المراكشي
23-11-2004, 12:30
المستشار طارق البشري احد حكماء الامة وحكماء مصر واحد رواد الفكر الاسلامي ويصنف غالبا على انه اسلامي معتدل يكتب مقالة في غاية الاهمية تشخص الاوضاع في مصر مقالة طويلة انقل لكم فقط الجزء الثالث و الاخير واهمية هذه الدعوة انها اتت من شخص من رموز الاعتدال ومن رواد الفكر الاسلامي و الصحوة الاسلامية المباركة
.................................................. ..............................................
أدعوكم إلى العصيان
من الملاحظ أنه كلما ضاقت دائرة الأفراد الممسكين بزمام الدولة زاد التضييق على خصومهم السياسيين، وزاد ميلهم لاستخدام العنف مع الخصوم. وأن شخصنة الدولة هى آخر درجات ضيق نطاق المسيطرين على الدولة، ذلك أن الشخصنة تكون القيادة فيها قد آلت إلى أفراد معدودين، لم يعد الأمر فى يد شريحة طبقية أو طائفية أو قبلية أو غير ذلك، إنما صارت إلى أفراد، وهنا تضيق المصلحة المحمية من الدولة لأنها تكون اقتصرت على مصالح أفراد
كما يضيق التأييد الاجتماعى المستمد من الجماعات، سواء خارج الدولة أو من بين العاملين بالدولة ومن داخلها، كما تضيق الحجج والمحاذير التى تساق لتبرير السياسات والأوضاع، فيزيد عدم الاحتمال ويزيد الميل إلى اسباغ نوع من القداسة على الفرد الذى يعتبر رأس الدولة المشخصنة، ويزيد احتمال استخدام آلة الدولة الأمنية لقمع أى حركة مخالفة فى مهدها. واستخدام عنف الدولة هنا هو الحل الجاهز دائما والسريع لمواجهة أى تحرك أو أى تجمع ولو فى مهده، لإجهاض ما يتكون ولردع ما هو فى طريق التكوين.
وهذا ما يواجه به أى فعل حركى فورا، وهو ما ينتظره أى فعل حركى، وهو ما يتعين أن يكون فى الحساب دائما، أقول ذلك لأنه يتعين أن يكون فى الحساب أيضا لا توقع عنف الدولة فقط، ولكن الإعداد للقدرة على مواجهة هذا العنف بعدم العنف، أى بالتلقى والتقبل لعنف الدولة دون أى رد عنيف، ذلك أن العنف الذى يمارس هنا إنما تمارسه الدولة وأجهزتها قياما بواجبها ووظيفتها الأساسية وهى حفظ الأمن ومنع الاضطرابات، وهى أجهزة ليست سياسية ولا تصدر عن تقويم سياسى تقوم به أو يقوم به قادتها، وإنما تصدر عن إرادة سياسية وقرار سياسى تملكه أجهزة التقرير فى قمة الدولة المشخصنة، وليس ثمة خصومة تقوم مع أجهزة الدولة ولا مع العاملين فيها، والأمر يقتضى من أصحاب الحركة الشعبية قدرا كبيرا من ضبط النفس ومن الاحتمال ومن الاستعداد لتقبل العنف دون رد عليه إلا بالتصميم على الحركة وعلى استبقائها مستمرة وعلى استبقائها غير عنيفة، وأن يكون تحمل عنف الدولة دون رد عليه مع الاستمرار فى الحركة السلمية غير العنيفة، أن يكون ذلك هو التكلفة والنفقة التى تؤدى لله وللوطن من أجل الخروج من الطريق المسدود الذى يظهر أنه لا خروج منه إلا بالحركة.
