مشاهدة النسخة كاملة : فتح مكة.. جاء الحق وزهق الباطل



أشرف
05-10-2006, 14:16
فتح مكة.. جاء الحق وزهق الباطل


اللواء/ محمد جمال الدين محفوظ

في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وقعت غزوة فتح مكة، وهي غزوة تتميز بطابع خاص في سجل التاريخ العسكري الإسلامي، فهي مثال كامل لأرقى مراتب الفكر العسكري والسياسي معًا، وأنبل الطرق للتوفيق بين الغاية والوسيلة، وظهرت فيها سماحة الإسلام بأجلى معانيها، واكتملت فيها أركان "النظرية الإسلامية في إدارة الصراعات".

لقد كانت النتيجة المباشرة لفتح مكة انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية:

1- فقريش، الخصم الرئيسي، أقبلت على الإسلام بعد أن ظلت عشرين عامًا تصد عن سبيل الله بكل أساليب الضغط والإيذاء والقتال.

2- والقبائل العربية التي كانت تخشى بطش قريش أقبلت على النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- تقدم الطاعة بين يديه وتعلن الإسلام.

3- والمستضعفون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، عادوا إلى بلادهم تحت أعلام الإسلام والسلام.

4- وأتم الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أول يوم لفتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين عامًا، وما حاربته قريش أشد الحرب فيه، أتم تحطيم الأصنام، والقضاء على الوثنية في البيت الحرام.

5- وتحقق للدولة الإسلامية الناشئة ركن الأمن والاستقرار؛ لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية جمعاء.

وقد حفلت هذه الغزوة الكبرى بدروس نافعة في إدارة الصراعات ينبغي أن تتدبرها أمتنا العربية والإسلامية وهي تواجه من التحديات أخطر ما يمكن أن تواجهه أمة.

الدرس الأول:

على المسلمين أن يمتلكوا المبادأة

إن المبادأة أو المبادرة تعني باختصار "حرية العمل"، والذي يملك المبادأة يحرم خصمه من حرية العمل، ويجعل أعماله محصورة في نطاق "رد الفعل"، وإحراز المبادأة من أهم عوالم النجاح والنصر في السياسة والحرب على حد سواء يقول الجنرال (أندريه بوفر): "يعتبر الحصول على حرية العمل الدليل الساطع على النجاح، والصراع من أجل حرية العمل هو في الواقع روح الإستراتيجية (أندريه بوفر: مدخل إلى الإستراتيجية).

ولقد نقضت قريش العهد الذي أقرت بنوده في الحديبية في السنة السادسة من الهجرة وذلك عمل ينطوي – ولا شك – على "نوايا عدوانية" تتجاوز إطار عملية ثأر محدودة بين بني بكر حلفاء قريش وبني خزاعة حلفاء المسلمين، ولا بد أن يفطن القارئ المحنك إلى ما في ذلك من خطر على الإسلام والمسلمين، فلا يقف مكتوف الأيدي أمام نوايا العدوان الذي تأمل به قريش تحقيق هدفها الإستراتيجي الكبير وهو القضاء على الدين الجديد بالهجوم على قاعدته بالمدينة.

من أجل ذلك قرر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ بزمام المبادرة فيسير إلى قريش في عقر دارها، قال ابن إسحاق: "فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانت في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب، حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وكان ذلك مما هاج فتح مكة"، وأخبر عمرو بن سالم الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- بما حدث فقال صلى الله عليه وسلم .. "نصرت يا عمرو بن سالم.. وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه".

