مشاهدة النسخة كاملة : الأوراد وخصائص الأذكار



anass
15-02-2005, 13:13
الأستاذ عبد السلام ياسين

لَبِيسَ عبد شغلته النعم يرجوها ويدعو بها عن المنعم، وألهته محبوبات النفس عن محبوب القلب، وبدَّد شمله هم المكان والزمان عن استجماع همته في ذكر مولاه. تعتري المومن فترات غفلة لأن الإنسان جبل على النسيان، فيفتر عن ذكر ربه وينشغل. لكنه يرجع إلى الذكر ويُراجِع. ولمثل هذا قال الله عز وجل على صورة خطاب موجه لسيد الذاكرين صلى الله عليه وسلم: (واذكر ربك إذا نسيت) (سورة الكهف، الآية: 24) نسيان المومن موقوتٌ طارئٌ، ونسيان الجاحدين والكافرين والمنافقين والغافلين حالٌّ مقيم! (نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) (سورة الحشر، الآية: 19).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل على كل أحيانه كما روى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها. وبذلك أُمِرَ في قوله تعالى يخاطبه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (سورة الكهف، الآية: 28).
وقوله: (واذكر ربك في نفسك تـضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) (سورة الأعراف، الآية: 205).
وجاء القرآن بتحريض الرجال حقِّ الرجال على الذكر في أطراف الليل والنهار في قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) (سورة النور، الآيتان: 36-37).
كلمة "سَبَّحَ" ذاتُ دلالة عامة تشمل كل العبادات من قول وفعل ونية كما قال الراغب الأصفهاني رحمه الله. واستغراق الوقت كله بالذكر والتسبيح درجة عليا نَدَبَ الله إليها رسله وسائر عباده المومنين. استغراق الوقت كله في الذكر والتسبيح علامة على إقبال العبد على ربه إقبالا كليا. قال الله تعالى لحبيبه في سورة طه: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى). (الآية: 130) استدل الفقهاء رضي الله عنهم بهذه الآية على توقيت الصلوات الخمس. وهو كذلك. والصلاة من أعظم الذكر. والذكر اللساني والقلبي فيها بتلاوة القرآن والخشوع والمناجاة من أعظم ما يرجوه العبد من عمله. والذكر بعدها وما بين الصلوات وَصْلَةٌ مطلوبة. قال الله عز وجل: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) (سورة آل عمران، الآيتان: 190-191).
وهكذا يلحق أولو الألباب بالدرجات العُلى إن هم ذكروا الله على كل أحوالهم كما كان يفعل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
درجة فوق مجرد ملء الأوقات بالذكر هي درجة الاستهتار التي اختص الله بها المفردين الذين يذكرون الله حتى يقال مجنون.
وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته معراجا يتدرج فيه الذاكر ليصل إلى ما شاء الله من تلك الدرجات. قال صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه". رواه البخاري ومالك عن عائشة رضي الله عنها. وروى مسلم عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل". وفي رواية لأبي داود عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون. فإن الله لا يملُّ حتى تملّوا. وإن أحب العمل إلى الله أدومُه ولو قل. وكان إذا عمل عملا أثبته". أثبته بمعنى داوم عليه في وقته من نهار أو ليل.
المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى في اصطلاح القوم بالأوراد. والأوراد أوتادٌ راسية عليها يبني المومن خيمة الذكر في أرجاء وقته وعامة نشاطه وسُوَيْدَاءِ قلبه.
الأوراد هي الطريق إلى الله عز وجل لا يستغني عنها مبتدئٌ ولا يزهد فيها واصل. قيل للجنيد رحمه الله: نراك تحافظ على أورادك وأنت شيخ! فقال طريق وصلنا بها إلى الله لا نتركها. قال الإمام الغزالي: "اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أن لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى، وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محبا لله وعارفا بالله سبحانه، وأن المحبة والأُنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه، وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر فيه وفي صفاته وفي أفعاله(...) وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار".
الأوراد والمداومة عليها سنة. وهي بمثابة نَذْر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به. لذلك حذر العلماء من الدخول في الأوراد بخِفَّة مخافة أن لا يفي العبد بما عاهد الله عليه منها. قال العالم الفقيه أحد عباقرة الفقه الإمام الشاطبي: "إن في توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات ومسنونات ومستحبات في أوقات معلومة لأسباب ظاهرة ولغير أسباب ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال. وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا: "فما رعوها حق رعايتها": إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار. فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليه بإطلاق. لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم. فالمكلَّف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب فمن حقه ألاّ ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء، حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أو لا".
للذكر مَراقٍ، يترقى المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الوفاء بأوراد محدودة إلى الاستغراق ثم الاستهتار إن وفقه الله. قال ابن عطاء الله في حكمه: "لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعَسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يَقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور. وما ذلك على الله بعزيز".
