مشاهدة النسخة كاملة : الهجرة والنصرة



ابتهال
02-11-2014, 22:13
الهجرة والنصرة

للشيخ سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى

كانت الهجرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نُقلَةً من مكة أو من منـزل القبيلة إلى دار الهجرة. نُقْلَةٌ من مكان لمكان تترجم عمليا تحول الوَلاَية من العشيرة والقبيلة والأرض والمألوف إلى الله ورسوله والمؤمنين والمستضعفين، وهم المستضعفون على الدين المظلومون. كانت المدينة مجْمَعَ حِزْبِ الله، فكل من هاجر وسكن المدينة فإنما هو مؤمن جاء إلى رباط جند الله، وتجند، ورابط، وجعل نفسه رهن إشارة الله ورسوله والمؤمنين في كل لحظة. رباط مستمر، وجهاد متواصل. وقد قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه بضعا وعشرين غزوة، وبلغ مجموع غزوات المسلمين وسراياهم على عهده المبارك ما بين خمسين أو ستين حسب الروايات. وبلغ بعض أصحاب السير بها المائة. نعلم كيف كان التآخي بين المهاجرين والأنصار، اثنين اثنين، وجماعة مع جماعة، تآسيا بالمال والنفس. وتآسيا كليا بين أفراد أمة مقاتلة مُعَرَّضة للعدوان في كل لحظة، متيقظة، مستعدة، متحركة، طيلة العشر سنوات من حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وَلايةُ الانتساب، والصداقة،ووحدة العقيدة، والنُّصرة، تحققت جهادا فاعلا مؤثرا في حياة كل مؤمن تجند بالهجرة أو النصرة، وفي حياة الأمة ومصيرها.

كان التشديد في أمر المسلمين بالهجرة وتحبيبها إليهم كلمةَ الجهاد تقال وصية نبويَّةً، وتتلى قرآنا مُنـزلا. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} (سورة النساء،97). قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله:{فإنَّ من كان مقيما بمكة على إيمانه لم يكن ذلك معتدا له به ولا مُثاباً عليه حتَّى يُهَاجِرَ}. وقال في وجوب نصرة المستضعفين على من هاجر ونصر استثناء من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}، قال مستثنيا: {إلا أن يكونوا أُسَراءَ مستضعفين فإن الوَلاية معهم قائمة، والنُّصرةَ لهم واجبةٌ بالبدن، بألاّ يبقى مِنّا عَيْنٌ تَطرِفُ حتى نَخْرُجَ إلى استنقاذهم إن كان عددُنا يحتمل ذلك، أو نبذلَ جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحدٍ درهمٌ كذلك. قاله مالك وجميع العلماء. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانَهم في أسر العدوِّ، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعُدَّة والعَدَد، والقوة والجَلَد !}1.

1 أحكام القرآن ج2 ص 876.
إذن فللهجرة والنُّصرة معنى جهادي، إذ بهما تتجسد الوَلاية في الله جُنداً مُرابطا سريعا إلى نصرة الله والمستضعفين.

هل انقطعت الهجرة؟

سؤال وضعه علماء الأمة بعد العهد النبوي. قال أبو داود رحمه الله:{باب في الهجرة هل انقطعت؟}. وروي عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة. ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمسُ من مغربها}. والحديث عند الدارمي رحمه الله أيضا في {باب الهجرة لا تنقطع}. وأخرج الشيخان وأصحاب السنن رحمهم الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنْفِرْتُم فانفروا}. وأخرج الشيخان وأبو داود رحمهم الله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده. والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه}.

من كل هذه الأحاديث يتلَخَّص أن:

1. الهجرة كانت تعبئة لجند الله ضرورية في معقلٍ حصين، منه انطلقوا لدفع العدوان، ونشر رسالة الإسلام.

2. الهجرة بالانتقال من مكان إلى دار الهجرة انقطعت بفتح مكة، لأن مصدر العدوان الجاهلي يومئذ كان مكة.

3. الهجرة باعتبارها انحيازاً إلى الله ورسوله، وباعتبارها وَلاية للمسلمين 60
وكَفّاً عما نهى الله عنه ماضية كالتوبة لا تنقطع إلى يوم القيامة.

4. وكذلك النُّصرة باعتبارها أداءً لما تفرضه الوَلاية الجهادية لا تنقطع إلى يوم القيامة.

فإذا حوَّلْنا نظرنا من ذلك العهد إلى هذا الزمان رجعنا بفائدةِ أنَّ الهجرة والنصرة انتقال المسلم الخامل من أعرابيته إلى الاهتمامِ بمصير الأمة، وحمل همها، والانضمام إلى جند الله بعد قطع حبال الجاهلية، وعصبياتها، ووَلاءاتها.

ونقول كلمة عن الأعراب والأعرابية فإن هذا المفهوم القرآنيَّ مفتاح لفهم التركيبة الإسلامية للمجتمع. في وسط المجتمع حزب الله، جنده المقاتلون المعبأون أموالا وأنفسا، وأوقاتا وجهودا. وفي أطراف المجتمع المسلم مسلمون لَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم، أعرابٌ بالمصطلح القرآني تُفَصِّل سورة التوبة أصنافهم، ودرجاتِ إسلامهم. ولئن كانت الأعرابية في ذلك العهد تطابق وجود عرب يسكنون البادية، فالمعنى الذي جسدوه، والفئة الاجتماعية التي انتموا إليها، لا يزالان صالحين لتصنيف فئات مجتمعنا تحت دولة القرآن.