الدرس الثاني:

تحقيق المفاجأة وخداع العدو

إن المفهوم العلمي للمفاجأة أو المباغتة هو "إحداث موقف لا يكون العدو مستعدًا له". وهناك مستويان للمفاجأة، فهي تكون "مفاجأة تكتيكية" إذا وقعت في نطاق محدود أو محلي وتم فيها إخفاء قوة الهجوم ومكانه ووقته واتجاهه عن المدافعين، فإذا تمكن المهاجم من إخفاء "نية الهجوم" نفسه تصبح المفاجأة "مفاجأة إستراتيجية"، وهذا المستوى من المفاجأة ليس أمراً يسيراً خاصة في العصر الحاضر الذي تقدمت فيه وسائل الحصول على المعلومات والتجسس تقدماً مذهلاً، لذلك فهو يتطلب تخطيطاً غاية في المهارة والحذق والسرية والخداع وليس من شك في أن تحقيق المفاجأة له آثاره النفسية التي تفعل فعلها في نفوس وعقول من يتعرضون لها وفي كفاءتهم وإرادتهم القتالية بالتالي.

وأهم هذه الآثار أن العدو "يفقد" مزية المبادأة وحرية العمل، فتنحصر أعماله وحركاته في نطاق رد الفعل في مواجهة الطرف الآخر الذي يحاربه من (موقع قوة) بتملكه للمبادأة وحرية العمل.

وقد اتخذ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة من تدابير التخطيط والتنفيذ ما يمكن معه أن نقول: إنه أحرز "المفاجأة الإستراتيجية" على أعدائه، وقد كان من آثار ذلك زعزعة إرادة قريش في المقاومة والقتال.

- فقد حرص عليه الصلاة والسلام على كتمان قراره بالخروج لفتح مكة حتى عن أقرب المقربين إليه، فلم يُبح به لأبي بكر أقرب أصحابه إلى نفسه، ولا لعائشة بنت أبي بكر أحب نسائه إليه وبقيت "نواياه" سرًا مكتومًا حتى تمت جميع الاستعدادات للحركة.

- وحرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الحيلولة دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش، فبعث العيون والأرصاد والمفارز (الدوريات) داخل المدينة وخارجها لهذا الغرض، كما بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فأدركا المرأة التي كانت تحمل الرسالة التي أراد حاطب بن أبي بلتعة إرسالها إلى قريش تحمل خبر خروج المسلمين، وأخذاها منها.

- وبقي النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يقظاً كل اليقظة حتى وصل ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة تدابير المسلمين حتى لقد تعذر عليها معرفة هوية الجيش الكبير الذي عسكر على أربعة فراسخ من مكة، فقد أوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام بالخروج في اتجاه النيران حتى يعرفوا مصدرها وأهداف أصحابها ونواياهم، فلما اقتربوا من موضع عسكر المسلمين قال أبو سفيان لصاحبه بديل: "ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا "فرد عليه بديل: "هذه والله خزاعة حمشتها الحرب". لكن أبا سفيان لم يقتنع بهذا الجواب فقال: "خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها".

وقد استخدم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أسلوب الخداع لإخفاء النوايا الحقيقية لحركته، وذلك بإرسال سرية أبي قتادة الأنصاري إلى "بطن إضم" وهي تبعد حوالي ستين كيلومترًا عن المدينة، وقد قال كعب بن مالك يصف عناية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإجراء العمليات الخداعية: "ولم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا وارى بغيرها " رواه البخاري، ولا غرابة في ذلك فهو عليه الصلاة والسلام القائل "الحرب خدعة" (رواه مسلم) .

الدرس الثالث:

عزل العدو دوليًّا

ومن أهم وسائل إدارة الصراعات أن نفرض العزلة الدولية على عدونا حتى يتلفت حوله فلا يجد حليفًا أو نصيرًا، وهذا هو الوضع الذي فرضه المسلمون على قريش فقد جردها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من الحلفاء والمناصرين نتيجة للسياسة الحكيمة التي اتبعها بعد الهجرة، والتي قامت على عقد الاتفاقيات والمعاهدات مع مختلف القبائل العربية لكفالة حرية الدعوة وحسن الجوار والمعاملة، فكانت النتيجة المباشرة لتلك المعاهدات حرمان قريش من قوى كان يمكنها أن تتحالف معها أو تشد أزرها.

