مشاهدة النسخة كاملة : عبادة التدبر .. تربية للنفس وحركة دعوية لإصلاح الغير



أم آلآء
14-11-2012, 08:30
أ.د. صلاح الدين سلطان

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبيبنا محمد عبده ورسوله.




اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد..




إخواني وأخواتي في الله تبارك وتعالى، سنعيش مع الآيات التي سمعناها في الركعة الثانية، (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ . فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ . إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ . فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ . إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (الغاشية: 17ء25).




هذه الآيات تلفت الأنظار إلى عبادة لها أثر عملي، عبادة التدبر في هذا الكون المنظور، التي تؤدي إلى حركة دعوية ليس فقط لإصلاح النفس البشرية، وإنما يتجه إلى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ).




لماذا لا تنتشر دعوة الله في الأرض؟ لأننا أهملنا عبادة التدبر في خلق الله تبارك تعالى، نحن بيننا وبين الكون مسافات، الآن نحن نجلس لا نرى بقعة من الشمس، المكان الذي يُدخل بقعة من الشمس يوجد فيه ساتر، تذهب إلى المنزل تجلس في ساتر، ستائر حولك من كل ناحية، وبالذات في الصيف حتى لا يدخل إلى البيت كمية من الحرارة، وندفع تكاليف أكثر للتكييفات، فلا بد أن تسد جميع النوافذ، ثم نركب السيارات المكيفة، فنحن لا نشعر بالكون وبالتالي إيماننا برب هذا الكون يتضاءل.




العربي الذي تعود أن يعيش في الصحراء، وبيته مفتوح النوافذ ونوره الأصلي من نور الشمس، أو نور القمر، رأينا البيوت القديمة كلها في عالمنا العربي قبل أن تتحول إلى هذا النمط الغربي، البيت عبارة عن حوش كبير جدًّا في الداخل، منه للسماء، وأحيانًا يكون مزروعا، والغرف تدخلها الشمس من كل ناحية، فهي صحيًا غرف مكيفة تكييفًا ربانيًا، غرف فيها نوع من أنواع التسخين الرباني الذي يقتل الميكروبات، صحية للحياة الطبيعية، ويشعر بالشمس إذا طلعت وبالقمر إذا غاب، ويرى النجوم أحيانًا وهو نائم.




لكن نحن الآن سكنا الغرف ونعيش هذه المأساة، فلا نرى الكون كما خلقه الله، والله ءعز وجلء يقول: (أَفَلَا) أيها الناس انظروا إلى هذا الكون؛ لتعرفوا ربكم، ولتعرفوا قدرة الخالق ءسبحانه وتعالىء، نتيجة أن الإنسان لم يعد يتدبر هذا الكون، ويرى مسيره بحكمة رائعة ونادرة، النتيجة أن الإنسان صار يؤمن بالله وهو عاجز عن نصرة دينه.




الناس الآن ترى أننا لا نستطيع أن نقف أمام قوة الغرب، هو يصلي، ويقرأ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المتين) هذا في القرآن فقط، إنما الله الذي في عقلك وقلبك ووجدانك، ليس هو الله الرزاق ذو القوة المتين، ومن ثم فالآيات لا نجد لها صدا في واقعنا ولا نجد لها ترجمة عملية في حياتنا، وهذا هو الفارق بيننا وبين صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلمء وأضرب مثالا بالصحابي الجليل أبي دجانة –رضي الله عنه:

يقين أبي دجانة

الصحابي أبو دجانة الذي يؤمن بهذه الآية وينظر في تسيير الله للكون كله، فيعتقد قوة الملك سبحانه، في غزوة أحد انكسر سيفه، فذهب إلى النبي ءصلى الله عليه وسلمء وقال: انكسر سيفي يا رسول الله، فأعطاه رسول الله عودًا من الحطب، لو أن إنسانا من في زماننا، لكان لسان حاله: عود من الحطب هل أنا ذاهب لألعب مع الأطفال؟، هل أنا ذاهب لأسوق بعض الغنم؟، أنا داخل معركة، لكن أبا دجانة بيقين المؤمن أخذ عود الحطب فهزه فانقلب سيفًا بتارًا، وجاهد به وقتل به كثيرا من المشركين في غزوة أحد، وظل يقاتل به إلى أن لقي الله عز وجل؛ لأنه يؤمن بإله قادر، إله رزاق.