إن من صفات الدولة وعمالها وأجهزتها، أنها تمارس أعمالها بوصفين متباينين، فهى تميل إلى العمل بوصفها حكما وراعيا للصالح العام أو لصالح من يكون له حاجة لأن ذلك من وظائفها الرئيسية، من إدارة المرافق والخدمات وكفالتها لمستحقيها، ولابد لأى إنسان أو أى جهاز أن يقدم بقدر ما من وظائفه الرئيسية التى وجد من أجلها لكى تبقى له القدرة على الاستمرار والمبرر المعنوى والمادى لوجوده وقيمته الاجتماعية.. ومن جهة أخرى فإن هذه الدولة ذاتها وعمالها وأجهزتها يمارسون العمل الحصافى الحاد لمن يقف فى طريقهم أو يبدى لهم الخصام. ونحن نلحظ أنه حتى فى الأعمال الرتيبة للنشاط العادى لأجهزة الدولة المختلفة، يختلف اسلوب تناول أى مطلب لأى مواطن، ويتوقف الاختلاف حول ما إذا كان صاحب الطلب استدعى حاكمية الجهاز المعنى أم استدعى خصومته. واحتمالات الاستجابة له فى الحالة الأولى تكون قائمة، أما فى الحالة الثانية حال استدعاء الخصومة فلا احتمال قط للنظر المنصف حتى لو كان الطالب غير مشكوك فى حقه. وبصرف النظر عن الصواب والخطأ فهكذا تعمل آلة الدولة عندنا.
لغاندى تعبير دقيق وجميل يصف به هذا الأمر، فهو يقول إن الحاكم عندما يواجه الحركة الشعبية السلمية بالعنف يكون كمن يضرب الماء بسيفه ليقطعه، فالعنف لا يهزم الحركة السلمية مهما آذى رجالها، وللأديب الأمريكى يوجين اونيل مسرحية باسم الامبراطورجونز، أذكر من وقائعها عندما قرأتها من نحو ثلاثين سنة، أن امبراطورا فى بلد إفريقى انسحب مواطنوه من البلدة وذهبوا إلى الغابة وبقوا يدقون الطبول على نحو رتيب، أى انصرف عنه شعبه، ولكنه كان انصرافا منظما وجماعيا ويستهدف عملا احتجاجيا مقاوما، لم يكن الانصراف عملا سلبيا، كان هو صميم العمل الايجابى، ولم يكن هروبا بل كان هو عين المواجهة. وتصف المسرحية اضطراب الحاكم وقتها.
لابد للحاكم من الشرعية، مهما كان ذا سلطات مطلقة، والشرعية بالمعنى المقصود منها هنا هى التقبل العام الذى يمكن له من أن يطاع وأن تنفذ أوامره، ونواهيه بين الناس فيصالح غالبيتهم إليها، وأن تنفذ هذه الأوامر والنواهى بين عمال الدولة وأجهزتها فيتحركون لإفضائها بين الناس. ويستحيل للحاكم أن يحكم شعبا إلا بتوافر درجة معتبرة من التقبل والانصياع له بين الناس، ويستحيل عليه أن تمضى قراراته بين عمال دولته إلا بدرجة أقوى من التقبل تدفع عماله إلى الحركة لإمضاء قراراته بغير تراخ ولا تسويف ولا اهمال إن من أولى مشاكل أى رئيس فى أى موقع من مواقع العمل والإدارة، هى كيف يدفع مرءوسيه إلى مده بالمعلومات والخبرات الخاصة بالعمل بكفاءة وصدقية، وكيف يدفعهم لأن ينفذوا قراراته بالضبط اللازم لإنتاج أثرها، ولو فرض إن كان المرءوس شخصا وحدا وهذا طبعا لا يحدث قط لكان الرئيس أحوج إلى مرؤوسيه الوحيد من احتياج المرؤوس إلى رئيسه.. يبدو ذلك جليا إذا لوحظت غلافة أى رئيس جديد بمرءوسيه يكاد فى الأيام الأولى له معهم علاقة يستجدى تقبلهم له، إن لم يكن ذا علاقة سابقة بهم. هذا من حيث علاقة الرئيس بمن دونه.