أضف إلى ذلك أن انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش، ينطوي على "تحييد" للقسم الآخر الذي بقي على الشرك، وخاصة بالنسبة للمعتدلين الذين يرون أنه لا جدوى من القتال، ويعتبرون الحرب كارثة تحيق بهم.

الدرس الرابع:

تجريد العدو من إرادة القتال

إن الحرب في حقيقتها "صراع بين إرادتين": إرادتنا وإرادة عدونا، والطرف الذي يفقد الإرادة القتالية سوف يكون هو الخاسر المهزوم.

ولقد كان من الأمور البارزة في غزوة فتح مكة حرص الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- على تجريد قريش من إرادة المقاومة والقتال بعدة وسائل:

(1) غزو قلب وعقل ونفس زعيم قريش:

ومن الأساليب التي اتخذها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لذلك إقناع أبي سفيان عن طريق "إظهار القوة وتجسيدها" بأنه لا جدوى من المقاومة وقتال المسلمين، فقد أوصى عليه الصلاة والسلام عمه العباس حين جاء بأبي سفيان إلى معسكر المسلمين خارج مكة باحتجازه في مدخل الجبل إلى مكة حتى يمر به جيش المسلمين فيحدث قومه عما رآه عن بينة ويقين، فيقضي على أي أمل لديهم في المقاومة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها، " قال العباس : فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي ، حيث أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أحبسه، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هذه فأقول سليم فيقول: مالي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: مالي ولمزينة، حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها فإذا أخبرته بهم قال: مالي ولبني فلان، حتى مرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتيبته الخضراء (لكثرة الحديد ) وظهر فيها المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- لا يرى منهم إلا الحدق (العيون) من الحديد.

فقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول -صلى الله عليه وسلم- في المهاجرين والأنصار قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا، قلت يا أبا سفيان: إنها النبوة، قال : فنعم إذن؟ قلت: النجاء (السرعة) إلى قومك.

ومما يدل على حرص الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- على إيقاع أكبر قدر من التخويف والضغط النفسي على أبي سفيان اختياره لمضيق الوادي بالذات لوقوف أبي سفيان، فمرور الجيش في مضيق يختلف عن مروره في الأرض المكشوفة ، فالمضيق يجعل أبا سفيان يرى قوة الجيش بصورة مجسمة، أما الأرض المكشوفة فسوف ينتشر فيها الجيش ويتفرق فلا يقع التأثير المطلوب، وقد أسرع أبو سفيان إلى قومه فقال "يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به" وذلك أوضح دليل على تجريده من إرادة المقاومة والقتال.

(2) تجريد قريش نفسها من إرادة القتال :

وفضلاً عما يحدثه قول أبي سفيان لقومه السابق ذكره من دفع قريش إلى الاستسلام، فقد كان تنظيم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لجيش المسلمين على نحو يضعف الدافع لدى المشركين إلى القتال ويجعلهم يترددون في المقاومة، فقد كان الجيش لا يتألف من المهاجرين والأنصار فحسب بل من مسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة يومئذ: ألف رجل من بني سليمان، وألف رجل وثلاثة رجال من مزينة، وأربعمائة من بني جهينة؛ وأربعمائة من أسلم، وعدد من تميم وأسد وقيس وغيرها من القبائل العربية الأخرى.

هذا التنظيم أصاب المشركين بالتردد في الإقدام على القتال؛ لأن كل قبيلة لها في جيش المسلمين عدد كبير، بل إن كثيرًا من القبائل تعتبر نجاح هذا الجيش نجاحًا لها على الرغم من اختلاف العقيدتين، والأكثر من ذلك فإن انتصار هذا الجيش لا يعتبر فخرًا لقبيلة دون أخرى كما أن فشل أية قبيلة في التغلب عليه، لا يعتبر عارًا عليها؛ لأن هذا الجيش لم يكن لقبيلة دون أخرى بل لم يكن للعرب دون غيرهم بل كان للإسلام ولمعتنقي هذا الدين من العرب وغير العرب..