والذي يؤمن بأن الله (هو الرزاق ذو القوة المتين) لا يعرف الذل إلا لله عز وجل، لا يكون سلبيا إذا رأى المنكر، أما الذي يرى رئيسه يفعل الخطأ، ثم تكون ردة فعله من هذا الخطأ (يا عم الباب الذي يأتي لك منه الريح، سده واستريح)، تعودنا أن نسد النوافذ عن كل خير، فالإنسان الذي يؤمن بأن الله هو الذي يرزق، الذي يسير الإبل، ووضع الجبال أوتادًا، ورفع السماء بلا عمد، وبسط الأرض بلا عناء، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).




هذا المعنى لم يتعمق في ذهن هذا الإنسان، الذي لن يخرج من قوقعة النفس البشرية بأهوائها، ولم ينظر إلى قوة الملك في عليائه.



من أبواب قوة اليقين

فالله –سبحانه وتعالىء يدلنا على باب من أبواب قوة اليقين، قوة الإيمان، النظر إلى هذا الناقة، سفينة الصحراء، التي تحتمل كل أمر صعب، هذه السفينة التي تعطش طويلاً، وتصبر وتكمل الطريق، هذه الناقة، أو هذا الجمل الذي وضع الله في خفه من القدرة على احتمال أشد أنواع الحرارة في الصحراء لا توجد في أي حيوان آخر، هذا الجمل الذي له سنام، إذا قل الطعام يسحب من المخزون الاستراتيجي في ظهره، إلى أن يجد طعامًا، ولا يشتكي.




لكن نحن للأسف الشديد نقول: انتهى عصر الجمال، نحن الآن مع عصر السيارات المتنوعة والمختلفة، إلى اليوم وحدات عسكرية في العالم لا تستغني عن الجمل في الصحراء.




نحن نريد أن نعود إلى هذه المخلوقات الطبيعية، التي خلقها رب العزة ءسبحانه وتعالىء ونتأمل في جودة وإتقان الملك في هذه المخلوقات كلها، والله سبحانه وتعالى ذكر الإبل؛ لأن هذا أقرب مخلوق للعرب، (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) وإلى ماذا؟ (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)، هذه الجبال التي أخبر المولى سبحانه وتعالى عنها فقال سبحانه: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، الوتد عند العرب له وظيفة وهي أنه يثبت الخيمة، ولكي يثبت الخيمة لا بد أن يكون ثلثاه تحت الأرض، وثلث فوق، وجميع علوم الجيولوجيا التي تتحدث عن الجبال تقول: كل جبل ثلثه فوق وثلثيه أسفل، أوتادًا، بالضبط، ثم هذه الجبال جعلها الله سبحانه وتعالى ميزانا للأرض، فلولا وجود الجبال لكانت الأرض "تميد وتتكفى"، فالله وزن الأرض بالجبال، فخلق الله الجبال، فأرساها بها.

الكون مسخر للإنسان

وأقوى من الجبال وسائر المخلوقات في هذا الكون هو العبد المؤمن، فالمؤمن إذا تصدق بصدقة فأخفاها فلم تعلم شماله ما أنفقت يمينه، فهذا العبد الصادق المتبتل، الذي يبذل في السر أكثر مما يبدو في العلن، عند الله أقوى من الكون كله، أقوى من كل شيء في هذه الدنيا، من الجبال، من الأرض، من السماء، من الريح، من الحديد، من النار، من الماء، من كل شيء، مهما كان ضعيف الجسم ، فمثلا سيدنا عبد الله بن مسعود، كان جسمه صغيرا، وقدمه صغيرة، ولما ضحك منه القوم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن قدمه في الميزان أثقل من جبل أحد، فعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه كان يجتني سواكاً من الأراك وكان دقيق الساق، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد!!. أخرجه الطيالسي وحسنه الألباني في غاية المرام. فهذه القدم بسبب القرآن وزنها أثقل من جبل أحد، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) فالذي يحفظ القرآن يثقل وزنه عند الله، وفي جنة الله عز وجل، فالكون كله سماءه، وأرضه، وجباله، وأنهاره، كل هذه الأشياء، سخرها الله سبحانه وتعالى للإنسان ليتفرغ لعبادة الرحمن قال سبحانه: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".




