وكأن على رؤسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يخرّ، ومنهم مَن يزعق، وهو في كلامه، فصعدتُ الغرفة فوجدت أحمد قد بكى حتى غشي عليه، فلما تفرقوا قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى هذا فلا أرى لك صحبتهم ا.هـ.
قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: إِنما نهاهُ عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم، فإِنه مقام ضيق لا يسلكه كل أحد ويخاف على من يسلكه ألا يوفيه حقه ا هـ.
وقال الحافظ الخطيب أيضاً في تاريخ بغداد: أخبرنا أبو عبد الرحمن إِسماعيل بن أحمد الحيري أنبأنا محمد بن الحسين السلمي قال: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يحكي عن ابن الأعرابي قال: قال أبو حمزة: كان الإِمام أحمد بن حنبل يسألني في مجلسه عن مسائل ويقول: ما تقول فيها يا صوفيّ؟ قلت: كفى بهذا القول من الإِمام أحمد رداً على مُـقلّديه كابن تيمية وأذنابه الذين ينكرون على الصوفية، ويرمونهم بالكفر والإِلحاد، هذا وأما ما اشتهر بين كثير من الناس أن الشافعي وأحمد اجتمعا بشيبان الراعي وسألاه عن أشياء في الصلاة والزكاة، فليس بصحيح، لأن الإِمامين لم يدركا زمن شيبان بل كانا بعده كما في المقاصد الحسنة للحافظ السخاوي.
4- كان أبو العباس بن سريج –أحد أئمة الشافعية- يحضر مجلس الجُنيد ويسمع كلامه، ويقول: أشهد أنّ لهذا الكلام صولةٌ ليست بصولة مبطل، وروى القُشيري في الرسالة والخطيب في تاريخ بغداد من طريق أبي الحسين علي بن إِبراهيم الحداد قال: حضرت مجلس أبي العباس بن سريج فتكلم في الفروع والأصول بكلامٍ حسنٍ أُعجبت به، فلما رأى إِعجابي قال: هذا ببركة مُجالستي لأبي القاسم الجُنيد.
5- ذو النون المصري أحد أئمة الصوفيّة وعظمائهم، قال الحافظ أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر: كان عالماً فصيحاً حكيماً أصله من النوبة، وقال الحافظ مسلمة بن قاسم: كان رجلاً صالحاً زاهداً عالماً ورعاً متفنناً في العلوم واحداً في عصره، ولم يسلم من نقد الجَهلة واعتراضاتهم، ولهذا قال الحافظ الذهبي في الميزان: كان –ذو النون- ممن اُمتُحن وأُوذي لكونه أتاهم بعلمٍ لم يعهدوه، كان أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال في مقامات الأولياء، فقال الجهلة: هو زنديق، قال السلمي: لما مات أظلت الطيور جنازته. ا هـ. ومثله في لسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني، وهذه الشهادة من هذين الحافظين الكبيرين تدمغ أعداء الصوفية –خصوصاً الحانقين- بالجهل.
6- ذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية عن ابن السمعاني أنه روى بسنده أن أبا القاسم القشيري –صاحب الرسالة القشيرية- حجّ سنة من السنين، وقد حجّ في تلك السنة أربعمائة نفس من قضاة المسلمين وأئمتهم من أقطار البلاد وأقاصي الأرض، فأرادوا أن يتكلم واحد منهم في حرم الله، فاتفق الكل على الأستاذ أبي القاسم، فتكلم هو باتفاق منهم.
7- ذكر التاج السبكي أيضاً أن الأئمة كانوا يحضرون مجالس أبي نصر عبد الرحيم بن أبي القاسم القشيري، وهو صوفي كأبيه، وممن كان يحضر دروسه في الكلام الإِمام أبو إِسحاق الشيرازي فقيه العراق، وشيخ الشافعية على الإِطلاق، قال السبكي أيضاً: ومما عظم به أبو نصر أن إِمام الحرمين –وهو عصريه- نقل عنه في كتاب الوصية من النهاية وهذا فخار لا يعدله شئ ا.هـ.
