مشاهدة النسخة كاملة : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا



hasnaa
07-01-2007, 17:36
قال الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا.

فتبليغ الرسالة للناس كافة هو الغاية التي من أجلها بعث الله رسله للخلق، وحملها وراثة. الدفاع عنها وتبليغها للأمة وللناس كافة غاية جند الله الموعودين بالاستخلاف في الأرض.

في مراحل القومة يحمل الدعوة جند الله، ولا تنتهي مهمتهم الدعوية بقيام الدولة القطرية، إنما تبتدئ مرحلة أوسع.

جند الله هم الأمة في وسط الأمة المأمور في القرآن بتكوينها. وقد حدد الله عز وجل لها أهدافها حيث قال عز من قائل: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" 1. هم جماعة المسلمين. عليهم يدور واجب الأمر والنهي والجمع، جمع شمل الأمة.. فقبل قيام الدولة الإسلامية وبعده، هم الورثة المسؤولون عن الرسالة النبوية وحفظها وتبليغها.

يستحقون هذه الوراثة ويمكن الله لهم في الأرض إن هم طابقوا، وطابقت أعمالهم، وطابق إيمانهم، الوصف الذي وصف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا البلاغ الإلهي : يا أيها النبيء إنا أرسلناك :

شاهدا

ومبشرا ونذيرا

وداعيا إلى الله بإذنه

وسراجا منيرا 1.

1) الشهادة: الحضور المسؤول. فجند الله لا نصيب لهم من كمال السنة الغراء إن لم يغشوا المجتمع كما غشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يفرضوا وجودهم، ويتغلغلوا في الأمة، بالصبر والمثابرة، والحركة النشيطة، والإلحاح، كما فعل. الأمة كم مهمل في تاريخ العالم لأن رجال الدعوة غابوا عن الساحة قرونا طويلة، إما في الدروشة أو الزهادة أو الحوقلة. وشهادة جند الله يجب أن تعم، حتى يتمثلوا حضورا قويا مؤثرا في الواقع المحلي ثم العالمي. قال عمر لأهل الكوفة : لا والله لا تكونوا شهداء في الأرض حتى تأخذوهم في الحق.

شهداء في الأرض. قوة سياسية في مراحل القومة، ثم قوة مهيمنة على الدولة. فيما حولنا من أنظمة نرى الحزب الحاكم تنبثق عنه الحكومة، وهو يوجهها. وفي بلاد الشيوعية يكون الحزب الواحد هو الحكومة والدولة وكل شيء.

فماذا يكون مقام الدعوة تحت الدولة الإسلامية ؟

أتذوب لتبقى الدولة ؟ أم كيف تؤدي واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوجيه السفينة وهي محتفظة بوحدتها واستقلالها عن الحكومة ؟

الحكومة الإسلامية إلهية التشريع لكنها بشرية التطبيق. وكل حكومة بشرية تتعرض للأخطاء والزيغ. فلا بد أن تبقى الدعوة مهيمنة لتقوم وتصلح. لا بد أن تكون هي الحاضرة الشاهدة.

لا بد أن تكون للدعوة مجالسها ومؤسساتها ورجالها.

إلى جانبها مؤسسات وأجهزة ورجال الحكم.

يجب أن لا تغيب الدعوة بقيام الدولة.

يجب إعادة الأمور إلى نصابها ليسير الكائن على رجليه لا على رأسه. فقد كانت الدولة نظاما منبثقا عن الدعوة، فلما فسد الحكم أصبحت الدولة هي كل شيء، والدعوة ورجالها تابعا ثانويا لا إرادة له أو لا تكاد، ولا قدرة له على تغيير الواقع.

في الوضع الإسلامي تكون الدعوة هي التي تتخذ القرارات المصيرية والعامة. وتكون الحكومة جهاز التنفيذ.

عندما يكون الجسم ضعيفا والآلة ضخمة ثقيلة تعود الآلة على صاحبها فتجره إلى مصرعه.

ومهمات الدعوة ثقيلة وضخمة أثناء القومة، لكنها تزداد ثقلا أثناء بناء الدولة وتسيير شؤون الحكم.

فلا تستول المهمات التنفيذية على الدعوة حتى يغيب عنها هدفها الأول. فإن استنفذت مشاكل الحكم طاقات الدعوة، وألزمتها أن تقبل الحلول الوسطى، فقد تودع منها.

2) البشارة والنذارة: الترغيب والترهيب. تعاون بين الدعوة وهي بشارة، ووجه باش، ودعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف، وبين الدولة ولها الحق وعليها الواجب أن تقبض على المنكر من عنقه إن هو لم ينته بوازع القرآن.