فلا شك أننا بحاجة إلى إحياء عبادة التفكر، نتفكر في خلق السماء، في الأرض، في الجبال، في المياه، في الأنهار، تدبر، أنا أريد من كل أخ أن يأخذ نفسه ويخرج بمفرده، ويخرج مع أولاده وأهله في جولة تفكر، ثم يرجع كل واحد يقول لنا ما هي رؤيته وهو يرى الشمس تختفي في الماء، عندما رأى القمر وهو يبزغ في السماء، عندما رأى الأنهار أو الماء، المحيطات، أو البحار، والماء يتلألأ في ظهورها، وأنت ذاهب للعمل في الصباح تجده فضي، وأنت آتي العصر تجده ذهبي، يتماشى هكذا مع لون الشمس وهي تتحرك.




هذه المناظر الجميلة لا بد أن تشع حركة إيمانية للنفس، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) النتيجة (رَبَّنَا) ربوبية (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، هذه ثمرة التفكر للنفس،أما ثمرته مع الغير (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ).



تدبر ساعة خير من عبادة سنة

إذن.. هذا التدبر عبادة التدبر، تدبر ساعة، خيرٌ من عبادة سنة على جهل، فعلاً لا بد أن نحيي هذه العبادة، تعالوا نتنزه، نخرج من حالة الملل والضجر الذي يصيبنا من طول المكث في البيوت، ولكن ليكن خروجنا لا للنزهة فحسب –وإن كان الترويح عن النفس أمرا مطلوباء ولكن مع النزهة أيضا نحي عبادة التدبر، فتكون نزهة ومعها تدبر، معها تفكر، معها ثواب، معها حسنات، فأنت ستخرج لا محالة فليكن خروجك محفوفا بنور الله، محفوفا بالحسنات، وتسيح بعقلك ووجدانك وتنادي في إخوانك من حولك، زوجتك وأولاد، كل مَن عنده خاطرة مع الرمال، مع السماء، مع الجبال، مع الأرض، مع الماء، يعبر عن ما يجيش بخاطره ، بماذا يشعر؟ إلى ماذا هداه فكره؟، القوة النفسية التي عنده بعدما رأى هذه الآيات ما هي؟ بهذه الطريقة سنتحول فعلاً إلى ربانيين في النفس، وإلى دعاة للغير بإذن الله تبارك وتعالى، فآيات التفكر في سورة آل عمران ( إن في خلق السموات والأرض ....) إلى آخر الآيات، فهذه الآيات من سورة آل عمران ثمرتها تربوية للنفس، أما في سورة الغاشية فالنتيجة هي: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ).




كثير جدًّا من الطلاب، ومن الإخوة الزملاء، الناس يسأل ويقول: فلان قريبنا وفلان صديقنا، لا يقبل أن نذكره بالله، نقول لهم تخيروا الأوقات المناسبة (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)، فرسول الله – صلى الله عليه وسلمء جلس مع أبي طالب سنوات، لكنه لم يؤمن، ومات أبو طالب والرسول ء صلى الله عليه وسلم – يقول له: يا عمي قلها أشفع لك بها عند الله، وحزن النبي عليه حزنًا شديدًا ، فأنزل الله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء).




أجر الدعاة المخلصين

فالمطلوب أن نذكر الناس بالله تعالى وأن ندعوهم إلى الله –عز وجلء، وأن نخلص في دعوتنا لهم لننال أجر الدعاة المخلصين.




أجر الدعاة ما هو: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، فأفضل منصب في الدنيا أن تكون داعية، "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خير من الدنيا وما فيها". وظيفة ربانية تستغفر لك بها الملائكة في السماء، والطير في الهواء، والشجر في الأرض، والسمك في الماء، هؤلاء يصلون على معلم الناس الخير، فأي إنسان يدعو إلى الله تجد الكون كله مشغول بالاستغفار له، تجد الدنيا كلها تحفه بأجنحتها.



نريد أن نفتح عقولنا على الكون، نفتح عقولنا على القرآن، على العلم، لنصل إلى الربانية ثم منها إلى الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.




القرآن يجمل في سورة آل عمران هذا الموضوع في آية: (وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)، فمتى نكون ربانيين؟ عندما تتعلم وتُعلم، تسمع شيئا تذهب وتعلمه أهل بيتك، لجارك، لزميلك في العمل، فلا يكفي مجرد الاستماع، نحن عندنا هَمٌ لدين الله –تعالى ء نريد أن نحمله معًا لنوصله إلى عباد الله، ولكن قبل ذلك ومعه لا بد من جولة عقلية دائمة، لا بد من زاد للقلب والعقل من التدبر في خلق السماوات والأرض.




أسأل الله أن ينفعني وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، جزاكم الله خيرًا .. وشكر الله لكم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوعمارياسر
02-01-2014, 21:47
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله كل خير اخت ام الاء
موضوع رائع