مشاهدة النسخة كاملة : امراض الجماعة



ابتهال
21-08-2013, 21:31
أمراض الجماعة

مفتطف من كتاب جماعة المسلمين ورابطتها للشيخ سيدي عبد السلام رحمه الله عز وجل

روى أبو داود والترمذي وابن ماجه رحمهم الله، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، عن أبي أمية الشعباني رحمه الله أنه سأل أبا ثعلبة الخُشَنِيَّ رضي الله عنه قال: "يا أبا ثعلبة ! كيف تقول في هذه الآية: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ …؟ قال: أمَا والله لقد سألتَ عنها خبيرا ! سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوْا عن المنكر. حتى إذا رأيتَ شُحّاً مُطاعا، وهوىً مُتبعا، ودُنيا مُؤْثَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك -يعني بنفسك- ودع عنك العوامَّ. فإنَ من ورائكم أيامَ الصبر، والصبرُ فيها مثلُ قبضٍ على الجمر. للعامل فيهم مثلُ أجْرِ خمسين رجلا يعملون مثل عمله" . قال أبو داود رحمه الله: وزادني غيرُه (غيرُ الراوي) قال: يا رسول الله ! أَجْرُ خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم" ".
وروى ابن حِبَّانَ رحمه الله وغيرُه هذا الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "كيف بك يا عبدَ الله بنَ عمرو إذا بقِيتَ في حُثَالَةٍ من الناس مَرِجَتْ عهودُهم وأمانتُهم، واختلفوا فصاروا هكذا" ، وشبَّك بينَ أصابعه. قال: قلت: يا رسول الله ! ما تأمرني؟ قال : "عليك بخاصتك ودع عنك عوامَّهم" .
عندما خاطب الله عز وجل المومنين وأيَّهَ بهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كلف بالشريعة مَنْ هم الأُمناءُ عليها المسؤولون عن تطبيقها، وهم جماعة من استكملوا الإيمان. فهو خطاب مُوَجَّهٌ للجماعة، فما يخُصُّ العبادةَ الفرديَّةَ وباطنَ الإيمان الذي يبقى دائما بين العبد وربه فالفردُ المومنُ مكلَّفٌ به مسؤول عنه في خاصته. وما كان عامّا يمَس حياة الأمة، وسلامَتَها، وقيامَها بأعباء الرسالة، فالمسؤوليةُ الفرديَّةُ عنه أمام الله تعالى تسبِقها في الزمان مسؤوليةُ المومن أمام إخوانه هنا، لأنهم شركاءُ في الخطاب. ومن جملة ما يشترك فيه المومنون، بل أصلُه، الوَلاَيةُ الإيمانيةُ والجهادية. قال الله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (سورة التوبة،71). وقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍŠ﴾ . الآيات من آخر سورة الأنفال.
لم تَذكُر آيةُ الوَلاَية العامَّةِ بين المومنين هجرةً ولا نُصْرةً ولا جهادا. إنما ذكرت الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، وإقامةَ الصلاة، وإيتاءَ الزكاة، وطاعةَ الله ورسوله. بينما تذكر آيات الوَلاية الجهادية إيمانا أعلى مقاما وأكثَرَ مَطْلَباً: تشترط إيمانَ الهجرة والنصرة، والإيواء والجهاد. معنى هذا أن عامة المومنين يقف واجبُهم تُجاهَ أمرِ المسلمين، أيْ شؤونِ الحكم، والحفاظ على أخلاق الأمة، عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعةِ الله ورسوله وأولي الأمر. ومعناه أن الجماعة أو الرابطة المجاهدةَ هي حاملةُ الأعباء، فيُطلَبُ إليها أن ترتفع إلى مستوى مسؤولياتها. وما يقدح في إيمان عضو الجماعة المجاهدة قد لا يقدح في إيمان عامة المومنين.
وهنا يَجيء الحديثان اللذان سُقناهما في أول العنوان ليُفَصِّلا أمراضا تقْدَحُ في إيمان الخاصة، وتَسْقُطُ بهم إلى مراتب العامة. فحديث أبي ثعلبة رضي الله عنه يوصي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المومنَ بالأمر بالمعروف النهي عن المنكر ما لم تَفْشُ أمراضُ الشُّحِّ المُطاع والهَوَى المتبع والدنيا المُؤْثرةِ وإعْجَابُ كلِّ ذي رأي برأيه. أوصاهُ إن فشت هذه الأمراض أن يلْزَمَ نفسَه ويتركَ العوام.فنفهمُ أن هذه الأمراضَ تنـزل بمن ابتُلي بها إلى العَامِّيَّةِ. وهناك عاميتان: عامية المومن الضعيف، في قلبه عقيدة ثابتةٌ، لكنَّ لنفسه عليه سلطانا غلاَّبا. وعامِّيَّةُ المسلم الذي لمَّا يدخل الإيمانُ في قلبه، وهذه حال الأعراب، بالمعنى القرآني للكلمة. ويشرح تنبيهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن حُثالَةَ الناس هم أقوامٌ مارجةٌ عهودُهم وأماناتُهم، مختلفون مشتبكون. وذكر أنهم عوام.
كل إخلال بشعبة من شعب الإيمانِ البضعِ والسبعين ينقُصُ من كفاءة المومن، والإخلالُ بواحدة من هذه الأمَّهات التي ذكرها الحديثان يحُط المُخِلَّ إلى درجة العامَّة. وقد ذكرنا في غير هذا المكان كيف يُخْتار عُضو الجماعة، وكيف يمتحن قبل أن يُعترف له بالعضوية ويقلَّدَ المهامّ. وإنه لامتحان مستمر، لا يومَنُ مَعَهُ على غير المعصومين أن يُطغيهم السلطانُ، فيقلِّصَ من إحسانهم الشُّحُّ المُطاع، أو يضِلَّهُم الهوى المتبعُ، أو تُغريهم الدنيا فيؤثروها على الآخرة، أو يُعْجَبَ كُلُّ ذي رأي برأيه فينْشِبَ الخِلافُ، أو تَخْرَبَ الذمَّةُ فَتَمْرَجَ العهودُ والأماناتُ. أمراضٌ خطيرة الوقاية منها ذكر الله، وعلاجُها الاستغفار والإنابةُ. على أن المريض بهذه العاهات إن تسلل للجماعة، وهذا يحدث إن تكاثر العدد بسرعة، لا ينبغي أن يُتْرَكَ لِيُعْدِيَ المومنين، بل يُعتنى به في مِصحات التربية، بعيدا عن كل مسؤولية، مع عوامِّ الناس.
هناك مرضان رئيسان يتربصان كل جماعة بشرية، لاسيما إن تولت الحكم، وهما العُجْب المستكبر، وبِطانة السوء.