مشاهدة النسخة كاملة : من كلام الشيخ سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله



ابتهال
02-11-2014, 21:13
{ حرب مباشرة اليوم ضد الصحوة الإسلامية، فرق عسكرية تدرب للتدخل السريع، ودعاية متخصصة تشوهُ الحركة الإسلامية، وتلفق البهتان لتفسد سمعة الدعاة، وتُعَمِّي أخبار المؤمنين عن الأمة. حرب سافرة أظهرت كَوامِنَ الحقد الصليبي اليهودي. كانت الحروب الصليبية التي قادها ضدنا فرسان أوربا ورهبانُها ثلاثة قرون بالسيف والرمح وحرق الزروع هجوما خارجيا. كان الملوك علينا وجوها منا في الجملة، بل كان أفاضلُهم دعاة وحماة للحق، رحم الله ابن زنكي وصلاح الدين وابن تاشفين وأمثالهم من رجالنا. أما اليوم فسلطان الدولة عندنا أصبح في أيدي الأعداء. كانت ملوك قريش يتنازعونها إجحافا وتظالما فيما بيننا، لكن دعاة جهنم اليوم، من أتاتورك إلى ببراك، يسلمون السلطان لألد أعداء القرآن.}

ابتهال
02-11-2014, 21:24
صلاح الأرض بصلاح المستخلفين فيها وهم أمة الإسلام، وفساد الأرض وفتنتُها بالخلل الواقع فيهم. هذه الآيات الكريمة من آخر سورة الأنفال تضع أصبعنا على موطن الفساد، وهو انحلال الوَلاية في الله بيننا. قال الله تعالى: {نَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍحَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(سورة الأنفال، 75-72).

هذه الآيات جامعةٌ لشروط الوَلاية بين المؤمنين المجاهدين. وَلاَيةٌ أخص وأوثق من مجرد الحب في الله بين كل مؤمن ومؤمن. أخص من الوَلاية العامة التي في قوله تعالى : {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} (سورة التوبة،71).

1. الآيات تذكر أصناف المؤمنين من مهاجرين وأنصار مجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ثم أصناف المسلمين ممن آمن ولم يهاجر ولم يجاهد، وهؤلاء هم الأعراب في مصطلح القرآن.

2. تذكر أنَّ الوَلاية الجهادية التي توجِب التناصر بالأموال والأنفس، وتخصص من بين المجتمع الإسلامي العامِّ فئة المهاجرين والأنصار، وتجعلهم نواة المجتمع الإسلامي ومركزَهُ. بصلاح الوَلاية فيما بينهم تصلحُ الأرض وبفسادها تفسد.

