مشاهدة النسخة كاملة : بيعة النساء



hassan_1677
29-01-2005, 22:51
بيعة النساء


نروم التحليق بلا أجنحة، نبني على غير أساس، إن لم نُحْكِم مبادِئ إسلامنا. إن لم نتخَلَّ عن أوْضار جاهليتنا كيف نلبس ثوبَ الإسلام؟ إن لم نحافظ على إسلامنا أنْ تلوثهُ الملوثات كيف يصح لنا إيمان؟ إن لم نستكمل إيماننا ونجْمَعْه كيف نزعم لأنفسنا الطموح إلى مقامات الإحسان؟

يبدأ البناء، ويبدأ الترقي من عقد تعقده النساء ويعقده الرجال مع ربهم جل وعلا أن يتخلين وأن يَتخلّوا عما كان ويكون فيهما من أمور الجاهلية. يبدأ الترقي من توبة أمة لله كانت شاردة غافلة، ثم رجعت إلى ربها بتوبة صادقة. هو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذو الطَّوْل. لا إله إلا هو إليه المصير.

كثير من المسلمين والمسلمات يتصورون الدين مرتبة واحدة. كلنا مسلمون، كلنا مومنون، كلنا أولياء الله، ولمكان هذه الفجوة الغائرة في العلم بما هو الدين تقعد إحداهن عُمْرَها في إسلام أعرابيٍّ سطحي، أو إيمان ملَفَّق، لم تسمع خبراً عن الإسلام وأركانه، وعن الإيمان واستكماله، وعن مقامات القرب من الله رب المنة والعطاء وشروطه.

أطلبُ إلى المومنات الناظرات في هذا الكتاب أن يحفظن حديث جبريل الذي بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة مراتب الدين إسلاما، وإيمانا، فإحساناً. إنْ لاَ تفهم المومنات دينهن على أنه مدارج ومعارج للترقي في درجات الآخرة والقرب من الرب الرحيم سبحانه، بطل أمر الله تعالى لإمائه وعباده في قوله: "سابقوا" وقوله: "سارعوا"، ووصفه للآخرة أنها درجات يفضُل بعضها بعضا، وتُستحق بالعمل الصالح والنية الخالصة والإرادة السامية.

في مُفتتح فصل "استكمال الإيمان" نرسم مع الحديث النبوي مَرامِيَ الدين في التعامل الإيماني، ثم نبدأ من أسفل السلم خطوة خطوة إن شاء الله لتُرشد المومناتُ من ورد عليهن بعد أن يُرشِدن أنفسهن إلى قواعد البناء ومواضع الأقدام.

روى الترمذي حديثا صحيحا انفرد به عن معاذ بن أنس الجُهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل إيمانه".

الحديث يضع في المرتبة الأولى من الاعتبار الإخلاص. فهو يفسر الحديث العظيم الذي يعتبر من أسس الإسلام وقواعد الإيمان ودوافع الإحسان الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". رواه الشيخان وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

كان السلف الصالح رضي الله عنهم حريصين على تفهيم منهاج استكمال الإيمان. كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديٍّ بن عديٍّ: "إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا. فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها وإن أمُت فما أنا على صحبتكم بحريص". رواه البخاري في صحيحه.

كيف يحرص على البقاء في الدنيا مومن ومومنة بذلا الجهد في ذات الله فهما ينتظران لقاءه بحسن ظن أن يغفر ويرحم؟

هاجرت إليكن معشرَ المومنات تائبة، فأوّل ما تبدأنها به، بعد تقديمات لطيفة، الإخبار عن بيعة النساء. قال الله عز وجل: )يأيها النبيء إذا جاءك المومنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصينك في معروف فبايِعْهن واستغفر لهن الله. إن الله غفور رحيم(.(سورة الممتحنة، الآية: 12)

كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين من قريش ينص على أن من هاجر إلى المسلمين يُرد إلى مكة لا العكس. وهاجرت من مكة مومنات ذُكِر منهن أم هانئ بنت عقبة بن أبي مُعَيْط رأسِ الكفر. فنزلت الآيات من سورة الممتَحَنة تمنع المسلمين من رد المهاجرات إلى الكفار، وتأمر النبي صلى الله عليه وسلم والمومنين أن يمتحنوهن ليعلموا حقيقة إسلامهن، وليعلموا هل طرحن أفعال الجاهلية وتخلين عنها. وليجدد لهم الامتحان والبيعة عقدا مع الله ورسوله أن لا يرجعن على أعقابهن لإتيان شيء من المنكرات التي نشأن عليها.

في الآية ست مرات لا، لا، لا، لا، لا، لا. لا يشركن، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان، ولا يعصين رسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف يأمر به أو منكر ينهى عنه.

ستة تُروكٍ تَلُف أمر الجاهلية لترمي به القادمة من جاهلية أو غفلة ظِهْرِيّا. الشرك، والسرقة، والزنى، وقتل الأولاد. ما كانت نساء الجاهلية يشاركن في وأد البنات فالأمومة تمنع من ذلك، وإنما كان يفعله غلاظ القلوب من الرجال، وتصبر الأمهات ويسكتن ولا يقاتِلْنَ عن بناتهن، فعُد ذلك منهن جريمة جاهلية يستأنِفْن التبرّأَ منها عند هجرتهن.

أما البهتان الذي كانت تأتيه الجاهليات بين أيديهن وأرجلهن فهو أن تأتي إحداهن بمولود من حرام ثم تنسبه إلى بعلها كذبا وافتراء.