ويلحظ أن علاقة الحاكم بمحكومه أشد احتياجا، لأنه لن يكون حاكما بغير طاعة المحكوم، وإذا أردنا أن نوضح مدى احتياج كل من الجانبين للآخر، فيمكن القول بأنه لا أمن ولا انتظام للمحكوم بغير الحاكم، ولكن فى المقابل فإنه لا وجود أصلا للحاكم بغير المحكوم. ولا أقصد بذلك الوجود المادى ولكن أقصد وجود الحاكم بوصفه طرفا فى علاقة لا تقوم ولا تنشأ إلا بمحكوم لديه الحد الأدنى للتقبل والانصياع، بحيث إنه إذا أزاح التقبل والانصياع، أو خفضهما إلى ما دون الحد الأدنى، فلا يبقى حاكم على كرسيه، والمسألة هنا ليست مسألة إزاحة مادية، إنما هى إزاحة للتقبل وهى ليست إطاحة مادية ولكنها إطاحة للانصياع وللخضوع.
نحن نعرف من تجربة الهند أن الانجليز ما كانوا يستطيعون أن يحكموها بغير تعاون الهنود وخضوعهم، وهذا ما أدركه غاندى وعمل على إنهاء هذا التعاون فما لبث الحكم الإنجليزى أن انتهى، رغم أنه كان يعتمد على جيوش واساطيل انجليزية وكان جهاز الدولة الهندى يتشكل فى قياداته من الإنجليز. أقصد أن أقول إن هذا الاسلوب كان ناجحا ضد حكام أجانب وضد آلة حرب أجنبية وضد جهاز دولة يشكله ويشرف عليه ويشترك فى أنشطته الوسطى أجانب، فما بالك بأثره الكبير إذا لم يوجد أجنبى فى حكم أو فى آلة حرب أو فى أجهزة دولة. ولغاندى كلمة ذكية فى هذا الشأن، فهو يقول سوف نتوقف عن لعب دور المحكوم، وأن الإنجليز مهما اعملوا العنف فنحن نعرف أنكم لن تستطيعوا أن تتحركوا خطوة واحدة للأمام وإذا كان هذا ما قاله غاندى بوصفه محكوما، فهو عينه تقريبا ما قاله هتلر بوصفه حاكما وطاغية، فهو يقول فى كتاب كفاحى إنه لا يمكن الاحتفاظ بأجهزة الحكومة عن طريق القوة وحدها. وميكيافيللى يؤكد الظاهرة ذاتها فى كتابه الأمير على اعتبار أن القسوة كلما زادت ازداد نظام الحكم ضعفا وأنه إذا لم يكن من سبيل أمام الحاكم لانتزاع الطاعة إلا بالعنف فإن النظام يكون آخذا فى الزوال، وعلينا أن نعى جيدا درسا فى السياسة يتفق على إدراك ظواهره وعلى استخلاص عبرته، يتفق على ذلك غاندى فى أقصى الحركة الشعبية السلمية الأخلاقية وهتلر فى قمة سلطة العدوان المسلح العنيف غير الأخلاقى وميكيافيللى فى قلب العمل السياسى الذى لا يعرف من المبادئ إلا مصلحة الحاكم والدولة.
ونحن نذكر مثلا، فى ثورة 1919 فى مصر أن كان طابعها العصيان وعدم التعاون، وكانا بما هو جدير بها أن يكونا فاعلين، من حيث السعة الشعبية والشمول، وهذا ما جعل اللورد اللنبى المندوب السامى البريطانى فى مصر يصف لحكومته الوضع قائلا: لقد صارت الحكومة مستحيلة فى مصر فى ربيع 1919، وهذا بالذات وضع استحالة الحكومة هو ما اضطر الحكومة البريطانية الاستعمارية إلى تقديم التنازلات للمصريين بالاعتراف باستقلال مصر وسقوط الحماية البريطانية عنها، والبدء فى التعامل مع قوى الثورة المصرية، وتعرف فى السودان حركة 1964 التى خرج فيها شعب السودان إلى الشوارع فى حركة احتجاج شعبى منظم ومصمم حتى انتهى سلميا نظام إبراهيم عبود الذى كان بدأ فى 1958 واستمر حتى 1964، وتعرف أيضا بدايات الثورة الإيرانية، تحرك الناس بجمعهم