رحم الله الإمام عثمان بن عفان ورضي الله عنه قال: يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

قالها بعد أن رأى تردي التربية القرآنية، وظهور خلف (بسكون اللام) قلما يفهمون غير لغة السلطان.

كيف والأمة اليوم وصلت الحضيض في هذا المعنى!

كيف والخوف من القهر البشري هو وازع عامة الناس، لا الخوف من الله تعالى!

في مراحل القومة سلطان جبري يحارب الدعوة.

يد الشر تضرب اليد المبسوطة بالخير.

وبعد القومة، عند البناء وإقامة حكم الله في الأرض، نحتاج لتدرج في الانتقال من غلبة وازع السلطان إلى توازن بين عمل اليد اليمنى يد الدعوة واليد اليسرى التي يجب أن تبقى حديدية.

يد الرحمة والحكمة كيف تتعاونان ؟

هذا سؤال من أهم ما سيطرح على المسلمين وهم في سدة الحكم إن شاء الله تعالى.

3) الدعوة إلى الله بإذنه : بالنسبة لرسل الله عليهم الصلاة والسلام هي بعثة ووحي. وبالنسبة للعلماء بالله جند الله هو الإلهام والتوفيق.

وقلما يتساءل الدعاة عن أسباب فشلهم خارجا عن دائرة الأسباب الحركية.

قلما ينظرون هل هم يرعون الله تعالى ليرعاهم، هل يطيعونه حق الطاعة ليوفقهم، هل طهروا قلوبهم وعقولهم بذكره والقيام على بابه بالدعاء والتضرع ليلهمهم؟

قولوا لي أية تربية تلقيتم يا جند الله، وأية عبودية حققتم لمولاكم، أقل لكم بلسان القرآن أي مصير هنا وهناك ينتظركم، وأية هداية.

قال الله تعالى:" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. وإن الله لمع المحسنين" 1. ما قال : مع الشاطرين.

وقال عز من قائل:"ولينصرن الله من ينصره. إن الله لقوي عزيز" 2.

ما وعد بالنصر من يعتمد على حيلته وينسى أنها قضية الله لا قضيته. إنما وعد من يبذل كل الجهد في التدبير، وإعداد القوة، والإقدام على التنفيذ، ويدخل من باب التضرع إلى الله العزيز، يسأله المدد والقوة والنصر.

تنسينا أنفسنا الأمارة بالسوء أن التوفيق من الله عز وجل، وأن هدايته وإلهامه ونصره هي زادنا الأول والأخير.

في حق الأنبياء والرسل كل هذه المعاني وهب وقدم صدق سبقت لهم بالحسنى.

وفي حقنا اجتهاد وجهاد في ذات الله. وقدم الصدق والسابقة بالحسنى هي على كل حال الموئل والمعاد.

الإنابة إلى الله، وإسلام الأمر إليه، والتعويل عليه، مع إثبات الأسباب، وإعداد القوة، وأخذ الحذر والأسلحة والوسائل على مستوى العصر والمستقبل. تلك هي المعادلة التي تجمع لنا بين لب الأمر وهو الإيمان بالله وبين الجسم وهو التنظيم والحركة.

الدولة بلا دعوة جسم بلا روح.

التنظيم والحركة بلا تربية إيمانية تحزب سياسي ما هو من الإسلام في شيء.

قيادة تنطق بالإسلام والقلب فارغ من حب الله والتوكل عليه تقود القافلة للتيه.

التحليل السياسي والفقه الفكري دون ذكر الله، والخشوع الدائم بين يديه، هذيان على مستوى هذيان العالم. الحركة دون معرفة النفس وأمراضها وعلاجها هوس.

ولا يقدر يغير المنكر من في قلبه منكر النفاق.

ولا يقدر يأمر بالمعروف من لا يعرف الله عز وجل.

تدعو إلى الله في زعمك وأنت لا تعرف الله!

لا تعرف الله وأنت تظن أن تشملك عنايته بالذين دعوا إليه بإذنه!

من ليس على بصيرة، من هو عامه في أوهامه، سادر في غفلاته، محجوب عن الله تعالى، كيف يزعم أنه يدعو إلى الله ؟ كيف والله تعالى وصف دعاة الصدق والحق بالبصيرة حين خاطب حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم:" قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" 1. ؟ وما البصيرة والحجاب؟ ألفاظ! ابك على نفسك!

