مشاهدة النسخة كاملة : وَمَكْـرُ أُولَئـِكَ هُـوَ يَبُـور



ابتهال
19-04-2014, 23:39
http://www.ikhwanonline.com/Data/2012/3/26/3816.jpg
د. عبد الرحمن البر
وَمَكْـرُ أُولَئـِكَ هُـوَ يَبُـور

[16-03-2014][16:53:23 مكة المكرمة]

بقلم: د. عبد الرحمن البر


الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه.



وبعدُ؛ فإنَّ العاقلَ هو مَنْ يُنْعِمُ النظرَ في الواقعِ ويُحسنُ قراءتَه في ضوءِ حقائقِ القرآنِ ووقائعِ التاريخِ وتجارِبِ الأجْيال، ومن ثَمَّ يتَّخذُ المواقفَ الصحيحةَ، ويطمئِنُّ قلبُه لطريقِ النَّجاةِ في الدُّنيا والآخرة، وذلك ما يُرَبِّي القرآنُ الكريمُ الأمةَ عليه، لتطمئنَّ في مسيرِها، وتمضيَ في طريقِها، في مواجهةِ الإفكِ، ومقارعةِ الباطلِ الذي يجتمعُ عليه أعداؤُها والمتربِّصون بها، فتُبدِّدَه بالحقِّ الذي تُمَثِّلُه والنورِ الذي تحملُه بإذن الله.



وهذه نظراتٌ في حديثِ القرآنِ عن المكرِ والكيدِ والخداعِ وعاقبةِ الماكرين.



المَكْرُ: هو صرفُ الغيرِ عما يقصدُه بحيلةٍ خفيَّةٍ، بحيثُ لا يشعرُ الممكورُ به بما دبَّره الماكر، بل ربما اطمأنَّ إلى عكس ما يُدَبَّرُ له، وهو الخداعُ والكيْد، وهو محمودٌ ممدوحٌ حين تمارسُه الأمةُ مع أعدائِها المتربِّصين بها الدوائر، وممقوتٌ مذمومٌ حين يستعملُه الأفرادُ فيما بينهم، أو يستعملُه المؤتمنون فيما ائتُمنوا عليه، ولذلك كان عقابُه واضحًا، ففي الحديث: «المَكْرُ والخِيَانَةُ والخَدِيعَةُ في النَّارِ»، وفي الحديث أيضا: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ»، وفي الحديث: «وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ» وذكر منهم: «وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ».



ولله درُّ قيسِ بن سعدٍ، الذي قال : لولا أني سمعتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: « المَكْرُ والخَدِيعَةُ في النَّارِ» لكنتُ أَمْكَرَ هذهِ الأُمَّة.



العَدَاءُ والمَكْرُ للحقِّ وأهلِه قَدَرٌ إِلَهِيٌّ وسنةٌ ماضيةٌ في المُجرِمين:



ولذلك لم تمرَّ رسالةٌ لنبيٍّ ولا دعوةٌ لمصلِحٍ إلا وتعرَّض لها أعداؤُها بالمكْر ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.



ولهذا قال تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.



شياطينُ الجنِّ والإنسِ يتعَاونون على المَكْرِ بالحقِّ وأهلِه:



فهم يَغُرُّ بعضُهم بعضًا بالنجاح في الكيدِ، ويُزَيِّنُ بعضُهم الشرَّ لبعضٍ، حتى يندفِعوا في المكر والغِواية، قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾.



وفي حديث أبي ذرٍ أن النبيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَهَلْ لَلْإِنْسِ شَيَاطِينٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا».



تَزْيينُ المكرِ للماكِرين:



من تأمَّلَ في آياتِ القرآنِ وجدهُ يتحدثُ عن أممٍ مَكرتْ، فمدَّ الله لها أسبابَ المُهلة، واستهواها المكرُ، فضربتْ في التيهِ واستغرقتْ في الضَّلال، ولم يجدوا مَنْ يُنقذهم ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.



يستجيبُ لهذا المَكْرِ مَنْ فقَدوا حقيقةَ الإيمان:



ذلك أنَّ الغافلَ عن لقاءِ الله يتنكَّبُ سبيلَ الحقِّ والخير دائمًا ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ (المؤمنون 74) ولهذا فهم لا يكتفُون بالسماعِ لزُخرفِ القول والخططِ المدبَّرَةِ من الماكرين، بل يرضَوْن بمكرهم، بل يسْعَوْن في تنفيذِ مخططاتهم ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾.



مَكْرٌ مَرْصُودٌ، وكيْدٌ مكشوفٌ، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ:



يتصوَّرُ الماكرون الكائدون للحقِّ أنهم قد أجمعُوا كيدَهم، واستوعَبوا في مكرِهم كلَّ أسبابِ النجاح، واستوْفَوْا خططَهم، ووفَّرُوا تمويلَهم، وأعدُّوا قوتَهم، وضبطوا حساباتِهم، وجهَّزوا بدائلَهم، بحيث لم يتركوا شيئًا لما يسمونه (الصُّدفة)، ووضعوا لكلِّ احتمالٍ ما يناسبُه، ويمضُون في كيدِهم فرِحِين، يقولون لكل من يذكِّرُهم بعواقبِ المكر ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾، وينسَوْن في غمْرتِهم أنه لا أحدَ في هذا الكون ينطقُ كما يشاءُ بلا قيدٍ ولا ضابطٍ، أو يصيبُ من يشاءُ بلا معقِّبٍ ولا رادعٍ، وأنهم مهما بلغتْ قوتُهم وإرادتُهم، فهي مقيدةٌ بمشيئةِ اللهِ ومحدودةً بقدرِ الله ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾.



صحيحٌ أنَّ الممكورَ به لا يكون عالمًا بما يدبِّرُه الماكرون ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾، ولكنَّ اللهَ يكون هناك، ويحيطُ علمُه بما يمكرون ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.



ومهما ظنُّوا بأنفسِهم من مهارةٍ في الكيْدِ والمكرِ وقُدرةٍ على الظلمِ والإفسادِ، فإنَّ اللهَ يُطَمْئِنُنا ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾.



الماكِرُ مُسْتَدْرَجٌ وممكورٌ به مِنْ حيثُ لا يشعر:



إنَّ من الأسبابِ التي يُهْلِك الله بها الماكرين: الْأَمْنَ الَّذِي يتوهَّمُونَه مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، فيُبَالِغُونَ فِي مكرهم، ظانِّينَ أنَّ اللهَ راضٍ عن عمَلِهم، أو أنَّ اللهَ غافِلٌ عما يعملُون، أو كما يتصوَّرُ كثيرٌ من العلمانيِّين أنه –سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- لا شأنَ له بمعايشِ الخلقِ وما يجري بينهم من صِرَاع؛ فيستحِقُّون الخُسْران ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾. قَالَ الْحَسَنُ في مثل هؤلاء: «مُكِرَ بِهِمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا».



إنَّهم يعيشُون في وهْمِ الأمْنِ من مكرِ اللهِ، حتَّى ينزلَ بهم عذابُه فجأةً في صورٍ مختلفةٍ ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ يعني: أَوَ أَمِنَ هَؤُلاَءِ أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَثْنَاءَ تَقَلُّبِهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا، فَهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ اللهَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا؟ أَوْ أَمِنُوا أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ بَعْدَ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِهِم الخَوْفَ وَالرُّعْبَ.



بل قد يُخَيَّلُ إلى الماكرين أنَّ تَرْكَهم في هذا العبَثِ هو إكرامٌ من الله لهم، ولا يدركونَ أنَّ الإمهالَ اسْتِدْرَاجٌ لهُمْ بِالنِّعَمِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ نِعْمَةً، وَفِي الحَدِيثِ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ».



وقال عليٌّ رضي الله عنه: «مَنْ وُسِّعَ علَيْهِ دُنْيَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أنَّه مُكِرَ به فهُو مَخْدُوعٌ عَنْ عَقْلِه».



ولهذا حذَّر اللهُ تعالى من مكرِه واستدراجِه فقال ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وقال تعالى ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، وقال عز وجل ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا. وَأَكِيدُ كَيْدًا. فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾.



وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ:



إنَّ مكرَ المفسدين في الأرضِ مهما بلغ إحكامُه وإتقانُه فهو مكرٌ فاسدٌ لن يبلغَ غايتَه، وسيعامِلُهم اللهُ بنقيضِ مكْرِهم، وهو القائل سبحانه ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾.



فاللهُ سبحانه هو الذي يُضْعِفُ كيدَ المجرمين ويُبْطِلُ آثارَ مكرِهم ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾.



ذلك أنَّ المؤمنينَ لا يخوضون هذه المعركةَ مع الباطلِ وحدَهم، إنما يقفُ الحقُّ سبحانه فيها مدافِعًا عن أوليائِه، وهو حسبُهم وناصرُهم، والمدافعُ عنهم والمنتقمُ من أعدائهم ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾.



فهم إذْ يخادعون المؤمنينَ إنما يخدعون أنفسهم في الحقيقة ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.



ولئِنْ كانوا قادرينَ على الاستخفاءِ عن أعينِ الناس، فلا سبيلَ للاستخفاءِ من الله ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾.



وها هم يجتمِعون فيأتمِرون برسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فماذا حدَث؟ ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.




وها هم يسْعَوْن لخِدَاعِه وخيانتِه، فيقولُ له ربه سبحانه ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾، ويقول له ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.



وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ:



فمن سننِ الله الماضية: أنْ يختنقَ الظالمُ بحبْلِ ظُلمِه، وأنْ تدورَ على الباغي الدوائر، وأنْ لا يقعَ في بئرِ الكيدِ إلا الحافر ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.