ابتهال
12-11-2014, 18:30
الغلوُّ والتطرف

يفسر أهل اللغة الاقتحام بأنه "توسُّطُ شِدّةٍ مُخيفة" أي الدخول في معترَك ساخن. وما سؤالنا عن الذات الإسلامية وأمراضِها،ما اعتبارنا للتجربة الشيعية الثورية، إلاَّ لأن الإسلاميين في طريقهم إلى الحكم وبعد استيلائهم عليه يدخلون في "شدة مخيفة" لا يصمد فيها جسم مُنطوٍ على علل مُضنية، حاملٍ لجراثيمَ مُفنية.
من العِلل الغثائية الدائية الغُلُوُّ في الدين. حذّرَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إياكم والغُلُوَّ في الدين؟ فإنما هَلك من كان قبْلكم بالغلو في الدين". رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح.
والغلُوُّ عرَّفه الشيخ المحدث المُناوِيُّ رحمه الله أنه "التشديد في الدين ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء، والكشفُ عن عِلَلِها وغوامض مُتعَبّداتها".
وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحذر من الغلُوِّ أهْـلَ الكتاب الذين منعهم عن متابعة الحق اتباعهم للهوى و"التشديد ومجاوزة الحد" حيث قال سبحانه: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غيرَ الحق. ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضَلُّوا من قبلُ وأضلوا كثيرا وضلوا عن سَواء السبيل".[1]
التشديد وتجاوُز الحَدِّ ظاهِرَةٌ كانتْ حادة في صفوفِ الشباب الإسلامي، وهي آخذةٌ في الاعتدال بحمد الله كاشف البلاء. يُغالي البعضُ في تقييمها ويبالِغ، خاصَّة الأعداءُ الذين يروْن في كل ملْتَحٍ إرهابيا وفي كل متحجبةٍ رمزا للتطرف. وقلَّما يُعطي المُتحاملون على التائبين والتائبات والعابدين والعابدات حقّاً للسبب الباعِث عَلَى نفور الشباب من المجتمع وإنكارِهم لأوضاعه، ذلك الإنكارَ الذي يبلُغ أحيانا حدّ الهجْر والتكفير.
إذا كان الغُلُوُّ ظاهِرَةً مَرَضيَّةً في الشباب المنبعث بالإيمان، وكان هلَكَةً للمتعنِّتين في خصوصيات أنفسهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلك المتنطعون"، فإنَّ حُمَّى الغُلُوِّ ما هي إلا عَرَض من أعراض المرض المُزمِن الدفين، مرَض الانتقاض في عُرَا الدين، مرضِ الفساد في نظامه، ألا وهو الحكمُ بغير ما أنزل الله.
يُخبِر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بأصل العِلَلِ ومَبادِئها كما أخبر بالغثائية وحذر من داء الأمم فيقول: "هلاك أمتي على يدَيْ غِلْمةٍ من قريش" حديث صحيح رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كان استيلاءُ بني أُمية على الحكم، واغتصابُهم لسُدَّته، وتعاقُبُ غِلْمتهم وسفهائهم على مقام شريف تعاقب عليه زمانَ الرُّشد أبو بكر الصديقُ وعمر الفاروق وعثمانُ ذو النورين وعلي الإمامُ رضي الله عنهم، كارثةً على الإسلام رضَّت جسمَه وفتحت في جنبه جرحاً انسلت إليه جراثيم الأوبئة، منها الغلوُّ في الدين.
كان الإمامُ الحَسَنُ بن علي رضي الله عنهما يرَى أن طائفة من الخوارج مَا انفصلوا عن الجماعة وتشددوا في النكير على الحكام إلا غضبا للدين وَرفضا لجوْر الوُلاةِ من بني أمَيَّةَ. وكذلك حَكمَ على الظاهرة أهلُ المدينة والقراء الذين خرجوا على الحجاج صنيعةِ الغِلمة ورمزِ الجَوْر. وحكمُ الإمامِ الحسنِ ومَن رأى رأيَه من أهلِ الحَقِّ يُرجِعُ ظاهِرةَ التطرُّفِ إلى نِصابها النِّسْبِيِّ مِنْ كونها رفضاً لواقعٍ مكروه أغْضَب فِتيةً مومنين على مُنْكَرٍ لا يُحتمَل.
ظاهرةُ الغُلُوِّ في شباب الصحوة مُتَنَفَّسٌ قبلَ كل شيء لغَضَبٍ مَكْبوت. فتية استيقظوا لجرائم البغي فكرهوا البغاة، ولم يجدوا حولَهم إلا غُثاءً مِن الناس وهم المتشبعون بروحِ الجِهاد. انطلقوا في "غزوات" حُرَّة، معهم بضاعة مُجزاة من العلم، وحصيلة تقارب الصفرَ من الحكمة والتجربة، فشرَدوا في دروب التقلقل، وانكمشوا في جماعات منغلقة توالدت فيها أنواع "الاجتهادات" الشاذة، وتصرف فيها الأميرُ المُطاعُ وهو في مقتبل العمُر واغترار الزعامة. والزاد من معرفة الدين كما صنعه نظام التعليم الرسمي البئيس، وكما لفقته اطلاعات مَكتبية مشتتة، وكما فهمه عقل "طازج"،لم يتمرَّس بأهل الذكر ولم يسألهم ولم يثق بهم، ولا يراهم إلا خوَنَةً للدين.