كل حركة سلمية احتجاجية تعبر عن الرفض الشامل لحكم الشاه، وبقى تحركهم شاملا وسلميا رغم ما لاقوه من عنف الدولة وأجهزة القمع فيها، ولكن الإصرار على الفعل الاجتماعى السلمى المثابر فى شمول ما لبث مع مضى الوقت أن نصل بين قيادة الدولة صاحبة القرار وبين أجهزة التنفيذ والضغط فانحل وثاق الدولة وكان امتناع أجهزة القمع عن إطاعة الأوامر بالضرب هو فى ذاته إنهاء للنظام السياسى. كما كان إضراب المواطنين فى مصر فى 1919 إيذانا بانتهاء نظام للحكم استمر سبعا وثلاثين سنة سابقة منذ 1882 وإيذانا ببداية نظام جديد استمر ثلاثا وثلاثين سنة حتى 1952. إن الفعل السلمى المنتج يستوجب حركة جامعة وشاملة كأوسع ما تكون، أو بعبارة أدق فإنه بقدر سعتها وشمولها بقدر ما تكون منتجة، وبقدر ما تكون أسرع فى الإنتاج وبقدر ما تكون أعمق فى أثرها الطيب المرجو. كما أن هذا الفعل المنتج يستوجب صبرا على الشدائد التى سيواجه بها حتما، لأن الحكم المشخصن لابد أن يستخدم العنف فى البداية، وهو لا يوجه أزماته إلا بالمزيد من التسلط وقلة الحيلة والقمع كما أن هذا الفعل المنتج يقتضى طول النفس، وأن الصبر وطول النفس واستبقاء السلمية فى التعبير رغم تحمل الصعاب أن ذلك يزيد من فاعلية ومن اتساع جامعته ونمو شموله.
وأصعب ما فى هذه المستوجبات هو أولها، لأن نظام الدولة القابضة الذى انبنى فى بلادنا، وما اتصفت به وظائفها من شمولية وتسلط، وما خضعت له
من مركزية شديدة، وما عانت منه فى العقود الأخيرة من فردية وتشخصن، كل ذلك أدى إلى انفراط فى التجمعات الشعبية انفراط لا يظهر لى أنه بلغ هذا المدى البعيد فى أى مرحلة من مراحل تاريخنا الحديث المرئى، إن تجمعات الماضى كالمذاهب والطرق الصوفية ونقابات الحرفيين وتجمعات الطوائف والملل والقبائل، قد انتهت أو أن ما بقى منها صار شكلا بغير محتوى قادر على فعل التجميع المنتج.
.................................................. ..............................................
أدعوكم إلى العصيان
من الملاحظ أنه كلما ضاقت دائرة الأفراد الممسكين بزمام الدولة زاد التضييق على خصومهم السياسيين، وزاد ميلهم لاستخدام العنف مع الخصوم. وأن شخصنة الدولة هى آخر درجات ضيق نطاق المسيطرين على الدولة، ذلك أن الشخصنة تكون القيادة فيها قد آلت إلى أفراد معدودين، لم يعد الأمر فى يد شريحة طبقية أو طائفية أو قبلية أو غير ذلك، إنما صارت إلى أفراد، وهنا تضيق المصلحة المحمية من الدولة لأنها تكون اقتصرت على مصالح أفراد
كما يضيق التأييد الاجتماعى المستمد من الجماعات، سواء خارج الدولة أو من بين العاملين بالدولة ومن داخلها، كما تضيق الحجج والمحاذير التى تساق لتبرير السياسات والأوضاع، فيزيد عدم الاحتمال ويزيد الميل إلى اسباغ نوع من القداسة على الفرد الذى يعتبر رأس الدولة المشخصنة، ويزيد احتمال استخدام آلة الدولة الأمنية لقمع أى حركة مخالفة فى مهدها. واستخدام عنف الدولة هنا هو الحل الجاهز دائما والسريع لمواجهة أى تحرك أو أى تجمع ولو فى مهده، لإجهاض ما يتكون ولردع ما هو فى طريق التكوين.