وفي أمثالِ العربِ: « «منْ نَصَبَ للغِوَايةِ شَرَكًا اختنقَ بحبله»، و«منْ سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ قُتِل به».



وكَمْ مِنْ حَافِرٍ لِأَخِيهِ لَيْلًا تَرَدَّى فِي حُفَيْرَتِهِ نَهَارا



وفي الحديث: «لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا؛ فإِنَّ اللهَ يقُولُ ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، ولَا تَبْغِ ولَا تُعِنْ بَاغِيًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، ولَا تَنْكُثْ ولَا تُعِنْ نَاكِثًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾».



وهل الانقلابيُّون على اختلافِ مواقعِهم وأدوارِهم إلَّا ماكرٌ أو مُعِينٌ على المكْر، وبَاغٍ أو مُعِينٌ على البغيِ، وناكِثٌ أو مُعِينٌ عَلى النكثِ؟.



عاقِبَةُ البَغْيِ والمَكْرِ أسرعُ ممَّا يتصوَّر الماكرون:



لقد قرنَ اللهُ البغيَ بأكبرِ الكبائرِ والفواحِشِ، فقال سبحانه ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.



وهذه الكبيرةَ أسرعُ عقوبة، ففي الحديث: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»، وفي الحديث أيضا: «لا يُؤَخِّرُ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْبَغْي، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾».



بَغَيْتَ فَلَمْ تَقَعْ إِلَّا صَرِيعًا كَذَاكَ البَغْيُ مَصْرَعُ كُلِّ بَاغِي



وقد حذرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، احْذَرُوا البَغْيَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ هِيَ أَحْضَرَ مِنْ عُقُوبَةِ البَغْيِ»، وقال ابن عباس: «لو بَغَى جبَلٌ على جبلٍ لجعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ الباغِيَ منهما دَكًّا».



ذلك أنَّ اللهَ قد وعد –ووَعْدُه حقٌّ- بنصرِ مَنْ بُغِيَ عليه ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾.



قَضَى اللهُ أنَّ البَغْيَ يَصْرَعُ أَهْلَه وأنَّ علَى البَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ



عاقِبَةُ الماكِرين هي الإهلاكُ في الدُّنْيا والعذابُ الأليمُ في الآخِرة:



حدَّثنا القرآنُ أن عاقبةَ المكرِ عذابٌ في الدنيا، بقوارعَ تصيبُهم أو تحُلُّ قريبًا من دارِهم، أو بحَيْرَةٍ تستولي على قلوبهم، وقلقٍ يُطْبِقُ على نفوسِهم، وضيقٍ وتوتُّرٍ يمسكُ بخِناقِهم، بحيث لا يطمئنُّ لهم في الحياة قرارٌ، ولا يهدأُ لهم بالٌ، ولا يهنأُ لهم عيشٌ، ثم عذابٌ أشقُّ في الآخرة ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.



فاللهُ يُمْلِي للظالمِ، ويمُدُّ في حبْل المُهلةِ للماكِرِ، حتى يطمئنَّ لمكره، ويستسلمَ لغُرورِ الأمنِ من العقوبة، ثم يكونُ أخذُه فجأةً هو عذابُ الدنيا الذي يسبقُ عذابَ الآخرة، وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.



والقرآنُ يحكي لنا صورةً من صور المكرِ الذي أحكمه قومُ صالحٍ لقتلِه وقتلِ أهله، ورتَّبُوه بليلٍ، ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ. قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.



ومن لطيفِ ما تَهْدِي إليه هذه الآياتُ أنَّ التدميرَ لم يُصِب التسعةَ المفسدين فحسْبُ، بل أصاب معهم قومَهم الذين رَضُوا بمكرِهم وسكتُوا على ظلمِهم ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.



وقصصُ التاريخِ البعيد والقريبِ شواهدُ الصدقِ على إهلاكِ اللهِ لكل ظالمٍ، مهما جمعَ اللهُ عندَه من أسبابِ القوَّةِ والغلَبةِ، وهذا ربُّ العزة والجلال بعد أن ذكر مصارعَ الظالمين ومكرَه بالمعتَدين في الأممِ السابقةِ يقول لأحفادِهم الجُدد ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، وللعِلْمِ، فهذه الآياتُ نزلتْ بمكةَ والمسلمُون مستضعَفُون خائِفُون، ولم يعرفوا تَأْوِيلَهَا إلا يوم بدر، حين رأوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».



بين ضعفِ الكيْد وضخامتِه:



تصفُ بعضُ الاياتِ كيدَ المجرمين ومكرَهم بالضعفِ، كقوله تعالى ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾، وقوله تعالى ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾ أي: في ضياع، ولا قيمةَ له ولا بقاءَ له، وتتحدثُ آياتٌ أخرى عن عِظَمِ الكيْدِ وضخامةِ المكر، كقوله تعالى ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾، وقوله تعالى ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾.



ولا تناقضَ في ذلك على الإطلاقِ، فهو ضخمٌ كبيرٌ عظيمٌ من حيثُ تدبيرُهم وترتيبُهم وتخطيطُهم وحساباتُهم، وما يُوَفِّرونه من إمكاناتٍ ماديةٍ لنجاحِ مكرهم، وما يرصُدونه من بدائلَ لكل الاحتمالاتِ والتوقُّعات، وما يبتكرونَه من حِيَلٍ وألاعيبَ للتمويهِ، وما يمارسونه من ألوانِ الخداعِ الخفيةِ والدقيقة والمحكَمةِ، كلُّ ذلك يجعلُه في أعينِهم وفي أعينِ الناس عظيمًا مهولًا، لو قُدَّر له أنْ يُحقِّقَ أثرَه لزالت الجبالُ به عن مواقِعها، ولكنَّه من حيثُ مواجهتُه لأمرِ الله تعالى وقَدَرِه ضعيفٌ يكادُ يكون غيرَ مؤثر، وذلك بتَوْهِينِ الله إياه. وإنْ شئتَ فانظرْ في تاريخِ الدنيا كلِّها إلى جولاتِ الصراعِ بين الحقِّ والباطلِ؛ لتدركَ ضخامةَ الكيدِ الذي طالما أعدَّه المبطِلون في كل جولةٍ، وهُزالَ النتائجِ النهائيةِ لهذا الكيدِ في نهايةِ كل جولة ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾.



ولهذا فنحنُ مستبشِرون بأنَّ الكيدَ العظيمَ الذي يتعاون عليه المفسِدون في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها على المشروعِ الإسلاميِّ لنْ ينتهيَ إلا إلى ما انتهى إليه كيدُ السابقِين من الضلالِ والتَّبابِ والزوالِ والزُّهُوق ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾.



المُؤْمِنون على يقينٍ من نصرِ الله وهلاكِ الماكِرين:



إنَّ بشائرَ النصرِ كثيرة، ومكرَ الله بالمجرمين حاصلٌ، فلْنَثِقْ بوعْدِ الله، ولْنَنْتظِرْ فرجَه القريبَ، ولْنَكُنْ على يقينٍ من مكرِه بالماكرين وقُرْبِ أخذِه للظالمين، مهما بدَا أنهم يملكون من أسبابِ البقاءِ والتَّمكين، وقد قال الله تعالى ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾.



والمهمُّ أن نكون نحن أهلًا لنصرِ الله تعالى، وأن نتَّخِذَ من الأسبابِ ما بوُسْعِنا، ثم ندَعَ الأمرَ لربِّ العالمين ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقد أخبرنا الله عن نجاة وفلاح مؤمن آل فِرعون الذي قالَ بعد أنْ بلَّغ دعوتَه وصدَع بالحق ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾.



وإذا أصرَّ المجترئُون على طُغيانهم ومكرِهم، وحقَّقُوا في الظاهرِ بعضَ مآرِبِهم، فلعلَّها أن تكونَ بدايةَ النهايةِ، وعساها أن تكونَ مرحلةً لضعفِ القوةِ ونهايةَ الظلمِ والغطرسةِ بإذن الله، وسننُ اللهِ ماضيةٌ في الفناءِ والهلاكِ على كلِّ مستكبرٍ ماكرٍ غشوم، جاحدٍ بآيات الله ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾.



قُلْ لِلَّذِي فِي الْوَرَى أَضْحَى يُعَادِينَا احْذَرْ فَأَمْرَكَ رَبُّ الْعَرْشِ يَكْفِينَا



اللهم أَعِنّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، وَانْصُرْنا وَلا تَنْصُرْ عَلَينا، وَامْكُرْ لنا وَلا تَمْكُرْ بنا، وَلا تَمْكُرْ عَلَينا، وَانْصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَينا، واجْعَلْ مَكْرَ السَّوْءِ يَحِيقُ بالماكِرِينَ، واجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ تَدُورُ علَى البَاغِين.



وَيَا رَبِّ لَا تَبْعَثْ إِلَيَّ مَنِيَّتِي إِلَى أَنْ أَرَى الْوَعْدَ المُؤَمَّلَ وَالنَّصْرَا

فِي نَهْضَـةٍ بَكْـرِيَّةٍ عُمَـرِيَّةٍ تُعِيدُ إِلَيْنَا مَجْدَنَا تَارَةً أُخْ


رَى

ابتهال
04-06-2014, 22:33
سلسة المكر في القرآن (1): المكر سُنَّة جارية
محمد فقهاء

الحمدُ لله ربِّ العالَمين القوي العزيز، له العِزَّة جميعًا، وله المكْر جميعًا، الحمدُ لله الذي أعزَّ المؤمنين، وقصَم ظهورَ الظالمين المعتدين، وصلَّى الله على رسوله الأمين الهادي البشير، والسِّراج المنير، وعلى آلِه وصحْبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يومِ الدِّين.

