مشاهدة النسخة كاملة : الصبر مجاهدة



sami_2007
18-12-2006, 17:08
بسم الله الرحمن الرحيم. (قل يجمع بيننا ربنا ثم يَفتح بيننا بالحق. وهو الفتاح العليم). اللهم زدنا ولا تنقصنا. وأكرمنا ولا تهنا. وأعطنا ولا تحرمنا. وآثرنا ولا توثر علينا. وأرضِنا وارض عنا.

التُّؤَدَةُ هي التأني والتمهل والرفق. والصبر شعبة من التؤدة وفرع عنها، أو هي مظهر من مظاهره. وفي الصبر والتؤدة معنى التحمل ومطاولة المصاعب والشدائد واستعمال الوقت لحلها وتجاوزها. الصبر قوة، وهو من صفات الرجال أهل الإيمان والإحسان والكمال. قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل(.(سورة الأحقاف، الآية: 34) وقال له: )واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تَكُ في ضيق مما يمكرون(.(سورة النحل، الآية: 81) وقد مدح الله عبده أيوب عليه السلام لصبره فقال جلت عظمته: )إنا وجدناه صابرا. نعم العبد. إنه أواب(.(سورة ص، الآية: 44) وأحب سبحانه الصابرين كما يحب المحسنين فقال: )والله يحب الصابرين(.(سورة آل عمران، الآية: 146)

الصبر عُدَّة المجاهدين لأنه يقتضي معية الله عز وجل. قال المجاهدون مع نبيهم الذين يجزمون بلقاء الله: )كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والله مع الصابرين(.(سورة البقرة، الآية: 249) وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل لأصحابه بصبر من كان قبلهم في موقف كان الثباتُ والتحمل هما كلمة الساعة فقال: "قد كان من قبلكم يوخَذُ الرجل، فيُحفَر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يُوتَى بمنشار فيوضع على رأسه، فيُجْعَل نصفين. ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه. ما يصده ذلك عن دينه. والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صَنْعَاء إلى حَضْرمَوْتَ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون". أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرث.

الصبرُ على البلاء، وعلى البلاء مبنى الحياة والموت والمسيرة في الدنيا، والثبات في مواطن الخطر، وتحملُ الأذى في سبيل الله عنوان الرشد والعزيمة، وشرط الفلاح والنجاح والنصر. قال عز وجل يوصي رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم: )ولقد كذبت رسل من قبلك، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا. ولا مبدل لكلمات الله(.(سورة الأنعام، الآية: 34) لا تتغير سنة الله تعالى في كون رجال الدعوة وأمناء الرسالة يواجهون بالتكذيب والأذى، كما لا تتغير في كون النصر يَعْقُبُ ذلك بشرط الصبر.

لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه عز وجل الثبات فيقول: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد". رواه الترمذي والنسائي عن شداد بن أوس. وأكثر الدعاة استحقاقا للنصر أرفعهم قدرا. من رفعة قدرهم نموذجيتهم في تحمل البلاء ليتأسى بهم غيرهم فلا يظنوا أن هذه الدنيا دار نُزهة وفرجة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجة.

ومن رفعة قدر الدعاة الصبر مع الناس، والصبر على مخالطتهم. قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه(.(سورة الكهف، الآية: 28) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". رواه الترمذي عن ابن عمر بإسناد حسن.

تختلف الأحوال والأزمان والفرص، أحسن ذلك ما شابه السلوك الجهادي القرآني السّنّي الذي يكون فيه الدعاة صابرين مع الذين يدعون ربهم كما أُمِرَ رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويكون فيه المسلمون صابرين على مخالطة بعضهم. لا فائدة من تكرار الأسباب التي دفعت السادة الصوفية إلى الخروج من المجتمع.