بإزاء كل نظام جبريٍّ في بلاد المسلمين جهاز رسمي من الموظفين الدينيين. لا يُقبل في صف هذه الوظيفة "الجوقية" إلا ضعفاء الإرادة من أهل العلم، الخجولون من كل مواجهة، الساكتون عن الحق جُبنا أو تأوُّلاً، المستعدون لتحريق البَخورِ على أعتاب النظام الحاكم.
هؤلاءِ العلماءُ الضائعون السائرون في رِكابِ الهلَكة الطاغوتية أصبحوا في نظر الشباب المتشدد رموزاً للخيانة. وَهُمْ في الواقع، باستثناء ساقطي الهمة وهم قلة، ضحايا فتنة تسوق الأمة، شبابَها المتنطعَ وعلماءَها الخاملين، في "منطق الساحة".
هلَك المتنطعون لَمّا تَصدَّوْا لسيْلِ الفتنة، ليس معهم إلا إخلاصُهم للقضية الكبْرَى التي وجدوا فيها رَفْعاً لقيمتهم المهدورة.وفي أثناء المعركة التي يحسبونها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر التفتت إليهم العِلَّة الموروثة في الحُكم فحاربتهم، والتفّتْ عليهم العِلةُ الموروثة في النفوس، التي لم تهذبها تربية ولم يتعدها تعليم سليم ولم ترعها ربانية تتجاوز بهم آفاق الأشَر والبطر وأخواتهما، فدكتهم تحت كلكلها. هلكة في هلكة في هلكة.
قال الإمام النوويّ رحمه الله في شرح التنطع: "التقعر في الكلام بالتشدّق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشيِّ اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم".
يَتوبُ شاب نصفَ توبة، ويتعلم نصفَ تعليم، ويكتشف يوما أن له قدرة على الخطابة وتصفيف الكلام، فيستخفه البَطر وينتصبُ مفتيا وإماما مجتهدا يتخطى ما أصَّله علماء الأمة الراسخـون ليقعد بجانب مالك وأبي حنيفة والشافعي وعلى رأسه وهْم الرجولة والفحولة. ويحتقر كل رأي لا يوافق رأيه، ويُبَدِّعُ المسلمين، ويكفر المخالفين، ويشير إلى مواقع الجاهلية في كل ما يتحرك فيه الناس ويسكنون.
وقد يتبنى مذهبا منسوبا لإمام مجتهد، غالبا ما يكون مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يجول في أقواله جولة، فيخرج بالفتوى الجاهزة لكل شاذة وفاذّة من عالَمٍ مضى وانقضى إلى عالم يتأجج بمشاكل جديدة يغمض عينيه لكيلا يراها.لأنها لم يرد بها نص، فهي كُفر وبهتان وظلام جاهلي.حكما قاطعا بلا مقدمات ولا مرافعة.
لاَ يدور بخَلَدِ الشاب المتنطع المعجَب هو وسربُه بالفصاحة والكلام المنَمَّق ودقائق الإعراب -إن وُجد- أن أحكام الشريعة مراتبُ،وأن للشريعة مقاصدَ، وأن مصلحة العباد والاجتهاد في تحصيلها علَّةٌ تستهدي بالدليل، وأن الأدلة قد تتعارض فيلزَم الترجيح، وأن ما شادَه سلَفُنا الصالح من قواعدِ الأصول سنَدٌ لا غنى لنا عنه.
إننا إذ نقسو على الشباب الإسلامي الضائع في متاهات العزلة والانفراد الشاذ نعطي للعامل النفسي الفكري الذاتي فينا حقه من المسؤولية عن خفة وزن الحركة الإسلامية الهامشية.نفعل ذلك لنشخص المرض تشخيصا صحيحا حتى يتأتى العلاج.
يريد الإسلاميون اقتحام عقبة الحكم، وهم اليومَ المرشَّحون الوحيدون لإنقاذ الأمة باعتراف الخصم والعدو. فإن خفيَت عنا هشاشة في تكوين أحد أجنحتنا فإن دخولنا في "الشدة المخيفة" يكون تعرضا لتهشمنا جميعا.
فنريد من شباب الصحوة أن يلتمس البُرءَ لنفسه قبل كلِّ كلام. من كانت وِجهتُه وموضوعُ عنايته ومراقبته أفعالَ الناس وأخطاءَ المجتمع وهو عن ذات خطيئته وموبقات أخطائه غائب، كيف يُصلح؟ من كانت الغفلة عن الله عز وجل ساكنة قلبَه وإن كثرت صلاته وصيامه ونفله كيف يُذَكِّرُ الناس بالله ويزعم أنه داعٍ إليه؟
من كان تحت جِلْبابه الأبيَض الجديد وعمامته الناصعة إيمانٌ خَلَقٌ وَفِكرٌ رَثٌّ وتصوُّر وَرائيٌّ للدين، كيف يكون للأمة منقذا؟ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. نسأله التوفيق، لا حول ولا قوة إلا به.