إنَّنا نعيش في هذا الزمانِ في عالَم يمتلأ خطرًا وحقدًا مِن بني البشَر بسبب الصِّراع الدائر فيما بينهم، خصوصًا ضدَّ المسلمين مِن قِبل أعداء الإسلام، على شتَّى المجالات وعلى كافَّة الصُّعُد، وهذا العداء ليس جديدًا، فهو منذُ بعثة الرسول العظيم وجهْره بهذا الدِّين العظيم، بدأ الصِّراع الدموي والفِكري والمادي وغيره من الصِّراعات، وهذا الصِّراع بدأ منذ ذلك الوقت، وسيبقَى إلى يومِ القيامة حتى يرِث الله الأرض ومَن عليها، سيبقَى الصِّراع والحِقد مستمرًّا مِن قبل أعداء الأمَّة على الإسلام العظيم، وعلى مَن يرفعون لواءَ هذا الإسلام.

وسيبقَى الأعداءُ يُخطِّطون ويمكُرون لصدِّ المسلمين بكلِّ ما أوتوا مِن قوَّة وستبقَى حقيقة المكر متأصِّلة في نفوسهم ضدَّ الإسلام، فمكر الكافرين بالمسلمين عظيم وواضِح، فهي أيَةٌ ظاهرة يقودها الباطِل ضدَّ الحق، يجتمع فيها أصنافُ الباطل ويتعاونون للقضاء على الإسلام، ففي هذه الأيام تشتدُّ هجمتهم على الإسلام، ويتجدَّد مكرُهم، وتتوحَّد قُوى الكُفر لضرْب المسلمين؛ لهذا لا عجب بأنَّنا نرى هذه الظاهرة بأعيننا في هذا الزمان، ولن نستغربَ إنِ استمرَّتْ فهي ظاهرةٌ باقية ما بقِي هناك كُفر وإيمان؛ لهذا موضوع المكر يُعدُّ من المواضيع التي تدور بها حلقاتُ الصِّراع في العالَم، وهو تحد خطير تواجِهه الأمَّة المسلمة رافعةً لواء الإسلام العظيم، يَكيدون لها ضدَّ عقيدتها وفِكْرها وأخلاقها ولُغتها وكافَّة سُبل حياتها.

لهذا على الأمَّة الإسلاميَّة أن تكون أكثرَ وعيًا، وما تواجِهه من قُوى الكفر؛ لتكونَ على حذر بما تواجِهه ولتزيل كلِّ المخطَّطات التي تحاك ضدَّها ولتفشل كل مخططات وتدابير أعدائها.

وبما أنَّ القرآن الكريم حي في كلِّ زمان ومكان، فقد حذَّر الأمَّة الإسلامية ونبَّهها من مكر أعدائها مبكرًا في العهد المكي؛ مِن أجل الحذَر، وللاستعداد لما ستتلقَّاه من أعدائها؛ لتكونَ على يقظة وحذر ليس فقط في ذلك الزمان وإنَّما على مدار التاريخ؛ لأنَّ القرآن هو المعجزةُ الباقية والكِتاب الخالِد، ومَن يقرأ القرآنَ يعْلَم كيف أخَذ القرآن ينبِّه الفِئة المؤمِنة مِن هذه الظاهِرة وحذَّرهم من مكْر الماكرين وبيَّن لنا صِفاتِ الماكرين، وما هي أساليبهم، وكيف لنا أن نتعامَل مع هذه الظاهِرة ومع أصحابها.

نسأل الله تعالى أن يَعصمَنا من كَيد الأعداء، وأن يردَّ كيدَهم في نحورِهم ويجعَل تدبيرَهم تدميرًا عليهم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسَّلام على الأنبياء أجْمَعين.

ابتهال
04-06-2014, 22:37
سلسلة المكر في القرآن (2): المكر عند أهل اللغة


المكر عند أهل اللغة

• قال الرَّاغب: المكر: صرف الغير عمَّا يقصده بِحِيلة، وذلك ضربان:

1 - مكر مَحمود: وذلك أن يتحرَّى بذلك فعلاً جميلاً، وعلى ذلك قال: وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54].

2 - مكرٌ مذموم: وهو أن يُتحرَّى به فعل قبيح، قال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43].

وقال في الأمرين: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل: 50][1].

• وابن فارس قال: المكر هو: الاحتيالُ والخِداع[2].

• أما ابن منظور فقال: المكر هو احتيال في خُفْية، كما قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل: 50]؛ أيْ: إنَّه مَكْر غير ظاهر للممكور به[3].

• أمَّا في "المعجم الوسيط" فـ: المكر هو الخداعُ وأن تَصْرِف غيرك عن مقصده بحيلة[4].

• وقال الدامغانيُّ في "قاموس القرآن": جاءت على خمسة أوجه: تكذيب الأنبياء، فعل الشِّرك، القول، إرادة القتل، الحيلة.

فوَجْه منها: المكر: تكذيب الأنبياء، ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا [الأنعام: 123] يعني: يكذِّبوا الأنبياء، وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنعام: 123]؛ أيْ: عقوبة ذلك تعود عليهم.

الثاني: المَكْر فِعْل الشِّرك، ومنه قوله تعالى في سورة فاطر: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [فاطر: 10]؛ يَعني يُشركون بالله تعالى.

الثالث: المكر: القول، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف: 31]، نظيرها في سورة سبأ: مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ [سبأ: 33].

الرابع: المكر: إرادة القتل، ومنه قوله تعالى في سورة غافر: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر: 45]؛ أيْ: ما أرادوا، كقوله تعالى في سورة الأنفال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30]؛ أيْ: يهمُّون بقتلك، وقوله تعالى في سورة الأنفال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال: 30]؛ يعني يريدون قتْلَك، ويعصمك الله، مثلها في سورة النحل: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل: 50] يعني أرادوا قتْلَ صالِح، ونَجَّيناه، كقوله تعالى في سورة آل عمران: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54]؛ أيْ: أرادوا قتْلَ عيسى - عليه السَّلام - (ورفعه الله).

الخامس: المكر: الحيلة، ومنه قوله تعالى في سورة الأعراف: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ [الأعراف: 123]؛ يعني: حيلة احتَلْتُم أنتم وموسى - عليه السَّلام[5].

• وبعد هذه الجولةِ في قواميس اللُّغة، نجد أنَّ معنى المكر متقاربٌ عند أهل اللُّغة؛ فالاحتيال والخداع معناهُما مُتقارب، وذكَر أهْلُ اللغة أنَّ المكر بالمعنى السيِّئ والسلبِي هو الأكثر ورودًا عند أهل اللُّغة؛ لأنَّه هو الأكثر استعمالاً، أمَّا استعماله من الناحية الإيجابية والجيِّدة فغير شائع في الاستخدام اللُّغوي، وبالنظر في المعاني اللغوية للمكر؛ فإنَّنا نستنتج التالي:

1 - أن المؤمنين لَم يوصفوا بصفة المكر؛ لأنَّ هذه الصِّفة ليست من صفات المؤمنين.

2 - وأن أكثر استعمال القرآن للمكر كان على جهة الذمِّ، وليس على جهة المدح.

3 - وأنه مع أن المؤمنين لم يوصفوا بالمكر، إلاَّ أنه يجوز لهم أن يستخدموا المكرَ لصدِّ عدوهم؛ من أجْلِ حماية أنفسهم.

4 - وأنه يوجد فرقٌ بين مكر الله ومكر الأعداء؛ وذلك لأنَّ مكر الأعداء هو الاحتيال، ومكر الله هو ردٌّ للمكر بِخِذلانهم واستدراجهم، ثم إيقاعهم في الهلكة وهم لا يشعرون.

5 - وأنَّ مكر الله هو جزاءٌ لِما يقوم به الماكرون.

6 - وأنه ورد عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال في الدعاء: ((رَبِّ امْكُر لي، ولا تَمكر عليَّ))؛ صحيحٌ، رواه ابن ماجه، ومثل هذا لَم يَرِد في كتاب الله حيث إنَّ تعدِّي فعل المكر باللام يدلُّ على تدبيرٍ خفي حسَن، وتعدِّيه بحرف الجرِّ "على" يدلُّ على تدبيرٍ خفي سيِّئ.

7 - وأخيرًا نستنتج أنَّه يوجد فرقٌ بين المكر والخداع والكيد في استعمال القرآن الكريم.

[1] "المفردات في غريب القرآن"، الأصفهاني، صفحة 473، المكتبة التوفيقيَّة.
[2] "معجم مقاييس اللغة"، ابن فارس، 5 / 245، دار الفكر، 1399 هـ - 1979 م.
[3] "لسان العرب"، ابن منظور، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى.
[4] "المعجم الوسيط"، دار الدعوة، إبراهيم مصطفى، وآخرون.
[5] "قاموس القرآن"، إصلاح الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص 439، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان.

ابتهال
04-06-2014, 22:57
سلسلة المكر في القرآن (3)
المكر صفة للمجرمين وسمة واضحة لأفعالهم

لقد اقتضَتْ حكمة الله تعالى أنْ جعل في هذه الدُّنيا خيرًا وشرًّا، وحقًّا وباطلاً، ولا رادَّ لحِكمته، وجعل في كلِّ زمان ومكان أناسًا يعيثون في الأرض الفساد، وينشرون الرذيلة، ويُحاربون الفضيلة، وابتلى بعض الناس ببعض؛ ليمحص الله عباده: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123].

