مشاهدة النسخة كاملة : الفتنة...



amal
30-03-2005, 12:51
عرف الراغب الأصبهاني رحمه الله، وهو إمام هذا الفن، الكلمة كما يلي: "أًصل الفَتْن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار". قال: "وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء. وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا".

هذا هو المعنى الجذري والاصطلاحي القرآني للكلمة: امتحان واختبار وابتلاء في الدنيا للإنسان، وفي الآخرة عرض للكفار على النار، نعوذ بالله.

وقد وردت مادة "فتن" في القرآن ستين مرة، فهي من المفاهيم الأساسية في الدين مثل. إيمان، كفر، تقوى، دنيا، آخرة، سعادة، شقاء، جنة، نار، إلخ. فإن الله عز وجل خلق الموت والحياة والدنيا وعبور الإنسان رخاءها وشدتها ليختبر الإنسان ويبلُوَ الناس أيهم يومن أو يكفر، أيهم يحسن عملا وأيهم يسيء.

فالمفهوم أساسي، إن غفل المسلم والمسلمة عن حكمة الفتنة الابتلائية حصل في حيرة أمام تناقضات الخلق وتحديات الكون بعضه لبعض واختلاف المقاصد واشتباك المصالح. لو شاء ربنا جل وعلا لجعل الدنيا سكونا وانسجاما ودار راحة. لكن حكمته في الفتنة ليظهر في الواقع ما هو كامن في استعداد الفِطر ومكنون القدر. أبْدَى لنا منها ما أبدى، واختص سبحانه بما لا علم لنا به.

الفتنة الابتلائية تتمثل في ابتلاء بعض الناس ببعض، وفي تمتيع الله عز وجل بعض الناس بزينة الحياة الدنيا، وفي قبضه سبحانه عن البعض وامتحانهم بالشدة، وفي عدوان الكافرين على المومنين، وفي نزغات الشياطين، وفي فتنة الحاكم المستكبر للناس، وفي إغراء الماكرين وتخويف المعتدين.

الفتنة الابتلائية شطر فقط من دلالة الكلمة، تكتمل دلالتها إن أضفنا إلى المفهوم القرآني الابتلائي المفهوم السني. فإننا نجد في دواوين الحديث المصنفة "كتاب الفتن" أو "كتاب الملاحم" بصيغة الجمع. في هذه الكتب إخبارات نبوية بما يقع للأمة بعده صلى الله عليه وسلم من مِحن تاريخية، من ثورات وقتال وسفك دماء وفساد حكام وخروج كذابين إلى ظهور الدجال فنزول عيسى عليه السلام بين يدي قيام الساعة.

الفتن التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حوادث عيْنية منها ما كان يسمِّي زمانه ورجاله، ومنها ما أبهمه وعممه.

في معظم ما أنذر به من الفتن أمر صلى الله عليه وسلم السامعين بالكف عن المشاركة في الفتنة، وبكسر القِسِيِّ وإغماد السيوف. وشدد النهي عن سفك الدماء.

فكان سكون الصحابة رضي الله عنهم أمام الفتنة الكبرى ومقتل أمير المومنين عثمان رضي الله عنه، فوثوب بني أمية، وسائر المعارك بعد ذلك يُصغي إلى مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فِتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. من تشرف لها تستشرفه. ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به". رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه وعنهما.

فسر الصحابة رضي الله عنهم هذه التحذيرات بأنها أمر بالكف عن المشاركة في الأمر العام. فإن من هذه الأحاديث ما صرح بذلك. وجاء التابعون رضي الله عنهم ثم أجيال المسلمين من بعدُ فوجدوا سيف الاستيلاء مصلتا على الرؤوس. وجدوا في أحاديث الفتن ما يأمر بطاعة ولي الأمر ولو جارَ، فاستندوا إليها وإلى الاجتهاد في حفظ المصلحة العامة بالسكوت عن غصب حاملي السيف لمشروعية الحكم.

ومع مرور الزمن استكان أهل العلم وعامة مقلديهم إلى الأمر الواقع. فبعد خروج الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما واستشهاده، وبعد قومات آل البيت بعده، زيد بن علي حفيده، ثم محمد النفس الزكية وإبراهيم ويحيى، وبعد غضبة الإمام مالك ومشاركة أبي حنيفة للقائمين، وبعد محنة الإمامين الشافعي وأحمد، لا تكاد تجد إلا أفرادا من العلماء فهموا أحاديث الفتن فهما غير سكوني. من قومة الحسين وزيد ومن بعدهما، ومن إجماع أئمة الفقه الأربعة على قول لا للحاكم، آل الأمر إلى الصبر. وكلمة "الصبر" وردت في أحاديث الفتن مكررة.

هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حذر من الفتن وأوصى بعدم التشَرُّف لها والتعرض ينطق عن حدس مُبهم وشعور غامض؟ كلا، بل الله عز وجل أطلعه على بعض غيبه فرأى في مرآة القدر ما يخبئه القدر. فأشفق ورحِم وأوصى.

من يقرأ قوله تعالى: )عالم الغيب فلا يظهـر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول(.(سورة الجن، الآيتان: 26-27) يعلم أنه صلى الله عليه وسلم أظهره الله على ما هنالك. ومن يقرأ الحديث يجد أنه صلى الله عليه وسلم قام في الصحابة خطيبا فأخبرهم بما يقع منذ زمانه إلى قيام الساعـة. قال الصحابي راوي الحديث: "حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه". روى أحاديث هذه الخطب حذيفة رضي الله عنه وغيره. والأحاديث في الصحيحين.