[1] سورة المائدة، الآية 77.

http://www.yassine.net/ar/document/147.shtml

ابتهال
12-11-2014, 18:40
"باب من ترك قتال الخوارج للتألف"

العنوان الكامل للباب السابع من كتاب "استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم" من صحيح الإمام البخاري رحمه الله هو كما يلي: "باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه".فقه العنوان أن الإمام يقدم في اعتباره هدف تألّف الناس على الإسلام واستمالتهم إليه على عقوبة المخالفين. ولو كان المخالفون معاندين للدين يستحقون القتال.
وجاء رحمه الله بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن ذي الخُوَيْصِرَة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فقال له: اعدِل يا رسول الله! فقال له: ويلكَ! ومن يعدلُ إذا لمْ أعدِل! قال عمر بن الخطاب: دعني أضربْ عُنُقهّ! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند الإمام مسلم حديث مثله عن جابر أن عمر قال: "دعني يا رسول الله فأقتلَ هذا المنافق! فقال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي!"
الحديثان واضحان في أن الإمام يحافظ على سمعة الإسلام، ويكره مقالة الناس عنه، ويترك العقوبة للتألف ولئلا ينفِرَ الناس عنه.
في سياق الحديث عن تطبيق الشريعة وعن إرادة الإسلاميين المرشحين للحكم، الزاحفين إليه، نجد هذا الحديث وأمثاله من سنة خير البرِيّة صلى الله عليه وسلم، فنقف عنده بإجلال لنقِيَ أنفسنا والمسلمين والناس العطبَ. ولنتعلم عن أي شريعة نتحدث: أعن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم الرحيمة البانية، شريعة الدعوة إلى الله، أم عن شريعة الزجر والوزع والوعيد قبل أي كلام؟
يقول "الناس" إن الشريعة قديمة لا تستجيب لحاجيات العصر. وهي لِقِدَمها قاسيةٌ قسوة تلك العصور البدوية الصحراوية التي نشأت فيها. فهل تُرانا ننكمش أمام هذا "الرأي العام" الذي يصنعه أعداء الإسلام فننكرَ أن الشريعة فيها شيء من الحدود والغلظة على المجرمين؟ كلا والله! فالحدود المنزلة دين من الدين واجبة التطبيق. لكن في تدرجها، وفي مكانها من الكل الشرعي. هي جزء من الشريعة لا كلُّها. هي سياج حامٍ للبستان، ليس السياجُ هو البستان.
الحدود الشرعية والعقوبات واقيات وزواجر تحفظ بناء الدين من الهدم، ومقاصدَه من سطو المعتدين. فمن جعل في حسابه الزواجر مرتكزا للبناء فقد جهلَ الدين. ومن حدث نفسه بتعطيل شيء منها جهلا وتأويلا فقد ضل.ومن جحد شيئا منها فقد كفر. ليكن هذا مقررا عندك سيدي!
بعد هذا فالشريعة الدعوة، الشريعة البناء، يسر وتبشير ورحمة وتقديم في الاعتبار للكلي على الجزئي ولمصلحة الإسلام وسعته على عقوبة الأفراد. إلا أن يكون في مخالفة الأفراد تهديد للحِمَى يَرجَحُ ضررُه على مصلحة التألّف.
في كتاب الله تعالى 6236 آية، منها ثلاثون تفصل الحدود والعقوبات. واتفق علماء الأمة على أن الحدود المقدَّرة في الشرع ستة، واختلفوا في أخرى.
اتفقوا على أن المرتد يُحد، والقاتل العامد، والشارب، والزاني،والقاذف، والسارق وقاطع الطريق.
فأما المرتد فردته تهدِّدُ ركنا أساسيا من مقاصد الشرع وهو حفظ الدين. والقاتل يهدد مقصد حفظ النفس، والشارب يهدد حفظ العقل، والزاني والقاذف يهددان حفظ النسل والعرض، والسارق وقاطع الطريق يهددان الأموال.