والمكرُ هو التدبير الخفيُّ الذي يقوم به أصحابه؛ لكي يمرِّروا ما خطَّطوا له من إيقاع الأذى بأهل الحقِّ، وهؤلاء الصِّنف من الناس عبَّر عنهم القرآن الكريم بلفْظِ الملأ، والمَلأُ هم أشراف القوم وقادتهم، ورؤساؤهم وساداتهم[1]، وهم البارزون في مُجتمعهم، وهم أصحاب نفوذِ مُجتمعهم، والناس يَضعونهم موضع الأشراف والسَّادة، وهم الذين استحقُّوا قيادة المجتمع حسب مفهوم المجتمع الذين يعيشون فيه، وإطلاق كلمة "الملأ" في القرآن جاء لبيان الواقع، وليس لبيان الحقيقة، أو لأنَّهم يستحقُّون هذه المنزلة وهي منزلة الرِّياسة والقيادة[2].

قال ابن الجوزي: وإنما جُعل الأكابر فُسَّاقَ كلِّ قرية؛ لأنَّهم أقرَبُ إلى الكفر بما أُعطوا من الرِّياسة والسَّعة[3]، فهؤلاء المجرمون يحبُّون التسلُّط على رقاب العباد، ويعارضون كلَّ دعوة تؤدِّي إلى سَلْبِهم مكانتَهم وجاههم، وتزيل سلطانهم على رقاب العباد.

ولذا يُحاول أهل الباطل في كلِّ مكان وزمان أن يُعادوا ويقاوموا كلَّ دعوةِ حقٍّ، ويرفضون ما يَسلب ملكهم ويبدِّد حكمهم، بل يحرِّضون الناس على الدعوة، كما قال في قصَّة نوح - عليه السَّلام -: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 24]، فهم بِدَورهم - من أجل الحفاظ على مكانتهم - يحرِّضون الناس على نَبْذِ الدعوة والرسولِ نوح، حرَّضوا قومه عليه، وقالوا لهم: إنَّ نوحًا يريد أن يتفضل عليكم؛ من أجل صرف الناس عن نوح؛ لتبقى سيطرتُهم عليهم.

وهذا مثالٌ من الرسل السابقين، أمَّا ما حصل مع خاتم الأنبياء والمرسلين ما فقد قصَّه الله عن الملأ من قريش: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ، هذا بعض ما قالَهُ الملأُ من قريش، ومعناه كما جاء في "تفسير القرطبي": إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ كلمة تحذير؛ أيْ: إنَّما يريد محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما يقول الانقيادَ له؛ ليعلو علينا، ونكون له أتباعًا، فيتحكَّم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه"[4].

وهذه الآية بيانٌ بأنَّ في كلِّ بلد مجرمين من الأكابر والعظماء؛ للفساد في الأرض، وهذه صفةٌ للمجرمين، وبيانٌ لديدنهم وأسلوبهم، وهذه الآية نزلت والرسول في مكَّة؛ لتبين لِحمَلة الدَّعوة أن هذا المكر هو صفةٌ للمجرمين، وفي هذا تسليةٌ لهم بما سيُلاقونه؛ ليكونوا على استعداد؛ لأنَّ مكة مرَّت بظروفٍ وأحوال صعبة على المسلمين؛ لأنَّ أكابر مكة كادوا للمسلمين بكلِّ الطُّرق والوسائل، كما هو اليوم، سواء كان كيدًا ماديًّا أم إعلاميًّا، ومن ترويج بأن الإسلام دين إجرام وقتل، وأن المسلمين أناس همَج ورعاع وقتَلة، وأنَّهم ظلَمة، وأن نساءهم مضطهَدات!

قال ابن كثير بأنَّ المكر المقصود في هذه الآية هو دعوتهم إلى الضلالة من خلال زَخْرفة قولهم وأفعالهم[5]، وخصَّ القرآنُ ذِكْر الأكابر؛ لأنَّهم هم أهل الحَلِّ والعقد، وبيدهم زمام الأمور ولأنَّهم أقدر الناس على الفساد والصدِّ؛ بحكم موقعهم ومنزلتهم في قوتهم[6].

إنَّ استعلاء هؤلاء الملأ على مجتمعهم، وتسلُّم زمام الأمور لَهُو أمر غريب، وقد قدَّم المفعول الثاني لـ{جعل} كذلك ليس بأن؛ هذا الأمر عجيب؛ لأنهم ليسوا بأهلٍ للسُّؤدد، قال ابن عاشور: "وقدَّم المفعول الثّاني للاهتمام به؛ لغرابة شأنه؛ لأنَّ مصيرَ المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب؛ إذ ليسوا بأهل للسؤدد"[7].

ومن الأمور العجيبة في الآية المذكورة سابقًا: أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا [الأنعام: 123]، فوصَف هؤلاء الأكابر بأنَّهم مجرمون وماكرون، ومعلومٌ أنَّ الجُرم هو الذَّنب، وفعلة الإجرام - وهي صفة أهل الشرِّ من المجرمين والماكرين - صفةٌ للمجرمين.

قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 117 - 123] .

لقد جاء الأمر الإلهيُّ إلى موسى - عليه السَّلام - لِيُلقي عصاه، فإذا هي حيَّة تسعى، تأكل كلَّ ما كانوا به يأفكون من الكذب والتمويه، وظهر الحقُّ، وتبيَّن في ذلك الموقف، وبطل سحرهم وظهر، وصاروا حقيرين في ذلك الموقف؛ لأنَّ باطلهم الذي كانوا يفتخرون به قد زال، وسحرهم الذي عملوه قد تلاشى، ولم يحصل لهم مقصودهم الذي أرادوه وجمعوا أمرهم عليه.

ومن ثَمَّ لما عرف أولئك السحرة أن هذا الذي حصل ليس سحرًا أو أمرًا طبيعيًّا؛ لكونهم على معرفةٍ بالسِّحر وطرقه، فهم يعرفون ما لا يعرفه غيرهم، وعرفوا أنَّ الذي حصل آيةٌ من آيات الله، وليس من عمل موسى؛ لهذا ما كان لهم إلاَّ أن يُعلِنوا إيمانَهم.

لكن الشاهد في هذه الآيات أنَّ المؤمنين هنا وصفوا بالمكر، والمكر صفة ليست للمؤمنين، وإنَّما للكافرين، وكل وصف ذُكِر فيه المكر كان صفة للمجرمين إلاَّ في هذا الموضع فقط، فبعد أن جمع فرعون الطاغيةُ السَّحرةَ، وحشد كلَّ ما لديه، وحشر الناس أمامهم، كانت النتيجة عكس ما يريد، وانقلب السِّحر على الساحر كما يُقال، وقضى الله أمرًا كان مفعولاً، فكان السَّحرة كما قال قتادة: كانوا في أول النهار كفَّارًا سحرة، وفي آخره شُهَداء برَرة[8].

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 123]، فقول فرعون هنا يحتمل أن يكون ما قاله موافقًا لظنِّه على سبيل التهمة لهم، فهو قالها موبِّخًا إياهم، كما يحتمل أن يكون قالها تمويهًا وبهتانًا؛ من أجل صرف الناس عن اتِّباع السحرة لها[9].

وبهذا يظهر التلفيق والتزوير والكذب على حقيقته أمام العامَّة، وظهر الحق جليًّا، أمَّا فرعون فقال هذا ليرد كرامته التي سُلِبت منه في هذا المشهد، فصار يكلِّم في الناس، ويُنادي بأنَّ هؤلاء متَّفقون مع موسى، وأن هذا دبَّروه في السِّر، وادَّعى للناس بأنَّهم مستهدفون من هذا المكر، وأن موسى ومن معه من السحرة سوف يُخرجونَهم من مدينتهم، وأخذ يهدِّد ويتوعد.

قال سيد: إنَّه الفزَع على العرش المهدَّد، والسلطان المهزوز: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا [الأعراف: 123]، وفي نصٍّ آخَر: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه: 71]، والمسألة واضحة المعالم، إنَّها دعوة موسى إلى "ربِّ العالمين"، هي التي تزعج وتخيف، إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطَّواغيت مع الدعوة إلى ربِّ العالَمين، وهم إنَّما يقوم ملكهم على تنحية ربوبيَّة الله للبشر بتنحية شريعته، وإقامة أنفسهم أربابًا من دون الله يشرعون للناس ما يشاؤون، ويعبِّدون الناس لما يشرِّعون! إنهما منهجان لا يجتمعان، أو هما دينان لا يجتمعان، أو هما رَبَّان لا يجتمعان، وفرعون كان يعرف، وملَؤُه كانوا يعرفون، ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى ربِّ العالمين، فأولى أن يفزعوا الآن وقد أُلقي السَّحرة ساجدين، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121 - 122]، والسَّحَرة من كهنة الديانة الوثنيَّة التي تؤلِّه فرعون، وتمكِّنه من رقاب الناس باسْم الدِّين[10]!

أراد فرعون أن يقلب الحدث على موسى ومن آمن معه، ويقلب الحدث لصالحه، ويجمع الناس حوله، وأخذ ينادي: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزخرف: 51]، نادى بعد أن رأى الآيات الباهرة، فخاف أن يؤمنوا، وقال مفتخرًا متبجِّحًا: أليست بلاد مصر الواسعة الشاسعة ملكًا لي، وهذه الأنهار تجري من تحت قصوري؟! قال قتادة: كانت جنَّاتها وأنهارها تجري من تحت قصره[11].

أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف: 52]، مشيرًا إلى قلَّة موسى وذلَّته، وفي هذا إغراءٌ لهم بِمُلكه؛ فموسى لا ملك ولا مال، ولا جاه له ولا سلطان.