وهذا ما يواجه به أى فعل حركى فورا، وهو ما ينتظره أى فعل حركى، وهو ما يتعين أن يكون فى الحساب دائما، أقول ذلك لأنه يتعين أن يكون فى الحساب أيضا لا توقع عنف الدولة فقط، ولكن الإعداد للقدرة على مواجهة هذا العنف بعدم العنف، أى بالتلقى والتقبل لعنف الدولة دون أى رد عنيف، ذلك أن العنف الذى يمارس هنا إنما تمارسه الدولة وأجهزتها قياما بواجبها ووظيفتها الأساسية وهى حفظ الأمن ومنع الاضطرابات، وهى أجهزة ليست سياسية ولا تصدر عن تقويم سياسى تقوم به أو يقوم به قادتها، وإنما تصدر عن إرادة سياسية وقرار سياسى تملكه أجهزة التقرير فى قمة الدولة المشخصنة، وليس ثمة خصومة تقوم مع أجهزة الدولة ولا مع العاملين فيها، والأمر يقتضى من أصحاب الحركة الشعبية قدرا كبيرا من ضبط النفس ومن الاحتمال ومن الاستعداد لتقبل العنف دون رد عليه إلا بالتصميم على الحركة وعلى استبقائها مستمرة وعلى استبقائها غير عنيفة، وأن يكون تحمل عنف الدولة دون رد عليه مع الاستمرار فى الحركة السلمية غير العنيفة، أن يكون ذلك هو التكلفة والنفقة التى تؤدى لله وللوطن من أجل الخروج من الطريق المسدود الذى يظهر أنه لا خروج منه إلا بالحركة.
إن من صفات الدولة وعمالها وأجهزتها، أنها تمارس أعمالها بوصفين متباينين، فهى تميل إلى العمل بوصفها حكما وراعيا للصالح العام أو لصالح من يكون له حاجة لأن ذلك من وظائفها الرئيسية، من إدارة المرافق والخدمات وكفالتها لمستحقيها، ولابد لأى إنسان أو أى جهاز أن يقدم بقدر ما من وظائفه الرئيسية التى وجد من أجلها لكى تبقى له القدرة على الاستمرار والمبرر المعنوى والمادى لوجوده وقيمته الاجتماعية.. ومن جهة أخرى فإن هذه الدولة ذاتها وعمالها وأجهزتها يمارسون العمل الحصافى الحاد لمن يقف فى طريقهم أو يبدى لهم الخصام. ونحن نلحظ أنه حتى فى الأعمال الرتيبة للنشاط العادى لأجهزة الدولة المختلفة، يختلف اسلوب تناول أى مطلب لأى مواطن، ويتوقف الاختلاف حول ما إذا كان صاحب الطلب استدعى حاكمية الجهاز المعنى أم استدعى خصومته. واحتمالات الاستجابة له فى الحالة الأولى تكون قائمة، أما فى الحالة الثانية حال استدعاء الخصومة فلا احتمال قط للنظر المنصف حتى لو كان الطالب غير مشكوك فى حقه. وبصرف النظر عن الصواب والخطأ فهكذا تعمل آلة الدولة عندنا.
لغاندى تعبير دقيق وجميل يصف به هذا الأمر، فهو يقول إن الحاكم عندما يواجه الحركة الشعبية السلمية بالعنف يكون كمن يضرب الماء بسيفه ليقطعه، فالعنف لا يهزم الحركة السلمية مهما آذى رجالها، وللأديب الأمريكى يوجين اونيل مسرحية باسم الامبراطورجونز، أذكر من وقائعها عندما قرأتها من نحو ثلاثين سنة، أن امبراطورا فى بلد إفريقى انسحب مواطنوه من البلدة وذهبوا إلى الغابة وبقوا يدقون الطبول على نحو رتيب، أى انصرف عنه شعبه، ولكنه كان انصرافا منظما وجماعيا ويستهدف عملا احتجاجيا مقاوما، لم يكن الانصراف عملا سلبيا، كان هو صميم العمل الايجابى، ولم يكن هروبا بل كان هو عين المواجهة. وتصف المسرحية اضطراب الحاكم وقتها.