اقرأ كتاب الفتح الرباني للشيخ عبد القادر الجيلاني لتفهم ما أقول. فقد نصح رحمه الله، وبالغ في النصح، وجهد في إيقاظ الهمم النائمة. اقرأه لعلك تفهم معنى الدعوة إلى الله بإذنه.

4) السراج المنير: بالنسبة لخليل الله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كمال لا يقدره الغافلون عن الله قدره.

وبالنسبة لجند الله هو نصيبك أيها المؤمن من ذلك النور الإيماني الإحساني الذي يودعه الله قلوب أصفياءه من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين. قال الله تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقا" 1 استيقظ واعلم أن المنهاج النبوي هو ذاك الصراط الذي تضع فيه قدميك على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو الصراط المستقيم الذي يلحقك بالذين أنعم الله عليهم، وقص عليك في كتابه نعمته عليهم، وتفضيله إياهم، ونصره دعوتهم. ثم حسن لك رفقتهم.

لا تحسب أن المنهاج النبوي الذي تحدثت لك عنه كل هذه الصفحات الطوال يكون منهاجا نبويا إن هو لم يجمعك على الله تعالى، ولم يستحثك للإقبال عليه عز وجل، ولم يوقظ همتك إليه.

لا تحسب أن مقاومة الظلم والكفر، وإقامة الدولة الإسلامية، تفيدك أنت شخصيا في الدار الآخرة وعند الله تعالى إن لم يكن حبه وطاعته وخدمة دعوته ونصرة قضيته هي فكرك ومعناك، هي غذاءك وشرابك، هي جسمك وروحك، هي حياتك وموتك. وما الأموات من انتقلوا للدار الآخرة. فتلك النقلة حق. وبعد ذلك الموت نشر وبعث وحساب وجنة ونار.

قال الله سبحانه وتعالى:" فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله. أولئك في ضلال مبين 2.

إنما الميت ميت القلب، لا يرجى له حياة هنا ولا هناك نعوذ بالله. قال الله تعالى: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا

3. عمى البصيرة نعوذ بالله. وما أدراك ما حياة القلب، وما البصيرة، إن لم تذكر ربك! مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر الله، مثل الحي والميت حديث رواه البخاري ومسلم بنحوه.

إنما الميت الغافل عن الله المعرض عن ذكره، المنكر أن الله وحده يعز ويذل، يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.

إنما الميت من فاته حظه من الله.

إنما الميت من يأتيه حينه عند حضور ملك الموت، فينظر إلى حياته يجدها بلقعا من الخير، ما عرف لما خلق، وما سعى ليتقرب إلى الله بالفرض والنفل، ولو صلى وصام وقال: إني مسلم.

ابك على نفسك وابحث عن داع إلى الله على بصيرة يأخذك بيدك، يسلكك، يدلك على الله ويعلمك كيف تحبس نفسك على مكارهها، كيف تقتحم العقبة إلى الله تعالى، كيف تصل إليه، كيف تعرفه. قال الله تعالى يحكي وصية لقمان لابنه: "واتبع سبيل من أناب إلي" 1.

إنما الميت من قرأ القرآن وما أفاق من الغفلات. من عبر حياته الدنيا ولم يقف لحظة ليسأل عن الخالق. من قرأ في الكتاب والسنة الدلالة التامة على الله ولم يسمع لوم يتفكر ولم يعقل، ولم يرد وجه الله، ولم يصبر مع الذين يريدون وجهه، ولم يشتق لربه، ولم يحب لقاءه.

فاته أن يتوب فيتاب عليه.

فاته أن يستغفر فيغفر له.

فاته أن يسأل فيعطى. وأفضل ما تسأل فضل الله، ثم رضى الله، ثم وجه الله. فاته أن يكون مع المحسنين.

مع.

ولا تنس أن المعية مع الذين أنعم الله عليه، معية هنا وهناك، هي معنى الصحبة. وقد جعلنا الصحبة شطر الخصلة الأولى والجماعة شطرها الآخر.

فاعرف لم تتحرك الجماعات وأين تتجه، وتأكد أن تحافظ أينما كنت لتكون الوجهة الله، والموعد الله، ولتبقى الوجهة الله، والموعد الله.

لا إله إلا الله محمد رسول الله.



--------------------------------------------------------------------------------

1 آل عمران، 104-105.

1 الأحزاب، 46.

1 العنكبوت، 69.

2 الحج، 40.

1 يوسف، 108.

1 النساء، 69.

2 الزمر، 22.

3 الإسراء، 72.

1 لقمان، 15.
م
ن
ق
و
ل