مشاهدة النسخة كاملة : كما تدين تدان



بن المعتز
08-10-2006, 09:01
شاهدته يخفي رأسه خلف جريدة، يبدو أنه التقطها من الشارع، فقد كانت متسخة كأن أرجل المارة كانت تدوسها.

اقتربت منه، وسلمت عليه فلم يرد السلام.

لعله مسكين، أو ذو عاهة.. أطرش، أو أخرس، أو أعمى، أو مقعد، أو مريض يحتاج إلى من يساعده.

كررت السلام عليه، فرفع الجريدة، وظهر وجهه. وقال:

- مالك ومالي؟ اتركني بحالي.

يا الله.. هاتان العبارتان كنت أسمعهما من رجل مبارك، أو < مبروك > كما كانوا يطلقون عليه في بلدتنا التي تغلب الطيبة على أهلها، فكانوا من ذوي النجدة والنخوة والكرم، يستضيفون الأغراب ويطعمون الجياع، ويكسون من يحتاج إلى كسوة صيفية أو شتوية..

كان والدي - رحمه الله تعالى - يصلي العشاء في المسجد القريب من منزلنا، فإذا رأى غريباً في المسجد، جاء به إلى المنزل، فأطعمه وسقاه، وسهر معه، ثم فرش له في غرفة المسافرين لينام، وإذا كان ذا حاجة، قضى له حاجته..

وكان أن ضافنا رجل فلاح جاء من قرية قريبة من بلدتنا، وعرف فيه والدي نبالة الأصل، والعبادة، والخلق القويم، فتوثقت الصلة بينهما، وصار يزورنا كلما جاء إلى بلدتنا، وهو يحمل شيئاً مما عنده، قفة عنب، أو بعض البطيخ، أو دجاجتين، أو سلة < قفورة > بيض.. ثم غاب، حتى ظننا أنه مات.

في صباح أحد الأيام، سمعنا من ينادي: يا باقي أنت الباقي.

قال لي أبي:

- اذهب إليه، وائت به ليفطر معنا.

خرجت إليه، وفوجئت بما شاهدت.. كان المنادي هو العم ويسي، ذلك الفلاح الطيب الذي حدثتكم عنه.

سلمت عليه، ففتح عينيه الحمراوين المجهدتين، وقال لي:

- اتركني بحالي يا ولدي.

فقلت له:

يا عم ويسي، أبي يدعوك إلى الفطور.

بعد لأي، استجاب العم ويسي لطلبي ورجائي، وسار معي إلى البيت، وهو ينادي:

يا باقي أنت الباقي.

في خلوة مع الوالد، فهم أبي منه مأساته..

كان < جعيص > من الذين جندهم المستعمر الفرنسي، وصار يأتمر بأمرهم، ويفعل كل ما يدخل السرور إلى نفوسهم بإذلال الناس، فكان يركب حصانه، في الدورية، ويذهب إلى القرى، فيبتز الفلاحين الفقراء، يأخذ ما يستطيع من دجاجهم، وخرافهم، ومن < مؤونتهم > من الحنطة، والسمنة، والزيت، وما إلى ذلك.. يستضعفهم، ويضربهم، ويهين رجالهم، ويحاول السطو على نسائهم...

وفي إحدى الليالي، جاء إلى قرية العم ويسي، ونزل مع رفيقيه في الدورية، ضيوفاً على بيت العم ويسي..

أسرع العم ويسي إلى إكرامهم، وانطلقت زوجته تهيء السفرة للضيوف، كعادة الفلاحين عندنا، ورآها < جعيص > فسال لعاب الخبيث عليها.

بعد العشاء، قال العم ويسي لعناصر الدورية:

- مقامكم كبير، وبيتنا صغير، ولكنه يتسع لألف صديق.

قال جعيص:

- فعلاً أنا تعبان، وأفضل النوم هنا، ولو فوق السطح.

فرش لهم العم ويسي ثلاث فرشات، وتركهم ليناموا، ولينام هو مع زوجته وأطفاله في الغرفة المجاورة.

بعد أن نام الجميع، تسلل جعيص من غرفته، وتمكن من اغتصاب الزوجة المسكينة التي كانت قد خرجت من غرفتها، لقضاء حاجتها..