لابد للحاكم من الشرعية، مهما كان ذا سلطات مطلقة، والشرعية بالمعنى المقصود منها هنا هى التقبل العام الذى يمكن له من أن يطاع وأن تنفذ أوامره، ونواهيه بين الناس فيصالح غالبيتهم إليها، وأن تنفذ هذه الأوامر والنواهى بين عمال الدولة وأجهزتها فيتحركون لإفضائها بين الناس. ويستحيل للحاكم أن يحكم شعبا إلا بتوافر درجة معتبرة من التقبل والانصياع له بين الناس، ويستحيل عليه أن تمضى قراراته بين عمال دولته إلا بدرجة أقوى من التقبل تدفع عماله إلى الحركة لإمضاء قراراته بغير تراخ ولا تسويف ولا اهمال إن من أولى مشاكل أى رئيس فى أى موقع من مواقع العمل والإدارة، هى كيف يدفع مرءوسيه إلى مده بالمعلومات والخبرات الخاصة بالعمل بكفاءة وصدقية، وكيف يدفعهم لأن ينفذوا قراراته بالضبط اللازم لإنتاج أثرها، ولو فرض إن كان المرءوس شخصا وحدا وهذا طبعا لا يحدث قط لكان الرئيس أحوج إلى مرؤوسيه الوحيد من احتياج المرؤوس إلى رئيسه.. يبدو ذلك جليا إذا لوحظت غلافة أى رئيس جديد بمرءوسيه يكاد فى الأيام الأولى له معهم علاقة يستجدى تقبلهم له، إن لم يكن ذا علاقة سابقة بهم. هذا من حيث علاقة الرئيس بمن دونه.
ويلحظ أن علاقة الحاكم بمحكومه أشد احتياجا، لأنه لن يكون حاكما بغير طاعة المحكوم، وإذا أردنا أن نوضح مدى احتياج كل من الجانبين للآخر، فيمكن القول بأنه لا أمن ولا انتظام للمحكوم بغير الحاكم، ولكن فى المقابل فإنه لا وجود أصلا للحاكم بغير المحكوم. ولا أقصد بذلك الوجود المادى ولكن أقصد وجود الحاكم بوصفه طرفا فى علاقة لا تقوم ولا تنشأ إلا بمحكوم لديه الحد الأدنى للتقبل والانصياع، بحيث إنه إذا أزاح التقبل والانصياع، أو خفضهما إلى ما دون الحد الأدنى، فلا يبقى حاكم على كرسيه، والمسألة هنا ليست مسألة إزاحة مادية، إنما هى إزاحة للتقبل وهى ليست إطاحة مادية ولكنها إطاحة للانصياع وللخضوع.
نحن نعرف من تجربة الهند أن الانجليز ما كانوا يستطيعون أن يحكموها بغير تعاون الهنود وخضوعهم، وهذا ما أدركه غاندى وعمل على إنهاء هذا التعاون فما لبث الحكم الإنجليزى أن انتهى، رغم أنه كان يعتمد على جيوش واساطيل انجليزية وكان جهاز الدولة الهندى يتشكل فى قياداته من الإنجليز. أقصد أن أقول إن هذا الاسلوب كان ناجحا ضد حكام أجانب وضد آلة حرب أجنبية وضد جهاز دولة يشكله ويشرف عليه ويشترك فى أنشطته الوسطى أجانب، فما بالك بأثره الكبير إذا لم يوجد أجنبى فى حكم أو فى آلة حرب أو فى أجهزة دولة. ولغاندى كلمة ذكية فى هذا الشأن، فهو يقول سوف نتوقف عن لعب دور المحكوم، وأن الإنجليز مهما اعملوا العنف فنحن نعرف أنكم لن تستطيعوا أن تتحركوا خطوة واحدة للأمام وإذا كان هذا ما قاله غاندى بوصفه محكوما، فهو عينه تقريبا ما قاله هتلر بوصفه حاكما وطاغية، فهو يقول فى كتاب كفاحى إنه لا يمكن الاحتفاظ بأجهزة الحكومة عن طريق القوة وحدها. وميكيافيللى يؤكد الظاهرة ذاتها فى كتابه الأمير على اعتبار أن القسوة كلما زادت ازداد نظام الحكم ضعفا وأنه إذا لم يكن من سبيل أمام الحاكم لانتزاع الطاعة إلا بالعنف فإن النظام يكون آخذا فى الزوال، وعلينا أن نعى جيدا درسا فى السياسة يتفق على إدراك ظواهره وعلى استخلاص عبرته، يتفق على ذلك غاندى فى أقصى الحركة الشعبية السلمية الأخلاقية وهتلر فى قمة سلطة العدوان المسلح العنيف غير الأخلاقى وميكيافيللى فى قلب العمل السياسى الذى لا يعرف من المبادئ إلا مصلحة الحاكم والدولة.