روى البخاري عن عائشة أم المومنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المومنات بالآية السابقة الذكر. قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المومنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك"، كلاماً. قالت: ولا والله ما مست يده امرأة في المبايعة قط. ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتكِ على ذلك".

البيعة عقد عظيم مع الله ورسوله يرفع المسلمة إلى درجة من القيمة والمسؤولية والذمة بجانب المسلم. وتبقى أحكام مميزة لا سبيل إلى خرقها. منها مصافحة الرجال النساء الأجنبيات. المومنات ينبغي أن يغتنمن كل فرصة لإثبات أصول الدين في مجتمعات مسلمة بات دينها غريبا عنها. فبدل أن تستعلي المومنة بحجابها وسلوكها الذي يحرم عليها مصافحة الأجانب لتثبت ذاتها زاجرة ناهرة، تتلطف لتشرح بهدوء لزوج الخالة الذي كان ألِف منها مد اليد، وللرئيس في العمل والزملاء في المكتب أن ذلك مما ينهى عنه الشرع. بلباقة لا يتعذر معها إبقاء الصلات الودية، وبجدية لا تترك مجالا للمخالفة.

سميت بيعة النساء كذلك لورود بنودها في الآية الكريمة. وإلا فهي بيعة كان يعطيها المومنون أيضا من أنفسهم. روى الشيخان وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في مجلس: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق". وفي رواية: "ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله. ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له وطُهر. ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عنه فأمْرُه إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه".

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا بالنساء في بيعتهن. فيشرح لجماعة منهن أن غش الأزواج من شروط البيعة. وتأتيه عجوز لتبايع، فشرط عليها وعلى من معها من النساء أن لا ينُحْن على ميتٍ. فقالت العجوز: يا رسول الله! إن ناسا كانوا قد أسعدوني على مصائب أصابتني، وإنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أريدُ أُسْعِدُهم. قال: فانطلقي فكافِئيهم. فانطلقت فكافأتهم، ثم إنها أتته فبايعت.

ناس أسعدوها، أي ساعدوها في النياحة على موتاها، فيقْدُرُ نبي الله الوالد الحنون قَدْر امرأة حديثة العهد بالإسلام، فيسمح لها بالنواح مع من ناح معها لتكافئهم على عُرْف الجاهلية، انتظارا أن تستأنف البيعة عهدا جديدا، ويدخل الإيمان في القلوب ليطرد رواسب المنكر المألوف.

لم يبلُغْنا أن أحدا من الخلفاء الراشدين بايع النساء هذه البيعة الأساسية التأسيسية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتائبات والمهاجرات من هذه الأجيال الصالحة يرفُق بعضهن ببعض، ويرشد بعضهن بعضا إلى أهمية هذا العقد مع الله تعالى. كل منهن تعاهد ربها وتبايعه وتخافه بالغيب.

تساوى المومنون والمومنات في البيعة التي أسست الإسلام وامتحنت صحة الإيمان. وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم المومنين بالبيعة الجهادية. ما منع هذا التخصيص المومنات من المشاركة الفعالة المؤثرة في الجهاد. بل كان لهن من الوفاء والاستماتة ما لم يُسجل مثله للرجال إلا قليلا.

حضرت السيدة الجليلة سيدتنا أم عمارة نسيبةُ بنت كعب الأنصارية بيعة العقبة الثانية يوْمَ أسَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم الكيان السياسي للأمة. بايعوه يومئذ وأم عمارة معهم ثانيةَ اثنتين من المومنات على أن يمنعوه إن هاجر إليهم مما يمنعون منه أزُرَهم، أي نساءهم على أن لهم الجنة. ووفت أم عمارة بالعهد أتم الوفاء رضي الله عنها.

قال ابن هشام: قاتلت أم عمارة يوم أحد. سألتها أم سعد: يا خالة! أخبريني خبركِ. فقالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سِقاء فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في أصحابه، والدَّولة والريحُ للمسلمين (أي النصر للمسلمين). فلما انهزم المسلمون انْحَزْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقمت أباشِر القتال، وأذُبُّ عنه بالسيف، وأرمي عنه بالقوس، حتى خلَصت الجراح إلَيَّ.

قالت أم سعد: فرأيت على عاتقها جُرحا أجوف له غَوْرٌ. فقلت: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قَمِئَـةَ أقْمأه الله! (أي أذَلَّه كما يدل اسم أمه على الذل).

قالت أم عمارة: لما ولّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل (ابن قمئة) يقول: دُلُّوني على محمد، فلا نجوتُ إن نجا!

قالت أم عمارة رضي الله عنها: فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة. ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات. ولكن عدو الله كان عليْه دِرعان. انتهى كلام المجاهدة العظيمة.

أين رفعتك همتك ورفعك وفاؤك يا نُسيبة الخير. مع الرائد مُصعب ومع أبي دُجانة الذي كان يُتَرِّس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره يقع فيها النبل، ومع سعد بن أبي وقاص المبشر بالجنة. هنيئا لك هنيئا. من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ومن المومنات.

المختار
30-01-2005, 16:03
جزاك الله خيرا اخي الفاضل حسن مشاركات قيمة وفعالة ننتظر المزيد

جعلها الله في ميزان حسناتك امين

adam
31-01-2005, 11:57
جزاك الله خيرا اخونا الفاضل

جعلها في ميزان حسناتك امين

hassan_1677
30-03-2005, 13:16
شكرا اخي على تشجيعك لنا

anass
30-03-2005, 14:04
جعله الله في صحيفتك يوم لا ينفع مال ولا بنون