ثم جاءت الضربة النفسية القاضية على إرادة القتال حين أعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- "الأمان" لقريش مقابل الاستسلام، فقد نصح العباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بأن يلجأ إلى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش مكة صباح غد فيحيق به وبقومه العقاب، فقال العباس للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا (وكان أبو سفيان قد أسلم ليحقن دمه قبل لقائه بالرسول صلى الله عليه وسلم)، فقال عليه الصلاة والسلام "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، فكان ذلك من أقوى أسباب استسلام قريش، فإنه لما قال أبو سفيان لقومه "يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" قالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن" فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

الدرس الخامس:

الإسلام دين سلام ودين قوة

كان قرار الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن يتم فتح مكة بلا "قتال" فعهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

وكان عليه الصلاة والسلام حريصًا على ذلك كل الحرص وهو ما ينطق به أسلوبه في إدارة المعركة والسيطرة المحكمة على كل مرحلة من مراحلها، ولقد بلغ من حرصه -صلى الله عليه وسلم- على تجنب القتال أنه بلغه أن سعد بن عبادة الذي كان يقود رتلاً من الأرتال الأربعة التي يتألف منها جيش المسلمين قال: "اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة" فأخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس بن سعد حتى يحول دون اندفاع سعد لإثارة الحرب.

ومن هذا الحرص على حقن الدماء أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بالتخطيط والقرار بأن يكون الفتح بغير قتال؛ لأنه يكون بذلك "عملاً من جانب واحد" لا بد أن يقابله عمل من الجانب الآخر ينسجم معه ويحقق هدفه هو "عدم المقاومة"، أي أنه لابد من اتخاذ التدابير التي "تمنع" العدو من المقاومة والقتال، وهذا هو بالضبط ما فعله الرسول الكريم القائد- صلى الله عليه وسلم- بحرصه على المفاجأة والخداع وتجريد قريش من إرادة القتال على نحو ما قدمنا..

وهكذا كان جمعه عليه الصلاة والسلام بين الأمرين (تجنب القتال من جانبه ومنع قريش من المقاومة والقتال) آية من آيات حسن القيادة، وإدارة الصراع على أعلى مستوى، وتأكيدًا لمقاصد الإسلام النبيلة.

على أن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بهذه التدابير، بل أعد عدته للقتال" على أتم ما يكون الإعداد:

1- فقد حشد لفتح مكة عشرة آلاف مقاتل وهو أكبر حشد منذ بدأ الصراع.

2- ووضع خطته لدخول مكة بحيث يؤمن تطويقها من جهاتها الأربع:

- من الشمال: رتل الزبير بن العوام.

- من الجنوب: رتل خالد بن الوليد .

- من الغرب: رتل سعد بن أبي عبادة (قوات الأنصار)

– ومن الشمال الغربي من اتجاه جبل هند رتل أبي عبيدة بن الجراح (قوات الهاجرين)

3- وهذه الخطة المحكمة أدت إلى تحقيق هدفين في غاية الأهمية من وجهة نظر الفن الحربي:

4- ضمان القضاء على أية مقاومة في أية جهة من مكة "في الحال" نظرًا لوجود المسلمين في كل جهة من جهاتها.

5- تشتيت قوات قريش إذا قررت المقاومة إلى أقسام لمواجهة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد؛ مما يحرمها من تركيز قواتها وحشدها في جبهة واحدة ويجعلها ضعيفة في كل مكان.

الدرس السادس:

في الإسلام "لا ويل للمغلوب"

وإذا كان من شأن المنتصر أن يستبد ويملي شروطه بدافع الغيظ والتشفي والانتقام والغرور بالقوة، فإن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم – رغم ما فعلت قريش ضد الإسلام والمسلمين- لم يفعل شيئاً من ذلك، بل كان كل همه وكل قصده أن يؤلف قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام الذي هو دين السلام.