الفائدة في مسيرة الدعوة وهي تقود جمهور الأمة وعامتها أن نتعلم أن سياسة الناس تقتضي منا تؤدة، وتقتضي أن نحمل عامة الشعب على الصبر معنا، وعلى تحمل أعباء البناء، وعلى الاستمرار في بذل الجهد، والسماح في بعض الحقوق، وعدم استعجال النتائج.

في يوم ما وقطْرٍ ما يمسك جند الله زمام الحكم. الشعب ينتظر حل مشاكله المعيشية حالا. خلق الإنسان من عجل، وبُنِيَت السياسة المألوفة في الديموقراطيات والاستبداديات على الوعود الانتخابية المنفوخة الكاذبة بحجم أو بآخر. ولئن كان التبشير بالرخاء تحت راية الإسلام سنة مصطفوية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش: "جئتكم بكلمة تدين لكم بها العرب، وتدفع لكم بها العجم الجزية"، فإن تعبئة الشعب على البذل والعطاء والاستمرار في المجهود دينٌ من صميم الدين. قال الله تعالى يخاطبنا معشر الأمة المحمدية: )ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين الذين إذا أصابتم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون(.(سورة البقرة، الآيات: 154-156)

إن من يُحتمل أن يصبروا على البأساء والضراء بباعث الصبر الإيماني الإحساني قلةٌ قليلة. ولا يلبث حماس عامة الناس بعد الاستجابة لشعار "ثوري" جديد أن يتلاشى. والصبر هو بالضبط الفضيلة التي تأتي من بعد الحماس الموقوت ومن ورائه. فالدعاة لا مناص أن يعتمدوا، وهم يمسكون الزمام، على قدر كبير من الموازنة بين وازعي القرآن والسلطان، بين صبر الخاصة من المومنين والمحسنين وتصبير العامة الناطقين بالمطالبات النقابية، إلى أن يكتشفوا أن التغيير الإسلامي بذل وعطاء قبل أن يكون رحمة يبشر بها فقط الصابرون على شيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. ولَن يَعْدَم أي تغيير إسلامي الأسباب الكونية من عوامل التخويف الجاهلي الخارجي والداخلي، ومن عوامل التجويع لتخلفنا الزراعي واحتكار القوى الاستكبارية، ومن عوامل الخنق الاقتصادي والتمويل المشروط والمساومة على استقلال البلاد.

مراحل دقيقة خطيرة يكون الله عز وجل معنا فيها وفي غيرها، وعداً منه غير مكذوب، إن صبرنا كما صبر أولو العزم من الرسل.

والتربية الإحسانية على الصبر لها رجالها، نستفيد من فقههم الدقيق الرقيق ليكون كل قائم بالقسط من المجاهدين صابرا في موقعه مع عامة الناس، مثبِّتا لهم،راجعين إليه هم، كما هو راجع معتمد على من يقبل شكواهم وشكواه، وينصر بلواهم وبلواه، ويسمع نجواهم ونجواه. هو الله، لا إله إلا هو الوكيل الجليل.

قال فقيه الإحسان الإمام الرفاعي: "أي بُنَيَّ! اعلم أن الله تعالى خلق الدنيا، وجعلها دار مِحنة، ومحل الأخطار والأشرار. ثم خلط فيها الأبرار والفجار، وأهل المحبة بأهل البطالة. ثم يقلبهم من حال النعمة إلى حال الشدة، ومن حال الشدة إلى حال النعمة. لإظهار من يعبده على بساط المحنة ممن يعبده على بساط النعمة، ومن يعبده على رُؤْية المُعْطِي ممن يعبده على رؤية العطاء(...)

"قال بعض العلماء. من يعبده على بساط النعمة أولى ممن يعبده على بساط المحنة. لأن منزلة الشكر أفضل من منزلة الصبر. وذلك لأن الشكر على النعمة طاعة على بساط الفَراغَة، والصبر على الشدة طاعة على بساط الشغل. وليس من عبد الله فارغا كمن عبده مشغولا.

من كتاب اللاحسان الاخ المرشد حفظه الله