8- قال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله –وهو من فقهاء المالكية ومشايخ الصوفية- في كتاب "لطائف المنن": سمعت الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد –وهو إِمامٌ مجتهد- يقول ما رأيت أعرف بالله من الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وقال أيضاً وأخبرني الشيخ مكين الدين الأسمر، قال: حضرت بالمنصورة في خيمة فيها الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، والشيخ مجد الدين علي بن وهب القُشيري- هو والد تقي الدين ابن دقيق العيد- والشيخ مجد الدين الإِخميمي والشيخ محيى الدين ابن سراقة والشيخ أبو الحسن الشاذلي، ورسالة القشيري تُقرأ عليهم وهم يتكلمون، والشيخ أبو الحسن صامت إِلى أن فرغ كلامهم، فقالوا: يا سيدي نريد أن نسمع كلامك، فقال أنتم سادات الوقت وكبراؤه، وقد تكلمتم. فقالوا: لابد أن نسمع منك، فسكت الشيخ ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة، فقال الشيخ عزّ الدين –وقد خرج من صدر الخيمة وفارق موضعه-: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله. ا هـ قلت: كان اجتماع هؤلاء الأعلام في المنصورة سنة 648 هجرية، لحضور المعركة الفاصلة بين المسلمين والصليبين، وقد انتهت بانكسارهم وأسر لويس التاسع ملك فرنسا، ويؤخذ من هذه القصة احترام العلماء –خصوصاً سلطان العلماء وتلميذه ابن دقيق العيد- للصوفية في شخص أبي الحسن الشاذلي زعيم الطائفة ومُجدد رسومها، كما يؤخذ منها اشتراك الصوفية في الواجبات الدينية كالجهاد وغيره مما يعود على المجتمع الإِسلامي بالخير العميم، وإِذا لاحظنا أن الشاذلي حضر تلك المعركة بعد أن كف بصره وجاء يسعى إِليها من الإِسكندرية، علمنا ما كان يأخذ به الصوفية أنفسهم من التمسك بعزائم الأمور، ومَشاق الأشياء، ولا غرو في ذلك فهم أهل عزيمة صادقة، وهمة خارقة، وحزمٍ لا يلين، وجدٍ في العمل والدأب متين، وكأنما عناهم الشاعر بقوله:
علـى قـدر أهـل العـزم تأتـي العـزائم وتـأتي على قــدر الكـرام المكـارم
وتعظم في عـين الصـغـيـر صـغـارها وتصـغـر في عـين العـظيم العظائم
9- كان العلماء الأجلاء يحضرون دروس تاج الدين ابن عطاء الله السكندري، وكانت حلقات دروسه في الأزهر أرحب الحلقات، يرتادها أعظم الجماعات، وممن أخذ عنه طريق الشاذلية وتخرج به في التصوف: الإِمام الحافظ المجتهد قاضي القضاة تقي الدين السُبكي وقرأ عليه كتاب الحكم له، وقال فيه: إِنه متكلم الصوفية على طريق الشاذلية، وعلى ذكر كتاب "الحكم" نقول: إِن العلماء اعتنوا به قراءةً وشرحاً ونظماً، فكان يدرس في الأزهر إِلى عهد قريب، وآخر مَنْ أَقرأه شيخنا عالمُ مصر ومفتيها الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي رحمه الله، وكان يدرس أيضاً بجامع القرويين بفاس، وهو أكبر معهد علمي بشمال أفريقيا، بني قبل الأزهر بخمسين سنة وحضر فيه أئمة أعلام مثل ابن خلدون والمُقري صاحب نفح الطيب، أما شروح الحكم فلا تكاد تحصى كثرة، ولقد شرحه الشيخ زروق ثلاثين شرحاً، وشرحه العلامة المحقق الشيخ الطيب بن كيران شرحاً مؤيداً بالسُنّة فأعقب كل حكمه بحديث يؤيد معناها، وهو شرحٌ نفيسٌ يقع في مجلدين، ومن شروح الحكم شرح جدنا الإِمام، الولي الكبير، والقطب الشهير أبي العباس أحمد بن عجيبة الحسني المتوفي سنة 1224 ، وهو شرحٌ عظيمٌ يقلُ نظيره بين الشروح على كثرتها، ونّظم الحكم جماعة كثيرون منهم شقيقنا الأكبر الحافظ أبو الفيض السيد أحمد بن الصديق، وفي دائرة المعارف الإسلامية أنّ الحكم تُرجمت وشُرحت باللغة التركية وغيرها.
10- ذكر العلامة القاضي أبو عبد الله محمد الطالب ابن الحاج في حاشية المرشد المعين –وهو منظومة في التوحيد والفقه المالكي والتصوف-: أن غالب من يشار إليه من علماء الظاهر ممن له تميز وشفوف، ونبوغ في الحفظ والإِتقان إِنما نال بمخالطة بعض العارفين كابن سريج بمخالطة الجُنيد، والعز ابن عبد السلام بمخالطة أبي الحسن الشاذلي، والتقي بن دقيق العيد بمخالطة أبي العباس المرسي ا هـ والأدلة كثيرة جداً على أن العلماء كانوا يعتبرون التصوّف من الدين، ويعدون الصوفيّة مِنَ الصفوة المختارين.
تم بحمد الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلِ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.


للحافظ عبد الله بن الصديق الغماري

منتدى الصوفية
http://www.soufia.org/vb/