لقد استسلمت قريش التي يعرف عليه الصلاة والسلام فيها من تآمروا عليه ليقتلوه، ومن عذبوه وأصحابه من قبل، ومن قاتلوه في بدر وفي أحد، ومن حاصروه في الخندق، ومن ألّبوا عليه العرب جميعًا، ومن لو استطاعوا قتله وتمزيقه إربًا إربًا لما توانوا في ذلك لحظة.. لقد أصبحت قريش في قبضته عليه الصلاة والسلام وتحت قدميه، أمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعًا معلقة بين شفتيه، وفي سلطانه، هذه الألوف المدججة بالسلاح تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في لمح البصر.

لكن رسول الله -صلى الله عليه- وسلم ليس بالرجل ولا بالقائد الذي يعرف العداوة أو يريدها أن تقوم بين الناس، وليس هو بالجبار ولا بالمتكبر أو بالذي يرفع شعار "ويل للمغلوب" لقد مكنه الله من عدوه، فماذا فعل؟ لقد نهض عليه الصلاة والسلام والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فطاف بالبيت العتيق وطهّره من الأصنام والصور، ثم وقف على باب الكعبة وقريش تنتظر ماذا يصنع وقال "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟".. قالوا خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.. قال: "فإني أقول كما قال يوسف لإخوته، لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء".

وكانت أعظم الآثار الإستراتيجية لسماحة الإسلام التي تجلت بأجلى معانيها أن قريشًا لم تقبل على الإسلام فحسب، بل حملت رايات الجهاد في سبيل الله، وتحولت اتجاهاتها من أشد الناس عداوة للإسلام، إلى أحرص الناس على رفع راية الجهاد في سبيله وتلك صورة رفيعة انفرد بها الإسلام.

بل كان من عرب شبه الجزيرة قادة عسكريون أفذاذ قدّر لهم أن يكونوا من أعظم القادة العسكريين في التاريخ، ولقد أبدى المشير (مونتجمري)- وهو يسجل تاريخ الحروب- دهشته من تحول اتجاهات البلاد المفتوحة من العداء للإسلام إلى اعتناقه؛ بل والجهاد في سبيله فقال: "من العجيب أن القوة الرئيسية للجيوش الإسلامية في فتح أسبانيا (الأندلس) بين عامي 710-713 كانت مشكلة من الليبيين والتونسيين (فيكونت مونتجمري: الحرب عبر التاريخ جـ2 ص 188).

الدرس السابع:

السلام لا يعني الاسترخاء في الإعداد وبناء القوة

كان جيش الإسلام في غزوة فتح مكة عشرة آلاف مقاتل، ولكن بعد الفتح واستسلام العدو الرئيسي للإسلام (قريش) ارتفعت قوة الجيش حتى بلغت ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك عام 9 هـ، ومعنى ذلك أنها خلال عام واحد وصلت إلى ثلاثة أمثالها يوم الفتح.

هذه الحقيقة التاريخية تستحق أن نتدبرها ونستخلص الدرس منها، وهو درس ينطوي على المبادئ التالية:

1- إن إعداد القوة التي ترهب العدو واجب مستمر في السلم والحرب على حد سواء.

2- إن فترات الهدنة أو السلام لا تعني الاسترخاء في الإعداد وبناء القوة.

3- إن الإسلام دين سلام ورحمة، لكنه في الوقت نفسه – دين قوة، فهو دين عملي، يأخذ الحياة من واقعها، وينظر إلى الناس من خلال فطرتهم التي فطروا عليها، فقد راعى طبائع الخلائق، وميلها إلى المشاحنات فأمر أهله بإعداد القوة لا ليعتدوا بها على الآخرين بل ليدافعوا بها عن أنفسهم ويرغموا أعداءهم أن يلزموا حدودهم.

4- وأخيرًا، فإن السلام الذي يدعو إليه الإسلام هو:

السلام الذي تحميه القوة؛ لأن القوة هي أكبر ضمان لتحقيق ذلك السلام والمحافظة عليه.

خادمة الحبيب
12-10-2006, 14:15
موضوع رائع و ننتظر منك الأروع
بارك الله فيك أخي و جزاك الله كل خير