إنه ما ينطق عن الهوى مَن أخبرنا أنها تكون بعده خلافة على منهاج النبوة ثم ملك عاض فجبري فخلافة بعد ذلك على منهاج النبوة. فلئن كانت أحاديث الفتن والوصية بالكف والسكون وحقن الدماء والرضى بالواقع فسرها المسلمون تنازلا تنازلا إلى أن احتل "دين الانقياد" (على حد تعبير ابن خلدون) الأذهان وشل الحركة، فإن آيات الاقتحام وبشارة الخلافة الثانية توجِّهُ اهتمامنا إلى المستقبل.

بيننا وبين المستقبل الحاضر. فهل ننفصل عن حاضر الأمة، وننعزل عن مجتمع المسلمين، ونكفره، ونصمه بوصمة الجاهلية لنضفي على أنفسنا صفة الإسلام وكأن في قلوبنا شموس الهدى وأنوار التقى وغيرنا ظلام وشرك وبدعة وضلالة وكفر؟

إنها فتنة ابتلائية وفتنة تاريخية هذه المواجهة بين مجتمع المسلمين المليار عددا الغثاءُ غَناءً. فتنة ابتلائية تاريخية هي موقف الإسلاميين أمام مهمتهم التي أنهض الله إليها هممهم، وسخر لإنارة طريقها من شاء من الرواد المجاهدين مثل الإمام حسن البنا والإمام المودودي والإمام سيد قطب رحمهم الله.

فتنة هذا التحدي السافر للجاهلية الهاجمة علينا القتالة السفاكة، أكبر منها وأعتى توطن الجاهلية بين ظَهرانَينا يمثلها الوكلاء والوكيلات الطغاة والشيطانات. دخلت فينا الجاهلية وسكنت بين الضلوع وفي مواقع السلطة وفي الشوارع بمقارعها الطاغوتية، وفلسفة ظن الجاهلية، وفجور تبرج الجاهلية، واشتعال حمية الجاهلية.

فهل أصبح مجتمع المسلمين كافرا جاهليا بوجود طوائف المرتدين والمنافقين والعصاة، أو هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون؟ فتنة وسؤال.

روى الإمامان أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرَهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مُمِيلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة. لا يدخلن الجنة ولا يَجدْن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".

صنفان من أهل النار من يضربون الناس بالمقارع، ومن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى لإمالة الرجال إليهن.

أفَإِن وُجد من بين المسلمين، من حاكم طاغ ومتبرجات ومنافقين، من هم من أهل النار نحكم أن الأمة كلها جاهلية؟

كلا، وإنما نسمي الواقع فتنة والمجتمع مجتمعا فِتنويا. ذلك أدْنَى أن نُبقِي على أنفسنا وعلى الناس، ونَسلَمَ من التشدد الرافض العاجز. بل ونسلَمَ من الجهل بديننا. والجهل بديننا هو الطامة الكبرى.

ديننا وتاريخ إقامته، وحديث النبي وصحابته، وسيرة الانتقال الأول على عهد التنزيل من جاهلية لإسلام، تُنبئُنا أن الإسلام ما كان يوما بقعة منعزلة فيها ملائكة أطهار تقابلها بقعة أخرى منعزلة تعيش فيها الشياطين الكفار. نعم، من دخل حوزة لا إله إلا الله معترفا شاهدا بوحدانيته، مصدقا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مومنا برسالته، فقد دخل الإسلام وخرج من الكفر.

لكن هل سلم ضَرْبَةَ لاَزِب من بقايا الجاهلية ورُسوباتها، وهل طَهُر المجتمع الإسلامي الأول من كل دخائل الجاهلية حتى ننتظر من مجتمع اليوم وغد أن يدلي ببراءة ملائكية وإلا فهو كفر وجاهلية وبدعة وضلالة؟

في الحديث النبوي يخبرنا البَراء بن معرور قال: "لقيت أبا ذر بالرَّبَذَة (مكان) وعليه حلة وعلى غلامه حلة. فسألته عن ذلك فقال. إني سابَبْت رجلا فعيرته بأمه. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر! أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية. إخوانكم خَوَلكُم، جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبِسْه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلِبُهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم". رواه الشيخان وغيرهما. أدرجـه البخاري تحت عنوان: "باب المعاصي من أمر الجاهلية".

نمسك عن السؤال عن ماهية الجاهلية التي بقيت في أبي ذر رضي الله عنه. وننظر في تأدبه بالتأديب النبوي والتأنيب، وفي إلباسه الغلام مما يلبس.

وننظر في عموم الأمة وبقاء الرسوبات الجاهلية فيها من خلال قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري: "أربعٌ فى أمتي من الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". الحديث.

إن المتأمل في هذا الحديث، المصدق بقائله صلى الله عليه وسلم، لا يروعُه ما يشاهد من عصيان العاصي، وظلم الظالم، وتبرج المرأة، وفُشُوُّ البدع. بل يستند من هذا الحديث وأمثاله إلى ركن الاطمئنان والتيسير. مع البصيرة الجهادية التغييرية. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. :)

anass
30-03-2005, 13:13
جزاك الله كل خير أختي

hassan_1677
05-04-2005, 15:57
الفتنة اختلاط الحق بالباطل

المختار
05-04-2005, 17:14
جزاك الله اختي الفاضلة مشاركة قيمة جعلها الله في الميزان المقبول