شرعت الحدود لدفع الضرر الآتي من أمهات الجرائم والخبائث. وأحاط الشرع بيِّنَةَ الزنى بشروط مشددة مَيْلاً لتبرئة المتهم. فإن لم يتوفر أربعة شهداء يصرحون بطل الحد. وإن نكص أحدهم أو بعضهم أقيم عليه حد القذف. فلا تجد في سجلات الإسلام على عهد عافيته إلا حالات نادرة جدا لحد الزنى يحكيها الأجداد للأحفاد.
تشدد الفقهاء المالكية في الحدود وعُرفوا بذلك. وجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة على أن السارق لا يُحد إذا سرق من مال قريب من آبائه أو أبنائه، أو سرق من غير حِرز، أو سرق من شريك،أو من بيت مال المسلمين إن كان له فيه حق،أو سرق أحد الزوجين من زوجه،أو سرق في وقت الغلاء والمجاعة.
كل هذه الاحتياطات تغليب لجانب دَرْء الحدود، وجانب العفو، وجانب الستر. وإن الله عز وجل أوصى أولياء القتيل بأن لا يسرفوا في القتل قصاصا في قوله تعالى: "ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يُسرف في القتل".[1] جعل له سلطة واختيارا أن يقتُل القاتل أو يأخذ منه الدية، ثم أوصاه أن لا يقتل وأن يعفُوَ، فالعفو أقربُ للتقوى.روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن حَبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "فلا يسرف في القتل" أنه قال: "بينة من الله أنزلها ليطلب وَلي المقتول القوَدَ أو العَقْلَ". القوَدُ الدية يدفعها الجاني، والعقل الدية تدفعها العاقلة، وهي قَرابة الجاني وعشيرته.
جعل الله عز وجل بشِرْعته السمحة أسوارا بين الناس وبين العقوبة. سور وازع القرآن في قلب العبد، وسور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسور ستر المسلمين بعضهم بعضا، وسور دَرء الحدود بالشبُهات، وسور الشفاعة في الحدود قبل وصول الخبر للقاضي، وسور العفو، وسور ستر الإمام على الجناة، وسور وصية الله تعالى بأن لا يُسْرَفَ في القتل.وفي الآخرة يناجي الحق سبحانه بعض عبيده بما جنوا ثم يسترها ويغفر. وهو الغفور الرحيم.
في البخاري: باب إذا أقر بالحد ولم يبين، هل للإمام أن يستر عليه؟ أورد فيه أن رجلا اعترف للنبي صلى الله عليه وسلم بحد وجب عليه، فحضر الصلاة. فلما صلى الناس قال الرجل: يا رسول الله! إني أصبت حدا فأقم فيَّ كتاب الله! قال صلى الله عليه وسلم: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك!"
اعترف ماعز بالزنى فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلـم يُعرض عنه ويقول: لعلك لمست! لعلك غمزت! لعلك نظرت! كل ذلك ليلقنه العذر. وقال صلى الله عليه وسلم لرجل يُدْعَى هَزّالاً بلّغ عن ماعز: يا هزال! لو سترته بردائك كان خيرا لك!
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة". رواه مسلم عن أبي هريرة. وحديث: "ادْرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله. فإن الإمام أنْ يخطئ في العفـو خير من أن يخطئ في العقوبة". رواه الترمذي عن عائشة مرفوعا، وهو موقوفا على عمر بن الخطاب أصح.وهو حديث لقِيَ قَبول الأمة،فالحدود تُتَجَنَّبُ ما أمكن تغليبا للبراءة على التجريم.
والتعافِي في الجنايات مطلوب. قال رسول الله صلى الله علي وسلم: "تعافَوْا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب". رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو.