ومنَ اللاَّفت للنظر أنَّ هذه السُّنة جارية في كلِّ طاغية وكلِّ ظالِم قديمًا وحديثًا، وفي عصرنا هذا ليس ببعيدٍ؛ فطُغاة هذا الزمان سلكوا مسلك سلَفِهم السابقين، فهم يتَّهمون أهل الحق بأنهم مخادعون، وأنَّهم لا يريدون إلا الوصول للحكم، وأنَّهم يُريدون السيطرة على الناس، ويروِّجون بين العامَّة بأن المسلمين إرهابيُّون! مما يسهِّل لهم بعْدُ شَحْذ الرأي العامِّ؛ للسيطرة على الشعوب، والقتل وسفك الدِّماء، وإقامة المَحاكم، وإصدار القرارات الظالمة بحقِّهم، كما وعد فرعون السابق أولئك الذين آمنوا: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف: 124].

قال سيِّد: إنه التعذيب والتشويه والتنكيل، وسيلةُ الطَّواغيت في مواجهة الحقِّ، الذي لا يملكون دفْعَه بالحُجَّة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحقِّ الصريح[12]، إلا أنَّه مع كل هذا الوعيد بعد أن يرتفع الإيمان بالقلوب، وتنتصر العقيدة على الحياة، فلا ترضخ لتهديد الطُّغاة؛ فلقد تحرَّرت تلك القلوب، ورفضت الذُّل وحب البقاء[13]، فهؤلاء استعلَتْ قلوبهم بالإيمان، ولهذا خرجَت من أفواههم كلمات هي كالعبير: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [الأعراف: 125].

قال سيد: إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع، كما أنَّه لا يخضع ولا يخنع، الإيمان الذي يطمئنُّ إلى النهاية فيَرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربِّه، فيطمئن إلى جواره[14].

ثم جاء طلب المدَد والعون من الله: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 126]، فهُم لا يطلبون السَّلامة من عدوِّهم، وإنما طلبوا من ربِّهم الصَّبر على الفتنة، وأن يختم لهم على الإسلام[15]، فهم يَعْلمون طبيعة المرحلة، وطبيعة المعركة؛ فهي معركةُ عقيدةٍ، فإمَّا كفر وإما إيمان، فالمعركة بين المؤمن وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق، وأنَّ خصومهم لا ينقمون منهم إلاَّ الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة، وأنَّها قضيَّة عقيدة، معركة عقيدة[16].

[1] "تفسير القرطبي"، ج 3، ص 234، "ابن كثير"، ج3 ص 223.
[2] انظر: "أصول الدعوة"، د. عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، ص 380.
[3] "زاد المسير" ج 3، ص 117.
[4] "تفسير القرطبي" ج 15، ص 151 - 152.
[5] ابن كثير، "تفسير القرآن العظيم"، ج 2، ص 172، بتصرف.
[6] انظر: "الجامع لأحكام القرآن"، محمد القرطبي، ج 7، ص 79.
[7] "التحرير والتنوير"، ابن عاشور، ج 8، ص 48.
[8] "البحر المحيط" 4/ 364.
[9] ابن عاشور، "التحرير والتنوير"، ج 9، ص 54، بتصرف.
[10] "الظِّلال"، سيد قطب، ج 3، ص 1351.
[11] "البحر المحيط" 8/ 22
[12] "الظلال"، سيد قطب، ج 3، ص 1351.
[13] بتصرف، "معالم في الطريق"، سيد قطب، ص 179.
[14] "الظلال"، سيد قطب، ج 3، ص 1351.
[15] سيد قطب، "الظلال"، ج 3، ص 1351، بتصرف.
[16] انظر: "معالم في الطريق"، سيد قطب، ص 191.

ابتهال
04-06-2014, 23:11
سلسلة المكر في القرآن (4) المكر أسلوب لمواجهة الرسل ودعواتهم

إنَّ الكفارَ حاولوا بكل الطرُق والوسائل الصدَّ عن دينِ الله، وعن انتشار الحقِّ بكل الطرقِ والوسائل؛ ومن هذه الطرق المكرُ بالرسلِ ودعواتهم، سالكين مسلكَ الخفة الماكرة، ولقد وضح القرآنُ وبيَّن أساليبَهم، وكيف واجهوا الرسلَ بمكرهم؛ ومن هؤلاء الأنبياء: نوح - عليه السلام - فقد قال الله - تعالى - مخبرًا عن موقفِ قوم نوح من نوح - عليه السلام - ومن دعوتِه، وكيف واجهوا نوحًا بتلك الأساليب الماكرة؛ قال - تعالى -: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح: 22]، قال ابنُ عاشور في "التحرير والتنوير": "مكروا بنوحٍ والذين آمنوا معه بإضمار الكيد لهم، حتى يقعوا في الضرِّ، قيل: كانوا يدبرون الحيلةَ على قتلِ نوح، وتحريش النَّاسِ على أذاه وأذى أتباعِه"[1]، فهؤلاء لم يكتفوا فقط بالإضلالِ كما دلتْ على ذلك الآيات: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح: 24]، بل وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ؛ مكرًا متناهيًا في الكِبرِ، وكان مكرُهم من أجلِ إبطالِ الدعوة، وإغلاق الطريقِ أمامها؛ للحد من انتشارِها للنَّاس، ومكرهم هذا من أجلِ تزيين الباطل والكفر والضَّلال، وزيادة على هذا فقد حرَّضوا النَّاسَ على عدم ترك أصنامهم؛ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح: 23][2]، قال الألوسي في قولِه: ï´؟ كُبَّارًا ï´¾: "مبالغة في الكبر؛ أي: كبيرًا في الغايةِ؛ وذلك احتيالهم في الدِّين، وصدهم النَّاسَ عنه، وإغراؤهم وتحريضهم على أذيةِ نوح - عليه السلام"[3]، فمكرهم مكرٌ بليغ وكبير في معاندةِ الحق.

وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا [نوح: 23-24]؛ قال سيد قطب: "إضافة آلِهَتَكُمْ لإثارةِ النخوة الكاذبة، والحمية الآثمة في قلوبهم"[4]، وخصصوا هذه الحمية بأصنامهم التي كانوا يعبدونها - وهي أكبر أصنامِهم - لشدة كفرِهم وتعنُّتهم في قَبولِ الحق[5]، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ككلِّ قيادةٍ ضالة تجمعُ النَّاسَ حول الأصنام - فأصنام الأحجارِ وأصنام الأشخاص وأصنام الأفكار سواء - للصَّدِّ عن دعوةِ الله، وتوجيه القلوب بعيدًا عن الدُّعاةِ بالمكر الكبار، والكيد والإصرار[6]، فهؤلاء الكبار أضلُّوا كثيرًا من الخلقِ؛ لأنهم زيَّنوا لهم طرقَ الضلال، فشرع نوحٌ - عليه السلام – في دعائه عليهم بقوله: وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ، فقد دعا عليهم بعد أن يئسَ من استجابتِهم، لما أخبره الله بأنَّه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36]، فاستجاب الله دعاءَ نبيه؛ فأغرقهم بالماء.

وقد ذكر ابنُ عاشور أن معنى الضَّلال: "عدم الاهتداءِ إلى طرائقِ المكر، وأن يحولَ الله بينهم وبين مكرهم، وألا يزدهم إمهالاً في طغيانهم عليهم، إلا أن تضللهم عن وسائلِهم"[7]، ولم يأتِ هذا الدُّعاء إلا بعد أن عانى نوحٌ - عليه السلام - كثيرًا من قومِه، وبعد أن يئس من قلوبِهم الظالمة الباغية، فهم لا يستحقون الهدى.

لقد حدَّث القرآنُ بما وَقَع مع نوحٍ، وأيضًا حدَّث بما وقع مع نبي آخر من مكرِ قومه وبدعوته؛ وهو نبي الله صالح - عليه السلام - قال - تعالى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَيَشْعُرُونَ [النمل: 45 - 50].

فأخبر الله في بدايةِ الآيات أنَّه أرسل لهم أخاهم في النَّسبِ صالحًا - عليه السلام - يدعوهم إلى دينِ الله، شأنه كشأن كلِّ نبي ورسول؛ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ؛ قال مجاهد: "فريقان؛ فريقٌ مؤمن، وفريق كافر، وكان معظمهم كفارًا".

إنَّ المعرضين المكذبين استعجلوا العذابَ الذي يحذرهم منه صالح - عليه السلام - فهم بدلاً من أن يطلبوا هدى اللهِ ورحمتَه، فأنكر عليهم استعجالهم بالعذابِ وعدم طلبِهم الهداية، وحاول أن يوجهَهم إلى استغفارِ الله والتوبة لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، فماذا كان جوابهم؟ لقد قالوا: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ، والتطيُّر هو التشاؤم، فهم زعموا أنهم لم يروا خيرًا قط على وجهِ صالح ومن معه في أمورِهم الدنيوية، قبحهم الله بهذا الاتهام الزَّائف، قال سيد: "فلمَّا قال قوم صالح - عليه السَّلام - قولتَهم الجاهلة الساذجة الضَّالة في تيه الوهمِ والخرافة، ردَّهم صالح إلى نورِ اليقين، وإلى حقيقتِه الواضحة البعيدة عن الضَّباب والظَّلام: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ "[8]، فما أصابهم كان بسببِ ذنوبهم!

قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ : فحظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله، والله قد سنَّ سننًا، وأمر النَّاسَ بأمور، وبيَّن لهم الطريقَ المستنير، فمن اتبع سنةَ اللهِ وسار على هداه فهناك الخير بدون حاجةٍ إلى زجرِ الطير، ومن انجرف عن سنةِ الله وحاد عن السَّواء فهناك الشر، بدون حاجةٍ إلى التشاؤم والتطير.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تفتنون بنعمةِ الله، وتختبرون بما يقع لكم من خيرٍ ومن شر، فأنتم تفتنون بالسَّراءِ والضَّراء، وبالخيرِ والشر، لينظر هل تقلعون وتتوبون إلى الله أم لا؟"[9].

وقد ذكرت الآياتُ أنهم كانوا رهطًا، ووَصَفَهم القرآنُ بأنهم مُفْسِدون في الأرضِ فقصدهم وفعلهم الإفساد فقط، وأخبر أنهم قد استعدوا لمعاداةِ صالح والطعنِ في دعوتِه؛ ذكر الضَّحاكُ أنَّ هؤلاء هم أشرافُ وعظماءُ أهلِ المدينة، وشأنهم الإفساد، وإيذاء العباد بكلِّ طريقةٍ ووسيلة، وقال ابنُ عباس - رضي الله عنهما -: هم الذين عقروا الناقة[10]، وهؤلاء الرهطُ لم يعد في قلوبهم متسع للصَّلاحِ والإصلاح، وبيتوا فيما بينهم أمرًا[11]، لقد بيتَ هؤلاء قتلَ صالح وأهلَه بياتًا، وبيتوا هذا العملَ وذهبوا إلى بيتِ صالح وأهله لقتلِه، إلا أنَّ الملائكة رمتهم بالحجارة؛ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ .

فهم دبروا المكيدةَ لقتل صالح وتصفيته، إلا أنَّ الله جازاهم على مكرِهم بأنْ عجَّل لهم العقوبةَ والهلاك وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، فأين مكرُهم من مكرِ الله؟! وأين تدبيرهم من تدبيرِ الله؟! وأين قوتهم من قوةِ الله؟! وأين جندهم من جند الله؟! وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فأتاهم الله من حيثُ لا يشعرون، فباغتهم الله وهم لا يشعرون، وأتاهم من حيث لا يدرون؛ قال أبو حيان: "مكرُهم هو تدبيرُهم لقتلِ صالح، ومكر الله إهلاكُهم وهم لا يشعرون"[12].
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل: 51- 52]، فمن لمحةٍ إلى لمحة إذا التدمير والهلاك، وإذا الدور الخاوية والبيوت الخالية، وقد كانوا منذ لحظةٍ واحدة.

ففي الآيةِ السابقة من السورةِ يدبرون ويمكرون، ويحسبون أنهم قادرون على تحقيقِ ما يمكرون[13]، فحصل هذا بسرعةٍ ليدلَّ على المباغتة، وحسن التدبير، وأنَّ في هذا لعبرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُون حتى يتعظوا بما حصل.

ومعلوم أنَّ المكرَ في كلِّ زمانٍ ومكان، فقد قاموا بهذا ضد الأنبياء والرسلِ، وليس ببعيدٍ أن يمكروا بحملةِ الدَّعوةِ بعد الرسل والأنبياء، وعرفنا كيف فعلوا ودبروا كلَّ مرةٍ ضد الأنبياء؛ منهم نوح وصالح، ولم تقتصر عليهم فقط، وإنما استعملها فرعونُ ضد موسى - عليه السلام - عندما قال: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26]، وكذلك مع عيسى - عليه السَّلام -: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 52 - 54]، إلا أنني اقتصرتُ الحديثَ على نوح وصالح، وسأختتم بمكرِ قريش بسيدِنا محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكفار عصره، فالمؤامرة التي استعملها الكفارُ قديمًا في عصر نوحٍ ضد نوح هي نفسها التي استعملها الكفَّارُ في كلِّ زمانٍ ومكان؛ من أجلِ التخلص من دعوةِ الحق، وذلك باغتيال حامل الدعوة؛ قال - تعالى -: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] والمعنى أنهم كان لديهم ثلاثة خيارات؛ إمَّا الإثبات: وهو الحبس والوثاق، والطريقة الثانية: وهي التصفية الجسدية بالاغتيال والقتل، والطريقة الثالثة: وهي الإخراجُ والطرد والإبعاد من محلِّ الدعوةِ، ليحولَ وصول الدعوةِ للناس، وهذه الطرقُ الثلاثة كانت قديمة حديثة، ففي القتلِ قال الله - تعالى -: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وفي االحبس والوثاق: قول فرعون لموسى - عليه السلام -: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] وفي الإخراج قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [إبراهيم: 13]، قال الطبري في تفسيرِه لهذه الآية: "رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما –أنه قال: لما عرفتْ قريش أنَّ رسولَ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد كانتْ له شيعة وأصحاب من غير بلدِهم، ورأوا خروجَ أصحابِه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارًا أصابوا منهم منعة، فحذروا خروجَ رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاجتمعوا له في دارِ النَّدوة؛ وهي دارُ قُصي بن كِلاب؛ التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها، فيتشاورون فيها ما يصنعون من أمرِ رسولِ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين خافوه، فلمَّا اجتمعوا لذلك، في ذلك اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يُسمَّى: يوم الزحمة، اعترض لهم إبليس في هيئةِ رجلٍ شيخ جليل، عليه بت - يعني: كساء غليظ من صوفٍ أو وبر - فوقف على بابِ الدَّارِ، فلمَّا رأوه واقفًا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخٌ من أهل نجدٍ، سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشرافُ قريش من كلِّ قبيلة؛ من بني عبد شمس: عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي وجُبير بن مطعم والحارث بن عامر بن نوفل، ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة، ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب وحكيم بن حزام، ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن كان معهم، وغيرهم ممن لا يُعدُّ من قريش، فقال بعضُهم لبعض: إنَّ هذا الرجل قد كان من أمرِه ما قد رأيتم، فإنَّا والله ما نأمنه على الوثوبِ علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيًا، قال: فتشاوروا ثم قال قائلٌ منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا ما أصاب أشباهه من الشُّعراء الذين كانوا قبله؛ زهيرًا والنابغة، ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجدي:

لا واللهِ، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجنَّ أمرُه من وراءِ الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابِه، فلأوشكوا أن يثِبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمرِكم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره، فتشاوروا عليه.

ثم قال قائلٌ منهم: نخرجُه من بين أظهرِنا فننفيه من بلادِنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا، قال الشيخ النجدي:

لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسنَ حديثِه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوبِ الرِّجال بما يأتي به؟ والله لئن فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحلَّ على حيٍّ من العربِ، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسيرُ بهم إليكم حتى يطأكم في بلادِكم بهم، فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه أمرًا غير هذا.

قال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كلِّ قبيلة شابًّا فتى جلدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كلَّ فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا عليه فيضربوه ضربةَ رجلٍ واحد، فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرَّق دمُه - يعني الدية؛ وهي المالُ الذي يُعطى لولي القتيل - فعقلناه لهم، قال الشيخ النجدي:
القولُ ما قال الرجل، هذا الرأي، لا أرى غيره، فتفرَّق القوم على هذا وهم مجمعون له".اهـ[14].

وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30]؛ قال سيد: "والصورةُ التي يرسمها قولُه: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ صورة عميقة التأثيرِ، ذلك حين تتراءى للخيالِ ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبِّرون ويمكرون، والله من ورائهم محيط؛ يمكرُ بهم، ويبطل كيدَهم، وهم لا يشعرون[15].

وفي هذه الآية إشارةٌ إلى أنَّ المكرَ مستمرٌّ، إلا أنَّ المكر الإلهي متربصٌ بهم وَيَمْكُرُ اللَّهُ ، ومكر الله أبلغ وأعظم، والله يمكر بهم من حيثُ لا يشعرون.

والحمدُ لله والصَّلاة والسلام على رسولِ الله محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

[1]- ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج 29، ص (207).
[2]- سيد قطب، الظلال، ج 6، ص (3716)، بتصرف.
[3]- روح المعاني، 29/ 26.
[4]- الظلال، سيد قطب، ج 6، ص (3616).
[5]- حاشية الصاوي بتصرف 4 /251.
[6]- الظلال، سيد قطب، ج 6، ص (3761) .
[7]- انظر التحرير والتنوير، ج 29، ص (211).
[8]- الظلال، سيد قطب، ج 5، ص (2645).
[9]- انظر الظلال، سيد قطب، ج 5، ص (2645).
[10]- بتصرف صفوة التفاسير .
[11]- انظر الظلال، سيد قطب، ج5، ص (2645).
[12]- انظر البحر المحيط، 7 / 85.
[13]- الظلال، سيد قطب، ج 5، ص (2646).
[14]- الطبري، ج 13 ص (495) الحديث الذي جاءت به هذه القصة أخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" (ص63- 64).
[15]- الظلال، سيد قطب، ج 3، ص (1501).

ابتهال
04-06-2014, 23:16
سلسلة المكر في القرآن (5)
المكر بآيات الله

هذا نوعٌ مِن أنواع المكر التي تصدُر عن الكفَّار والمشركين، وهي المكرُ بآيات الله؛ قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس: 21].