عادت المسكينة إلى فرشتها، ممزقة الثياب، تئن أنيناً يقطع قلب أقسى الرجال.

نهض العم ويسي، وسألها عما بها، فخافت عليه من العسكر، وخافت من الفضيحة، فكتمت أنينها، وقالت له:

- شيء من المغص لا أكثر.. تصبح على خير.

في الصباح ذهب العم ويسي إلى ضيوفه، فلم يجدهم.. ركبوا أحصنتهم ورحلوا..عاد إلى أهله، فوجد زوجته في حالة سيئة جداً..

سألها، فتكتمت، وهي ملتفة بلحافها، وأطفالها ينظرون إليها مذعورين، فهي في حالة رثة، ترتجف، تصطك أسنانها، وعيناها جاحظتان جافتان، كانت تبكي بغير دموع، فقد نضبت دموعها من كثرة البكاء.

وبعد أن سكت عنها البكاء المصحوب باللطم على خديها، ونتف شعرها، وتمزيق ثيابها الممزقة، اعترفت لزوجها بما كان من أمر رئيس الدورية.

جن جنون العم ويسي، وأقسم أن يثأر لشرفه، ولو أدى الأمر إلى موته وموت العالم كله معه..

هجم على المخفر، فاستوقفه الحرس، وجاء جعيص، وصرخ به:

- ماذا تريد يا أحمق؟

- أريد روحك.

وشهر الخنجر الذي كان يخبئه بين ثيابه.

أمسك به العسكر، ووضعوه في السجن، وقدموه إلى المحاكمة، وحكموا عليه بالسجن خمس سنوات، لأنه تعدى على المخفر، وشهر خنجره في وجه رئيس المخفر.

كان العم ويسي يصرخ في السجن: يا باقي أنت الباقي. كان هذا كل ما يتفوه به في ليله ونهاره، في يقظته ومنامه، حتى ظنوا به الجنون.. وهو ما كان يسعى إليه.

وخرج العم ويسي من السجن، ليجد زوجته قد ماتت بعد تلك الحادثة بأيام، كمداً وقهراً، وقد أخفت < فضيحتها > عن أهلها وأهل زوجها، فقد زعمت لهم أنها تشاجرت مع زوجها، وأغلظت له القول، فضربها، ومزق ثيابها..

وفي المحكمة لم يذكر العم ويسي للحاكم السبب في الهجوم على المخفر.. كتم ذلك في نفسه، وأضمر قتل الجاني عندما يخرج من السجن..

وقال للوالد:

- سألت عن المجرم في كل مكان، فلم أعثر له على أثر.. فص ملح وذاب، ولكنه لن يفلت من عقابي.. سوف أمزق جسده، وأقطع ذكره وأضعه في فمه..

وتمضي الأيام، والناس يظنون العم ويسي ممسوساً، فيشفقون عليه، ويقدمون له الطعام، وهو يتنقل في البلدات التي فيها مخافر < للمليس > التابعين للفرنسيين.

ثم كان جلاء المستعمر عن البلاد، تاركاً عملاءه وراءه، ومنهم العريف جعيص.. هذا الذي أراه قد خبأ رأسه خلف الجريدة الوسخة، لقد عرفته.. فقد كانت الصحيفة المسائية المختصة بالفضائح والجرائم، قد نشرت صورته أكثر من مرة، ونشرت صور زوجته وبنتيه اللواتي كن يتعاطين الدعارة في منزلهن، وكان < جعيص > قد ترك أهله، وهرب، خوفاً من العم ويسي.

- أنت جعيص الذي يبحث عنه العم ويسي.

فقال مذعوراً، تكاد عيناه تخرجان من محجريهما:

- الله يسترك يا ابن أخي استر علي.. لقد عاقبني ربي، ففضحني في زوجتي وبنتي. وجعلني مشرداً خائفاً بعيداً عن بلدي وأهلي، فاستر عليّ، سترك الله.

قلت له:

- وهل سترت أنت على الرجل الذي أكرمك، حين اعتديت على امرأته، ووضعته في السجن، وقضيت على أسرة كاملة؟

فصاح جعيص:

- إذن اقتلوني وخلصوني مما أنا فيه.. أرجوك اقتلني.. أرجوك.. أرجوك..

وانخرط في العويل...


بقلم/د. عبد الله الطنطاوي