وبلغ من كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للأخذ بالعقوبة أن سعد بن عُبادة سأله قائلا: أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلا: أَأُمْهِلُـهُ حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم! أخرجـه مسلم ومالك في الموطإ عن أبي هريرة رضي الله عنه.وزاد مسلم وأبو داود: قال سعد (وقد سمع نهي النبي عن قتله): بلى والذي أكرمك بالحق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم! وعند البخاري أنه قال: "أتعجَبون من غيْرة سعد! لأنَا أغيَرُ منه، واللهُ أغيرُ مني". ومع غيرته صلى الله عليه وسلم الشديدة على محارم الله، أثبت الشرط الشرعي، أربعـة شهداء، لكيلا تجرف الغضبيَّة الرحمةَ والرفقَ بالخلق.
وبعد، فإن في تطبيق الحدود مصلحةً للأمة لِما تدفع عنها من أخطارٍ تهجم على الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وفيها مصلحة للمحدود لِما تطهره من رجس عمله، ولِما تجنبه بعذاب وقسوة عابرين عذاب الآخرة. ذلك كما يفعل الطبيب بالمبتلى. قال الإمام الشاطبي رحمه الله في "الموافقات": "وكون هذا الجزء (من العقوبة) مؤلما وشاقا مُضاهٍ لكون قطع اليد المتآكلة وشرب الدواء البشيع مؤلما وشاقا. فكما لا يُقال للطبيب إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال فكذلك هنا، فإن الشارع هو الطبيب الأعظم".
عند شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله فقه غاية في الرفق والحكمة فيما يتعلق بالحدود،أوْرده في أول الجزء الثالث من كتاب "إعلام الموقعين".ذكر أن إنكار المنكَر له شروط أهمها أن المنكَر لا يُزال إن خيف وقوعُ أعظَمَ منه. ولا شك أن ما فعله ويفعله في زماننا بعض الحكام من الإسراف في القتل والبتر، يطبق ذلك على من لا سندَ له في عالم المحسوبيات والوسائط، مُنكر نكير.
وذكر رحمه الله الأدلة على أن الحدود لا تطبق في الغزو، واستشهد بإسقاط عمر ابن الخطاب حد السرقة عام الرَّمادة. وذكر كيف غرّم عمر رجلا جاءه بغلمان سرقوا لأنه يستعملهم ويجيعهم. أقام عليه العقوبة لا على الغلمان.
وتحت عنوان "التائب يسقط عنه الحد" جاء ابن القيم رحمه الله بقصة رواها الإمام النَّسائي رحمه الله عن امرأة عدا عليها رجل فزنى بها، فاستغاثت فأغاثها رجل. ثم مر جماعة فقبضوا على المُغيث. فاتهمته المرأة عند رسول لله صلى الله عليه وسلم. فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحده قام الجاني الحقيقي فاعترف.فعفا عنه صلى الله عليه وسلم.فقال عمر: ارجمه! فقال صلى الله عليه وسلم: إنه قد تاب!. هكذا الرأفة بمن تاب وبمن صلى مع الجماعة فغفر الله له.
قال ابن القيم معلقا على هذه القصة: "وأما سقوط الحد عن المعترف، فإذا لم يتسع له نطاق أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء. ولكن اتسع له نطاق الرؤوف الرحيم (...). ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشيةً من الله وحده وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها. فقاوَمَ هذا الدواءُ ذلك الداء. وكانت القوة صالحة فزال المرض. وعاد القلب إلى حال الصحة. فقيل: لا حاجة لنا بحدك!"
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.





http://www.yassine.net/ar/document/170.shtml
[1] سورة الإسراء، الآية 33.