للذكر آثار عامة وفوائد خاصة. احذر كل الحذر من الذين يتخذون آيات الله هُزُؤاً ويرتبون لأنفسهم وللناس أذكارا. تقول كذا وكذا مرة في وقت كذا ليحصل لك كذا وكذا من أغراض الدنيا. هذا والسحر من بابة واحدة. ومن كان على بصيرة من ربه علم من أي باب يُرزق. ما سوى هذا من الأذكار الخاصة السنية أو الأثرية من عمل السلف الصالح لا اعتراض عليه. وفي أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي علمها أصحابه والأمة الشفاء والغناء. لكل نازلة وحاجة وحالة توسل ودعاء وذكر. من الناس من يعتمد على تجارب الصالحين في التماس خصائص الأذكار. لابأس إن كان الذكر واردا في كتاب أو سنة قال ابن القيم رحمه الله: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: من واظب على "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الصبح أربعين مرة أحيى الله قلبه". فهذا مريد اتخذ شيخه مرجعا نهائيا في المسألة. سند هذا الذكر بهذا العدد رؤيا رأى فيها الشيخ الكتاني النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بذلك كما ذكر القشيري في رسالته.
الخاصية العامة للذكر والدعاء في قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم) (سورة البقرة، الآية: 152) وقوله عز من قائل: (ادعوني أستجب لكم) (سورة غافر، الآية: 60) وقوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) (سورة الزخرف، الآية: 36).
قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. اذكروني بالمجد والثناء أذكركم بالعطاء والجزاء. اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوْبة. اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء. اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة. اذكروني بالندم أذكركم بالكرم. اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة. اذكروني بالإيمان أذكركم بالجِنان. اذكروني بالقلب أذكركم بكشف الحجْب. اذكروني بصفاء السر أذكركم بخالص البِر. اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو. اذكروني بالجُهد فِيَّ أذكركم بتمام النعمة".
من أعظم الأذكار فضلا، وأجلها قدرا، وأوفاها بمقصود المريدين المحبين المتقربين الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هي شيخ من لا شيخ له. هي وسيلتنا إلى ربنا إذ هي ميثاق وفاء ومحبة، تلتقي صلاتنا عليه بصلاة الله عليه وصلاة ملائكته. فأي فضل أعظم من أن يكون موضوع صلاتنا مطابقا موافقا؟ روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاء ذات يوم والبشر في وجهه. فقلنا: إنا لنرى البشر في وجهك! قال: "إنه أتاني الملك فقال: يا محمد! إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلّي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا. ولا سلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا؟". وروى الترمذي بإسناد حسن وأحمد وغيرهما عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي". وأخرج الإمام أحمد وحسنه المنذري عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة". وقال صلى الله عليه وسلم في رواية أحمد والنسائي بإسناد حسن عن زيد بن خارجة: "صلوا علي، فاجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد".
اللهم شكرا على نعمتك العظمى وتعرُّضاً لوعدك الكريم نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
دوام الذكر، وتغلغل الذكر في القلب عن طريق الأوراد اللسانية التفكرية طريق الولاية مع الصحبة. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "الذاكر لله عز وجل لا يفتر عن الذكر حتى ينتقل من حياة إلى حياة. فلا موت له سوى لحظة. إذا تمكن الذكر في القلب دام ذكر العبد لله عز وجل وإن لم يذكره بلسانه. كلما دام العبد في ذكر الله عز وجل دامت موافقته له ورضاه بأفعاله.(...). ما أعجب أمورَ القوم؟ وما أحسن أحوالهم! كل ما يأتيهم من الحق عز وجل عندهم طيب. قد سقاهم بَنْجَ معرفته، ونومهم في حجر لطفه، وآنسهم بأُنْسه. فلا جَرَمَ يَطيب لهم المُقام معه. والغيبة عن كل شيء سواه. لا يزالون موتى بين يديه وقد ملكتهم الهيبة، فإن شاء أنشرهم وأقامهم وأحياهم ونبَّههم" وتلك هي الولاية الكبرى: البقاء بعد الفناء.
وقال قدس الله سره يُعلم الغلام المريد الجديد في خدمة مولاه: "يا غلام! اذكر الحق عز وجل أولا بقلبك ثم بقالبك ثانيا. اذكره بقلبك ألف مرة وبلسانك مرة. اذكره عند مجيء الآفات بالصبر وعند مجيء الدنيا بالترك، وعند مجيء الأخرى بالقبول، وعند مجيء الحق بالتوحيد، وعند مجيء غيره بالجملة بالإعراض عنه. إذا أرخيت عنان نفسك طمعت فيك ورمت بك. ألْجِمها بلِجام الورع ودع عنك القال والقيل".
ذكر الله باللسان والقلب والاستغراق والاستهتار والمحافظة على الأوراد آناء الليل وأطراف النهار بناء على غير أساس إن لم يَصن ذلك الذكر الكثير ذكرُ الله عند الأمر والنهي، ذكرُهُ عند حق كل ذي حق، ذكره في الدرهم والدينار، ذكره في الأمة التي تنتظر مجاهدين لإقامة دين الله في الأرض.
قال الإمام الشافعي يناجي ربه ويذكره:
قلبي برحمتـك اللهـــم ذو أُنُـسٍ *** في السر والجهر والإصبـاح والغـلس
وما تقلبـت من نـومـي وفي سِنَـتي *** إلا وذكرك بـين النَّفْـسِ والنَّفَـسِ
لقد مننـت علـى قلبـي بمعــرفـة *** بأنك اللـه ذو الآلاء والقُــدُس
وقـد أتيـت ذنـوبـا أنت تعلمهـا *** ولـم تكن فاضحي فيها بفعلِ مُسي
فامنــن علي بذكـر الصـالحين ولا *** تجعل عليَّ إذاً في الديـن من لَبَـسِ
وكـن معي طـول دنيـاي وآخـرتي *** ويوم حشـري بما أنزلت في عَبـس
لعله رحمه الله يشير إلى قوله تعالى في سورة عبس: (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة) (الآيتان: 38-39) اللهم اجعلنا منهم بمنك وبجاه نبيِّك.

أشرف
19-02-2005, 10:50
بارك الله فيك على هذا الموضوع القيم ومشكور على نقله ففيه البركة و...