فهذا حالُ الناس في النِّعمة بعدَ المرض، والغِنى بعد الفقر، والأُنس بعد الوحشة، والأمن بعدَ الخوف، لا يَتذكَّرون ما أصابَهم في الماضي؛ ليشكروا الله على الرَّخاء والرَّحمة، بل يفعلون العكسَ تمامًا، يزدادون مكرًا وطغيانًا، ويَسعَون بمكرِهم مِن أجل إبطالِ آيات الله، وإبطال الحقِّ، وإطْفاء نور الله؛ قال القرطبي: "وإذا رَزَقْنا المشركين بالله فرجًا بعد كَرْب، ورخاءً بعدَ شدَّة أصابتهم، إذا لهم استهزاءٌ وتكذيب بآيات الله"[1]، وإنَّ المقصود بالكفَّار هم كفار مكة، فذَكَر أنَّ الله سلَّط عليهم الجدْبَ والقحط حتى خافوا الهلاك، فجاؤوا إلى سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليدعو لهم وقدْ وعَدوه بالإيمان، فلمَّا رحمهم الله رجَعوا إلى كُفرهم وعِنادِهم ومكرِهم بآيات الله[2].

قال ابنُ عاشور في تفسير هذه الآية: "ومعنى مكرِهم في الآيات أنَّهم يَمكُرون مكرًا يتعلَّق بها؛ وذلك أنهم يُوهِمون أنَّ آياتِ الله غيرُ دالَّة على صِدق الرسول محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزَعموا أنَّه لو أُنزلتْ عليهم آية أُخرى لآمَنوا، وهم كاذبون في ذلك، إنَّما يكذبون عنادًا ومكابرةً وحفاظًا على دِينهم في الشِّرْك"[3].

قَلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا فكَما هو معلومٌ ومعروفٌ للكلِّ أنَّ المكر السيِّئ لا يَحيق إلا بأهلِه، وأنَّ مَكرَهم مَردودٌ عليهم، ومقصودهم منعكس عليهم، بل إنَّ عقوبةَ الله أسرعُ مِن مكرهم.

إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ قال سيِّد قطب: "فلا شيءَ منه يخفَى ولا شيءَ منه ينسَى"[4]، ثم أعقبَ الله سبحانه هذه بقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ليدلَّ على القُدرة الإلهيَّة العجيبة المتَّصفة بالدقَّة، وبأنَّ الأمور تقَع في مقدورِ الله وحْده، وهذا يردُّ على مَن يفسرون الأمورَ بأنَّها حوادثُ طبيعيَّة، وبأنَّ ما يحصُل ويقَع هو مِن تفكير البشَر ومِن ذكائهم، وأنَّ ما يحدُث مِن زلازل وبراكين وأعاصير، هذا مِن الطبيعة وغضبها، واختلافات الأحوال الجويَّة، وأنَّ ما يحصُل مِن أمراض وأوجاع لم تكُن في أسلافِنا ولم تقعْ على أحدٍ مِن قبل، قالوا: أخطاء وبسببِ تأثيرات فيروسيَّة! وما عَلِموا أنَّ الله هو الذي يُسيِّركم في البرِّ والبحر، وبهذا تطور المكر عما كان عليه قديمًا، فالآن يَمكُرون في آياتِ الله وكتابه بوسائلَ لم تكُن متاحةً للماكرين السابقين مِن أسلافهم، قال المبشِّر تاكلي: يجب أن نَستخدِم القرآن، وهو أمْضَى سلاح في الإسلام ضدَّ الإسلام نفْسِه، حتى نَقضي عليه تمامًا، يجب أن نبيِّن للمسلمين أنَّ الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأنَّ الجديدَ فيه ليس صحيحًا[5]، فما يقوم به المبشِّرون (المنصِّرون)، والمستشرقون وما يقوم به مِن حملات التغريب اليومَ ما هي إلا إكمال لتلك السِّلسة الماكِرة على الإسلام وآياته؛ لأنَّهم يُدرِكون تمامًا أنَّ هذا الكتاب هو سرُّ قوَّة المسلمين، قال غلادستون: ما دام هذا القرآن موجودًا، فلن تَستطيع أوروبا السيطرةَ على الشَّرْق، ولا أنْ تكونَ هي نفسها في آمانٍ كما رأينا[6]، فهُم يعلمون تمامًا أنَّ القرآن وآياته هي سرُّ تمكُّن المسلمين؛ ولهذا يَمكُرون بآياتِ الله تعالى وستبقَى هذه الحَمْلة، لكن الله أسرعُ مكرًا.

[1] جامع البيان، الطبري، ج 11، ص 99 .
[2] انظر الظلال، ج 3، ص 1773 .
[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج 11، ص 133 .
[4] "الظلال"، سيِّد قطب، (3/ 1773).
[5] "قادة الغرَب يقولون: دمِّروا الإسلام أَبيدوا أهلَه"؛ عبدالسلام يوسف (جلال العلم)، دار السلام، (ص: 47).
[6] المصدر السابق.

ابتهال
04-06-2014, 23:20
المكر إفساد في الأرض

لَمَّا كان المكرُ هو الخداعَ واستخدام الاحتيال الخفي ضدَّ الحقِّ وحمَلَة الوحي على مرِّ التاريخ، نبَّه القرآنُ الكريم على أنَّ المكرَ هو حقيقةُ الماكرين، وسِمةٌ لأفعالهم، ونبَّه على أنَّ المكرَ هو الأسلوب الذي استخدَمه المجرِمون ضدَّ الدعوات وضدَّ الحق، وضدَّ منهج الله، وضدَّ المسلمين والإسلام؛ لصدِّ الناس عن هذا الدِّين، وهذا المكر لو أنَّه نجَح وتمكَّن المجرِمون مِن النجاح به، لفسدتِ الأرض؛ لأنَّ الأرضَ لا تصلُح إلا بمنهج الله، وقد ذَكَر الله لو أنَّ هؤلاء تمكَّنوا ولو أنَّ مكرهم نفَذ لفسدتِ الأرض؛ قال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46]، فهؤلاء المكذبون مكَروا مكرًا كبيرًا، لكنَّ الله أحاط بما يسرُّون، ونبَّهتِ الآية على أنَّ مكرَهم لو أنَّه نفذ لزالتْ منه الجبالُ الراسياتُ مِن شِدَّة مكرِهم، قال سيِّد: "إنَّ الله محيطٌ بهم وبمكرِهم، وإنْ كان مكرُهم مِنَ القوَّة والتأثير حتى ليؤدِّي إلى زوالِ الجبال، أثْقَلِ وأصْلَبِ شيء، وأبعد عن تصوُّر التحرُّك والزوال، فإنَّ مكرَهم هذا ليس مجهولاً، وليس خافيًا، وليس بعيدًا عن متناولِ القُدرة، بل إنَّه لحاضرٌ عندَ الله يفعل به كيفما يشاء"[1]، وهذه الآية تُقرأ على وجهين: بالكَسْر؛ أي: بكسر اللام، وبفتح اللام، وكلٌّ منهما له معنى، ففي الفتْح يدلُّ على أنَّ مكرَهم بلغ مِن القوَّة بحيث لو نفَذ لزالتْ منه الجبال، وبالكسر يدلُّ على أنَّ مكرَهم ما كانت الجبال زائلةً منه، وهذا على سبيلِ الاستهزاء بهم؛ ليقول لهم: إنَّ مكركم لن يتجاوز مكرَ سلَفِكم وما هو بالذي تزولُ منه الجبال[2].

فمهما كان مَكرُهم مدبَّرًا ومخططًا له بإحكامٍ، إلاَّ أنَّ الله يُبطله؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10]، فالآيةُ تعبِّر عن أنَّ هؤلاء دبَّروا بإحكام؛ أي: إنَّ هؤلاء يدبِّرون، ووعَدهم الله بالعذاب الشديد وبأنَّ مكرَهم وتدبيرهم يبور فلا يَحيا ولا يُثمر[3]، وأنَّه ﴿ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]، وهذه الحَملة قديمة حديثة مِن خلال تَزيينهم الباطل للعامَّة، وتحسين صورتِه للناس، وهذا ما نطَق به باكتول عندما قال: إنَّ المسلمين يُمكِنهم أن يَنشُروا حضارتَهم في العالم الآن بنَفْس السرعة التي نَشُروها سابقًا، بشرط أنْ يَرجِعوا إلى الأخلاقِ التي كانوا عليها حين قاموا بدَورِهم الأوَّل؛ لأنَّ هذا العالم الخاوي لا يَستطيع الصمودَ أمامَ رُوحِ حضارتِهم[4]!

فهُم يعلمون أنَّ صلاح الأرض وعمارتها لا تكون إلاَّ بأُناس يحملون قِيَمًا وأخلاقًا لتمكنهم مِن التغيير، وإلاَّ فالفساد مُنتشرٌ لا محالة، فسلوكُ البشَر مرتبط بعقيدتهم، وأي فساد سيكون في العَقيدةِ، سيكون هناك فسادٌ في السلوك والأخلاق، وهذا هو الذي يُفسِد الأرض؛ ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43].

والمكر السيِّئ هو الخداعُ الذي يَرمونه برسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والكَيد له[5]، إلاَّ أنَّ المكرَ السيِّئ الذي دبَّروه راجِعٌ عليهم؛ {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].

[1] "الظلال"، سيد قطب (4/ 2113).
[2] انظر: "التحرير والتنوير"، ابن عاشور (13/250).
[3] انظر: "الظلال" (5/2931).
[4] "قادة الغرْب يقولون: دمِّروا الإسلام أَبيدوا أهله"، جلال العالم (ص: 48).
[5] البحر المحيط ، ج 7 ، ص 3

ابتهال
04-06-2014, 23:24
سلسلة المكر في القرآن (7) تعامل القرآن مع المكر
محمد فقهاء

لقد تعامل القرآنُ مع موضوع المكر بأسلوب معمَّق؛ من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولتحذير المؤمنين من المكر، ومن أصحابِ المكر، وليَعلم الماكرون أنَّهم مفضوحون من الله، وأنَّ ألاعيبهم مكشوفةٌ لدى المؤمنين، وأنَّ مكرهم هذا مردودٌ إليهم بقدرة الله تعالى؛ ولهذا بصَّر المؤمنين بطريق المرسَلين؛ حتى لا يسيروا في طريق مظلمٍ وغير معروفِ النتائج؛ ليكون المسلم على بصيرة من أمره؛ لهذا عرَّفنا القرآنُ أن الكافرين يتربصَّون بالمؤمنين، وأنَّ عليهم أن يواجهوا الكفرة، وأنَّهم المنصورون - بإذن الله - ما داموا قائمين بأمره؛ لأن الله لا يخذُل عباده المؤمنين، وأنَّ الله سيحبط مكرهم، وسيردُّ كيدهم في نحرهم.

قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل: 50]، فالله - سبحانه - لا ينسى عبادَه، وهذا يُطمْئنُ عبادَه بأنهم ليسوا وحدهم يقاتلون، وبأنهم ليسوا وحدهم الذين يسيرون في هذا الطريق دون مُعين: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل: 51]، فهل حصل ما قصدوه؟ وهل أدركوا ما أرادوه؟

قال سيد قطب: "ومن لمحةٍ إلى لمحة، إذا التَّدمير والهلاك، وإذا الدُّور الخاوية والبيوت الخالية، وقد كانوا منذ لحظة واحدة في الآية السابقة يدبِّرون ويمكرون، ويحسَبون أنهم قادرون على تحقيق ما يمكرون، وهذه السرعة في عرض هذه الصفحة بعد هذه مقصودةٌ في السياق؛ لتظهر المباغتة الحاسمة القاضية، مباغتةُ القدرة التي لا تُغلَب للمخدوعين بقوتهم، ومباغتةُ التدبير الذي لا يخيب للماكرين المستعزِّين بمكرهم"[1].

فهذا يطمئن النفوس أنَّ مكر الله أشد من مكر الكفار، وهو ردُّ مكرهم، قال - تعالى -: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا [الرعد: 42]، قال الطبري: "أيْ: فلله أسبابُ المكر جميعًا، وبيده، وإليه، لا يضرُّ مكرُ من مَكَر منهم أحدًا إلا من أراد ضرَّه به، يقول: فلم يضرَّ الماكرون بمكرهم إلا من شاء الله أن يضرَّه ذلك، وإنما ضرُّوا به أنفسهم؛ لأنهم أسخطوا ربَّهم بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم، ونجَّى رسلَه"[2].

فالله يطمئن المؤمنين - أيضًا - بأنَّ الله يعلم ما يمكر به الكفار؛ ولهذا قال - تعالى -: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس: 21]، فالملائكة الحفَظة يكتبون ويسجلون ويدوِّنون مكرَهم، فمكرُهم لم يخفَ على الحفظة؛ فكيف يخفى على الله؟!

ولهذا قال قبل هذا المقطع من الآية: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس: 21]، قال سيد قطب: "فالله أقدَر على التدبير بإبطال ما يمكرون، ومكرُهم مكشوفٌ لديه ومعروف، والمكرُ المكشوف إبطالُه مضمون"[3]، فالله مكرُه سريعُ النفاذ، أما مكر الكفَّار، فهو متوقِّف على قدَر الله؛ لهذا جاءت هذه الآيات كالبلسم للمؤمنين؛ حتى تطمئن نفوسهم، وتسكن أرواحهم، ويعلموا أنه لن يصيبهم إلا ما كتب لهم، وأنَّ الله معهم وهو أقدَر على الكفار.

ومن المهم معرفته في هذه القضية أن تحذير الله المؤمنين من الماكرين ليس من التخويف؛ وإنما لأخذ الحيطة، وللعلم في المقابل بأنَّ مكرَهم محدودٌ ولن يبلغ مبلغه؛ لهذا يدرك المسلم المرحلة التي يحياها، بما أخبره الله - تعالى - عن أهل المكر ليأخذ بالأسباب.

ومع تحذير الله المؤمنين من مكر الكافرين، حذَّر - أيضًا - الكافرين بأنَّ ما يفعلونه سيعود عليهم، وأنَّ كيدهم مردودٌ عليهم، فرتَّب الله - سبحانه - للماكرين عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، قال - تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123]، فالمكر مردودٌ على أصحابه، قال الطبري: "وكما زينَّا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها - يعني أهل الشِّرك بالله والمعصية له - لِيَمْكُرُوا فِيهَا [الأنعام: 123] بغرورٍ من القول أو بباطلٍ من الفعل، بدينِ الله وأنبيائه: وَمَا يَمْكُرُونَ ؛ أيْ: ما يَحيق مكرُهم ذلك إلا بأنفسهم؛ لأنَّ الله - تعالى ذكره - من وراء عقوبتهم على صدِّهم عن سبيله: وَمَا يَشْعُرُونَ ، يقولُ: لا يدرون ما قد أعدَّ الله لهم من أليم عذابه، فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن"[4].

وقال - تعالى - : وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124]، قال الطبري: "يقول - تعالى ذكره -: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرَّم الله عليهم ليصدُّوا عن سبيل الله آيَةٌ يعني: حجَّة من الله على صحة ما جاءهم به محمَّد من عند الله وحقيقته، قالوا لنبي الله وأصحابِه: (لَنْ نُؤْمِنَ)، يقول: يقولون: لن نصدِّق بما دعانا إليه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الإيمان به، وبما جاء به من تحريم ما ذكر أنَّ الله حرَّمه علينا (حَتَّى نُؤْتَى)؛ يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثلَ الذي أعطى موسى من فَلْق البحر، وعيسى من إحياء الموتى، وإبراءِ الأكمه والأبرص، يقول - تعالى ذكره -: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124]؛ يعني بذلك - جل ثناؤه -: أنَّ آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسولٌ مرسَلٌ، وليس العادلون بربِّهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها، يقول - جل ثناؤه -: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهلٌ، فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليَّ أنتم؛ لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه، والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته، يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - معلِّمَه ما هو صانع بهؤلاء المتمرِّدين عليه: سَيُصِيبُ ، يا محمدُ، الذين اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره صَغَارٌ ؛ يعني: ذلَّة وهوان، وأما قوله: صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ ؛ فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله؛ كقول القائل: "سيأتيني رزقي عند الله"؛ بمعنى: من عند الله، يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله، وغيرُ جائز لمن قال: سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ أن يقول: "جئت عند عبد الله"؛ بمعنى: جئت من عند عبد الله؛ لأنَّ معنى: سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ سيصيبهم الذي عند الله من الذلِّ؛ بتكذيبهم رسولَه، فليس ذلك بنظيرِ: "جئت من عند عبد الله"، وقوله: وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ يقول: يصيب هؤلاء المكذبين بالله ورسوله، المستحلِّين ما حرَّم الله عليهم من الميتة، مع الصَّغار عذابٌ شديد؛ بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل، والزخرف من القول، غرورًا لأهل دين الله وطاعته"[5].

وقد بيَّن الله بأن المكر لا يحيقُ إلا بأهله، قال - تعالى -: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]، فهل هؤلاء أمِنوا مكر الله؟ لهذا قال - تعالى -: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45 - 47]، فمكر الله لهم في الدنيا يكون بإبطال ما يمكرون، وبردِّ المكر عليهم، وحلِّ العذاب عليهم، والنيل منهم، قال - تعالى -: ï´؟ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97 - 99]، وما مكر هؤلاء إلا بأنفسهم، كما قال - تعالى -: وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنعام: 123]، وقال أيضًا فيهم: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ[فاطر: 10]، فلهم عذاب شديد زيادةً على بوارِ وخراب مكرهم، وفي هذا تَيْئيسٌ لهم بأنه لن تقوم لهم قائمة، ولن تنجح لهم خطَّة في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب شديد، قال - تعالى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ:31 - 33]، فهؤلاء استمرُّوا بمكرهم في الناس ليلاً ونهارًا لجعلهم كفارًا، ويلبِسُون على الناس دينَهم

وحتى لا أطيل كثيرًا؛ أختم بهذه الكلمات، يقول الله - تعالى -: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 49 - 53]، وفي هذه الآيات كغيرها من الآيات التي تتحدث عن الاتِّعاظ بالسابقين، وأخذِ العبرة من أخبارهم - في هذه الآيات توجيهٌ للطَّرفين على السواء: فللمؤمنين؛ ليقولَ لهم: بأنَّ هذا الطريق معروف المسالك، وأنَّ الذين قبلكم مرُّوا بهذه الأحوال، وأنَّ الماكرين سيدمَّرون كالماكرين السابقين، وفي هذا تسلية لهم، وللكفار من ناحية أخرى؛ ليقولَ لهم: لقد كان مَن قبلكم يمكر ويخطط، ولكن هيهات من قدرة الله ومن عظمة الله أن ينجح لكم مخطَّط، فالعاقبة للمؤمنين، والجزاء من جنس العمل، فالعاقبة هي نصر المؤمنين ونجاحهم، وتدمير الكفار وفشل مخططاتهم؛ ولهذا قال - تعالى -: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 42-43]؛ لندرك تمامًا سُنن الله في خلقه وكونه، وأنَّه لن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنته تحويلاً: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ، وأنَّ الله ناصرٌ أولياءَه وأتباعَه.

والحمد لله ربِّ العالمين.

[1] الظلال، سيد قطب، ج 5، ص 2646.
[2] الطبري، جامع البيان، ج 16، ص 499.
[3] الظلال، سيد قطب، ج 3، ص 1773.
[4] الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، ج 12 ص 93.
[5] الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، ج 12، ص 98.