ونحن نذكر مثلا، فى ثورة 1919 فى مصر أن كان طابعها العصيان وعدم التعاون، وكانا بما هو جدير بها أن يكونا فاعلين، من حيث السعة الشعبية والشمول، وهذا ما جعل اللورد اللنبى المندوب السامى البريطانى فى مصر يصف لحكومته الوضع قائلا: لقد صارت الحكومة مستحيلة فى مصر فى ربيع 1919، وهذا بالذات وضع استحالة الحكومة هو ما اضطر الحكومة البريطانية الاستعمارية إلى تقديم التنازلات للمصريين بالاعتراف باستقلال مصر وسقوط الحماية البريطانية عنها، والبدء فى التعامل مع قوى الثورة المصرية، وتعرف فى السودان حركة 1964 التى خرج فيها شعب السودان إلى الشوارع فى حركة احتجاج شعبى منظم ومصمم حتى انتهى سلميا نظام إبراهيم عبود الذى كان بدأ فى 1958 واستمر حتى 1964، وتعرف أيضا بدايات الثورة الإيرانية، تحرك الناس بجمعهم كل حركة سلمية احتجاجية تعبر عن الرفض الشامل لحكم الشاه، وبقى تحركهم شاملا وسلميا رغم ما لاقوه من عنف الدولة وأجهزة القمع فيها، ولكن الإصرار على الفعل الاجتماعى السلمى المثابر فى شمول ما لبث مع مضى الوقت أن نصل بين قيادة الدولة صاحبة القرار وبين أجهزة التنفيذ والضغط فانحل وثاق الدولة وكان امتناع أجهزة القمع عن إطاعة الأوامر بالضرب هو فى ذاته إنهاء للنظام السياسى. كما كان إضراب المواطنين فى مصر فى 1919 إيذانا بانتهاء نظام للحكم استمر سبعا وثلاثين سنة سابقة منذ 1882 وإيذانا ببداية نظام جديد استمر ثلاثا وثلاثين سنة حتى 1952. إن الفعل السلمى المنتج يستوجب حركة جامعة وشاملة كأوسع ما تكون، أو بعبارة أدق فإنه بقدر سعتها وشمولها بقدر ما تكون منتجة، وبقدر ما تكون أسرع فى الإنتاج وبقدر ما تكون أعمق فى أثرها الطيب المرجو. كما أن هذا الفعل المنتج يستوجب صبرا على الشدائد التى سيواجه بها حتما، لأن الحكم المشخصن لابد أن يستخدم العنف فى البداية، وهو لا يوجه أزماته إلا بالمزيد من التسلط وقلة الحيلة والقمع كما أن هذا الفعل المنتج يقتضى طول النفس، وأن الصبر وطول النفس واستبقاء السلمية فى التعبير رغم تحمل الصعاب أن ذلك يزيد من فاعلية ومن اتساع جامعته ونمو شموله.
وأصعب ما فى هذه المستوجبات هو أولها، لأن نظام الدولة القابضة الذى انبنى فى بلادنا، وما اتصفت به وظائفها من شمولية وتسلط، وما خضعت له
من مركزية شديدة، وما عانت منه فى العقود الأخيرة من فردية وتشخصن، كل ذلك أدى إلى انفراط فى التجمعات الشعبية انفراط لا يظهر لى أنه بلغ هذا المدى البعيد فى أى مرحلة من مراحل تاريخنا الحديث المرئى، إن تجمعات الماضى كالمذاهب والطرق الصوفية ونقابات الحرفيين وتجمعات الطوائف والملل والقبائل، قد انتهت أو أن ما بقى منها صار شكلا بغير محتوى قادر على فعل التجميع المنتج.