مشاهدة النسخة كاملة : مقال فكري «تمسيح» الإسلام!



أشرف
31-07-2012, 14:59
«تمسيح» الإسلام!
http://www.alrafi3.com/forum/uploaded/2/abd-elhalim-kandeel.jpg

بقلم الأستاذ:عبد الحليم قنديل
ليس المقصود في عنوان المقال أي إساءة لا سمح الله للمسيحيية كدين سماوي، فكاتب السطور مسلم موحد والحمد لله، ويؤمن بالله وكتبه ورسالاته وأنبيائه جميعا، ولا يفرق بين أحد منهم.

والمقصود شيء آخر غير جوهر التدين، وربما كان الأمر المقصود أقرب إلى صورة التدين لا أصله، وإلى الصورة التي تبدو عليها المؤسسات الدينية بالذات، ففي عصور ما بعد السيد المسيح، نشأت مؤسسات دينية مسيحية، أخذت لنفسها سلطة الروح، وأغارت على سلطة الزمن، بل واستولت عليها فيما عرف تاريخيا بنمط 'الدولة الدينية' أو 'الثيوقراطية'، وهو ما استدعى ثورة عارمة عليها في سياق التطور الأوروبي، وأنشأ التصور العلماني الذي أعاد الكنيسة لسلطتها الدينية، لاتبارحها إلى شيء من شؤون الدنيا وشجونها، لكن الكنيسة ظلت على كل حال سلطة في مجالها الديني، لها الحق الحصري في التفسيرات والأوامر الدينية لمن إتبع، وهو ما لم يعرفه الإسلام أبدا في شرعته الصافيةومجراه العام، فليس من كنيسة في الإسلام، ولا في حياة المسلمين، وليس من مؤسسة مقابلة، ولا من سلطة دينية لأحد، بل ليس من رجال دين ولا طبقة لرجال الدين في الإسلام، وإن وجد علماء ومتفقهون يؤخذ عنهم ويرد عليهم، ومدارس ومذاهب تجذب إليها بقدر الاقتناع لا بوازع الإلزام، فالعلاقة في الإسلام مباشرة بين العبد والرب، وما من وساطة في الإسلام، وقد أدى ذلك إلى حيوية عقل واجتهادات خلاقة في عصور الإسلام الأولى، ثم رانت قرون من الجمود، تكلست فيها الأفهام، وتقادمت المذاهب، وهو ما خلق فجوة تفكير سرت فيها نزعات التقليد وكراهة التجديد، وساد نقل النصوص، وطغى على فهم الفصوص.

على أن ما يشبه فكرة الكنيسة فى المسيحية، وإن بفهم آخر، وجد لدى شرائح من المسلمين الشيعة بالذات، وجرت إضافة الالتزام بشرط 'الإمامة' إلى أركان الإسلام الخمسة المعروفة، والمقصود حصر 'إمامة' المسلمين في نسل فاطمة بنت الرسول وزوج الإمام علي رابع وآخر الخلفاء الراشدين، وهو اعتقاد يوجد لدى الشيعة وحدهم، وهم طائفة محدودة من المسلمين المعاصرين، والذين تنتمي أغلبيتهم الساحقة إلى منازع ومذاهب أهل السنة والجماعة، ولم يكن لهذا الفرق في الاعتقاد بإمامة أهل البيت دون غيرهم، ولا الفارق في التصديق أو التكذيب لحديث 'الغدير' المنسوب لنبي الإسلام، والذي ينقل الإمامة من النبي إلى علي ونسله، لم يكن للفارق أن يصنع كنيسة ـ أو ما يشبهها ـ في حياة المسلمين الشيعة، لولا ظروف تاريخية لا اعتقادية، جعلت شيعة الإمام علي ابن أبى طالب يلجأون إلى 'التقية' قرونا، وبعد ما وقع من مذابح وابتلاءات كربلائية، وخذلان للإمام الحسين سيد الشهداء، فقد كان الشيعة موضع مطاردة من الخلافة 'الأموية' ثم 'العباسية'، وحتى نهاية 'العثمانية'، وكان على الشيعي ـ اتقاء للهلاك ـ أن يعيش حياتين، أى أن يبدو سنيا فى الظاهر، فيما يبقى شيعيا بالباطن، أى أن يبدي الولاء لسلطة الخلافة الدنيوية في الظاهر، وأن يرتبط بسلطة أخرى 'شرعية' في الباطن، وأن يربط حياته الدينية برجل دين شيعي، يدفع له الخمس، ويتلقى عنه التقليد والفتوى الدينية، وهكذا نشأت سلطة هرمية من رجال الدين الشيعة، ودامت القصة قرونا ولا تزال، وبدت السلطة الدينية الشيعية كأنها 'كنيسة' إسلامية.