ويمكن اعتبار كل مسلم ليس له نصيب من معاني الهجرة والنصرة أعرابيا بالمعنى القرآني. قال القاضي ابن العربي رحمه الله: {فمن دخل في الهجرة أو ترسَّم بالنصرة فقد كمُل له شرف الصحبة. ومن بقي على رسمه الأول بقيَ عليه اسمه الأول، وهم الأعراب.
(...) إن كل مسلم كان عليه فرضا أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكونَ معه حتى تتضاعف النُّصرة، وتنفسح الدَّوْحَة، وتحتمي البيْضةَ.(...) وكان من سار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صار مؤَهَّلاً لحمل الشريعة وتبليغها، متشرفا بما تقلد من عُهْدَتها. وكان من بقي في موضعه خائبا من هذا الحظ، منحطا عن هذه المرتبة}1.

المهاجر إذن والأنصاري هو من جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حياته، أو جاء لجماعة المسلمين المجاهدة، فتعلَّم دينه، وتجند حتى أصبح مؤَهَّلا لحمل الرسالة وتبليغها، وتقلَّدَ عُهْدتها. ومن تخلف عن الجهاد فهو من أطراف المسلمين، محمولٌ، قاعدٌ، عالَةٌ. ولِمَنْ بقي على أعرابيته أحكامٌ تناسب مرتبته، ذكر منها ابن العربي عدم استحقاقه شيئا من الفيء، وعدم صحة إمامته بالحاضر، وإسقاط شهادته على الحاضر. وكأني بفقهائنا إذ ينسُبُون للحاضر على البادي مرتبة وشرفاً لمجرد سَكَنِ هذا في البادية وذاك في المدينة أُنْسُوا أن حاضرة الهجرة لم تكن فقط حاضرة علم كما هو شأن الحواضر في تاريخنا، بل كانت دار جهاد فوق كل شيء.

أولُو الأرحام

قرأنا في سورة الأنفال قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ}. جاء هذا الحكم بعد تفصيل الوَلاية الجهاديةِ الواصلةِ بين المهاجرين والأنصار. وجاءت بصيغة التفضيل.

1 أحكام القرآن ج2 ص 989

ونقلنا عن البخاري رحمه الله أن في هذه الآية نَسْخاً للتَّوارُثِ الأول خارج روابط النسب الحِسي. فالأولوية هنا في هذا الباب وحدَه. ويُطْرَحُ لنا هنا سؤال عما يفعله الإسلام بسائر الروابط الاجتماعية من روابط النسب، وقربة الصداقة، وجوار السَّكن، واتفاق اللغة، والانتماء للقطر والجهة. إلى آخر ما هنالك من تعلق الناس بعضهم ببعض تعلقا فطريا، أو إلْفاً اجتماعيا، أو ميلا مزاجيا، أو تناسبا فكريا، أو انسجاماَ طَبْعيا. روابطُ الأفراد والجماعات ما دون الوَلايَة الجهادية بين المؤمنين المجندين، ما دون وَلاَيَةِ النُّصرة بين كل المسلمين، وما دون واجب الخروج لحماية المستضعفين ماذا يفعل بها الإسلام؟ هل يُحاربها ويقطعها؟ هل يُهْمِلُهَا ويستغني عنها؟

كلا ! فالرحمة وهي سمة المؤمنين فيما بينهم {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} تمتد امتدادا من الأقرب فالأقرب، حتى تُغَطِّيَ كل الروابط البشرية، وتمتَصَّهَا إليها، وتستصلحها، لتنقذها من العصبيات الجماعية والأنانية الفردية، وتدخلها في دائرة الأخوة الإسلامية. ثم تمتد من خلف وجه الشدة العابس على الكفار لِيَلْمَحَ فيها كلُّ مستضعَف في الأرض، وكل تائق للرحمة، وكل متأفِّف متألم من جهامة الجاهلية وعنفها وقحطها العاطفيِّ، ملامحَ الإنسانية الرحيمة بالخلق.

نقرأ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحث الأكيد والوعيد الشديد في شؤون برِ الوالدين. ونقرأ واجب إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين. ونقرأ واجب الوفاء لحق الجار والصديق. كل ذلك يسعى الإسلام ليستخدمه في إطار الوَلاية لله ولرسوله وللمؤمنين. فإذا تعارض الوَلاءُ لله ورسوله والمؤمنين مع الوَلاءات القبلية، والأنانية، والقطرية، والوطنية، وما هنالك، فيُطْرَحُ كل ذلك ويقاتَل ويُستأصَل.

في السيرة النبوية أمثلة ناصعة للعلاج النبوي في استصلاح وشائج القرابة والنسب والقبيلة. بل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعراب الأمة يتجندون للإسلام مع المحافظة على وحدتهم القبلية كما هو معلوم في استعراض الجيش أمام أبي سفيان غداة فتح مكة. وفي حياة الصحابة أمثلة لقتال المؤمنِ أهْلَهُ وعشيرتَه وأقْرَبَ الناس إليه إذا تعارض الولاءان. كما فيها أمثلة هي القاعدة للحفاظ على صداقات الجاهلية، ونسَبِ الدم، وعهْدِ المودة السابِق. وهذا كثير جدا. وخُلاصة القول إنَّ حدود الولاء لا تمر كالصارم البتار تقطع الصلاتِ البشرية كما يقطعها الانتماء الثوريُّ للطبقة. بل ينفتح الإسلام رحمة واعدةً بمستقبل الأخوة.