وكاتب السطور لا يكفر أحدا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فليس التكفير من حق أحد كائنا من كان، ولم يعطه النبي محمد ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ حتى لنفسه، فلم يكفر مسلما حتى لو كان منافقا، وفي ذلك إشارة مباشرة لما ينطوي عليه التدين الإسلامي من علاقة مباشرة للعبد بالرب، ودون وساطة ولا كهانة، وقد تعرض هذا المعنى الصافي لتحريف وتجريف على أيدي جماعات صارت تكفر الناس بالجملة، وتكفر الشيعة بكافة طوائفهم وفرقهم، ولا تشير في نقد التدين الإسلامي الشيعي إلى عيب وجود 'سلطة دينية' ينكرها الإسلام، وتشبه وضع 'الكنيسة'في المسيحية، بل تسعى ـ مع تكفير الشيعة ـ إلى إقامة سلطة دينية سنية هذه المرة، وهذا خلل مريع في الاعتقاد والتفكير والسلوك، فالمسلم الحق لايكفر ناطقا بالشهادتين، وخطيئة التكفير يرتكبها الغلاة من الشيعة أو من السنة، وحسابهم عند الله علام القلوب والغيوب، أضف إلى ذلك خطيئة دينية أخطر يرتكبها الفريقان، وهي الاعتقاد في ضرورة وجود سلطة دينية ما، وقد أوضحنا السياق الذى مهد للفكرة ـ غير الإسلامية ـ في حياة الشيعة، وإن كان الأغرب أن تظهر الآن على لسان جماعات من غلاة الأصوليين السلفيين، صحيح أنهم لا يقولونها هكذا مباشرة، لا يقولون لك أنهم يريدون دولة دينية أو سلطة دينية، فهم يعرفون أن الفكرة لا أصل لها في ملة الإسلام، ولذلك يلجأون إلى صور من التحايل، كأن يدعو سلفيون مجهولون في مصر إلى إنشاء ما يشبه 'هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر' في المملكة السعودية، وقد تبرأ كل مشايخ السلفية المعروفين في مصر من الفكرة التسلطية الغريبة، وإن بدت تطبيقاتها مرئية دامية، وعلى نحو ما جرى في عملية قتل سلفيين مغرر بهم لشاب كان يمشي مع خطيبته في مدينة السويس ، ولا تبدو الفكرة الغريبة الدموية يتيمة على أى حال، فثمة قطاعات محسوسة من السلفيين الجهاديين تسعى لفرض سلطتها بالعنف حيث حلت، وقد يكون من مزايا الديمقراطية أنها تدفع غالب الأصوليين السلفيين إلى العمل السلمي، وتلك ميزة معقولة في ذاتها، غير أن الديمقراطية ذاتها تظهر مدى سيطرة أفكار غير إسلامية على أدمغة بعض السلفيين، نقول 'بعض' حتى لانقع في خطأ التعميم، فهذا البعض يدعو إلى 'تمسيح' الممارسة الإسلامية عمليا، أى جعلها كالممارسة الكنسية سواء بسواء، وهذه مفارقة عجيبة، فهؤلاء ذواتهم يظهرون صنوفا من التعصب ضد المسيحيين، ويسعون لاحتذاء الممارسة الكنسية في الوقت ذاته، خذ عندك ـ مثلا ـ بعض آراء كبار السلفيين في اللجنة التأسيسية للدستور المصري الجديد، واقتراحات من نوع وضع عبارة 'السيادة لله' محل عبارة 'السيادة للشعب'، وهي دعوة مباشرة للحكم بالحق الإلهي على الطريقة الكنسية في أوروبا العصور الوسطى، وخذ عندك ـ مثلا ـ دعوة بعضهم إلى إنشاء ما يسمونه بالمحكمة الشرعية العليا، أي محكمة من رجال الدين على طريقة محاكم التفتيش الكنسية في العصور الوسطى، وخذ عندك ـ مثلا ـ ما يسمونه 'مرجعية الأزهر'، وكأن الأزهر سلطة دينية أو كنيسة إسلامية، أو كأن شيخ الأزهر هو قداسة البابا.