مشاهدة النسخة كاملة : ما الذي جعلنا غثاء كغثاء السيل؟



anass
08-04-2005, 19:20
ما الذي جعلنا غثاء كغثاء السيل؟

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعد، فيا عباد الله:

روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والطبراني في معجمه، والحاكم في مستدركه، من حديث ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) قال قائل: أمن قلة يومئذ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن)). قال قائل: ما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((محبة الدنيا وكراهية الموت)).

أيها الإخوة! الغثاء من السيل هي تلك الفقاقيق والأقذار التي تعلو وتربو على السيل إذ ينهمر على الوادي، والغثاء هو أقذر ما في السيل، وقد أنبأنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المسلمين سيؤولون إلى هذه الحالة، وسيكونون من تاريخهم الأغر كالغثاء من السيل. فما الذي جعلهم غثاء وقد كانوا في أعين العالم، وفي سمع التاريخ مضرب المثل في العلو ورفعة الشأن؟

هم الذين حكموا على أنفسهم بأن يتحولوا إلى هذا الغثاء الذي أنبأ عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما كان الله عز وجل ليظلم ارتفعت بجهادها وأخلاقها إلى الشأو الباسق، ما كان الله ليظلمها ويتركها تنحط إلى الدون في وقت من الأوقات أو في عهد من العهود، ولكن هذه الأمة هي التي حكمت على نفسها بأن تعود فتصبح من العالم الذي تعيش فيه كالغثاء من السيل ((بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)).

كيف حكمت هذه الأمة على نفسها بأن تصبح غثاء بهذا الشكل؟ قال الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، ذكرها وأمرها بأن تكون {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} [المائدة: 5/54] فقال قائلهم: إن بلسان الحال أو بلسان القول: بل سنكون أعزة على المؤمنين، أذلة خاضعين للكافرين، قال الله سبحانه لعباده المؤمنين: {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 8/46] قال قائلهم: بل سنتنازع، سنتنازع على الفتات، سنتنازع على الدون والتافه من المال، ولسوف ندع المكارم التي ورثنا كابراً عن كابر من السلف، لسوف نلقي هذه المكارم وراءنا ظهرياً. ولئن كان الاستشهاد بالشعر - أيها الإخوة - في مثل هذا الموقف خلاف الأولى فيما ذكره بعض الفقهاء، فإن الموقف ليقضي أن أقول: إن هذا الواقع جسّد في هذه الأمة قول الشاعر:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

قال الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، ناصحاً، موصياً، أمراً، ناهياً: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} [مريم: 19/59] هذا هو قرارنا، قرارنا أن نلقي الصلاة التي أمرنا بها وراعنا ظهرياً، الصلاة التي قال الله عز وجل عنها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 20/14] لكي تذكرني دائماً، ولكي لا تحجب عني بفكرك، بخيالك وتقلباتك. جاء القرار: بل سنلقي هذه الصلاة التي أمرنا بها وراءنا ظهرياً، وإذا اقتضى الأمر فلسوف ننهى عنها أيضاً في كثير من الأماكن والمناسبات والثغرات.

قال الله سبحانه وتعالى لعباده هؤلاء: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل ‌عمران: 3/103] قال قائلهم، إن بلسان القال أو بلسان الحال: لقد مللنا هذا الحبل الذ طال تمسكنا به، ومللنا هذا النهج الذي طال التزامنا به، وتبرمنا بهذا الاستمساك. إننا نبحث عن الحداثة، نبحث عن الجديد، لا لن نعتصم بهذا الحبل، سنستبدل به غيره وهكذا.

أمر الله سبحانه وتعالى هذه الأمة؛ كلما نزلت بها ضائقة أن تلتجئ إلى الله بالتضرع والتذلل والانكسار، وذكرهم وكرر وأكد فقال: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 7/94] قال قائلهم، إن بلسان الحال او بلسان المقال: لا لن نتضرع، سنترك رؤوسنا عالية مشمخرة، سوف نعرض عن هذه العبودية التي تسومنا الذل والمهانة، سنعرض عن هذه العبودية، لن نعرض عنها لمشرق ولمغرب، لن تعرض عنها لقادة، لن نعرض عنها لعدو يتهددنا، وإنما سنعرض عنها لقيوم السماوات والأرض، سنعرض عن التضرع لهذا الإله الذي يدعونا إلى أن نلتجئ إليه، وأن نفر إلى نفسنا إليه.

هذا هو القرار التي اتخذته هذه الأمة اليوم، والتي بناء عليه ارتضت لنفسها أن تتحول - كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى ((غثاء)) - ما كان الله عز وجل يظلم أمة قط، ذلك هو قرار المسلمين اليوم، إنْ بملاء أفواههم، أو بقرار قناعاتهم، قرارهم أن يخالفوا أمر الله عز وجل في كل ما أوصى به، وأن يرتكبوا تلك المحاذير كلها التي حذر منها ونهى الله عز وجل عنها، فهل هنالك من مسؤولية تقع إلا على كاهل هذه الأمة التي ارتضت لنفسها أن تكون مضرب المثل في المهانة، مضرب المثل في الذل؟ هل هنالك من مسؤول يتحمل هذه الجريرة إلا هذه الأمة نفسها، عندما ارتضت أن تكون أقذر ما في السيل الرابي الذي ينهمر من الوادي، الغثاء، غثاء السيل، تلك الفقاقيع التي تطفو على وجه السيل، ومعها الأقذار المختلفة المتنوعة.

أقول هذا الكلام أيها الإخوة حتى لا يعتب عاتب منا على قضاء الله، أقول هذا الكلام أيها الإخوة حتى لا يتساءل أحد منا وهو يفتح عيينه بعد إغماض، ويحدق بها ذات اليمين وذات الشمال: أين هي الأمة الإسلامية التي هي مضرب المثل في علو الشأن؟ أين هي تلك الأمة العربية الإسلامية التي كانت مضرب المثل في العزة، كانت مضرب المثل في الوحدة، كانت مضرب المثل في الإنسانية والعرش؟ لا يقولن قائل، لا يبحثن عن ذلك المصير التاريخي الذي آل إلى وهم، ويلتفت يمينً وشمالاً، نحن، الذين دفنا هذه المزايا كلها في قبر من الضعة والهوان، نحن الذين دفنا هذه المزايا التي توج الله عز وجل رؤسنا بها دفناها فيما ارتضيناه لأنفسنا من التبعية المهنية، من الذل، من الإعراض عن كل ما قد أوصى به الله سبحانه وتعالى.

وعدنا الله عز وجل إن نحن التزمنا أمره، وانتهينا عن نواهيه، أن يحيينا حياة طيبة فقال: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} [النحل: 16/97] ووعد كل من يتقلبون في أودية المهانة ممن التجؤوا إلى تنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى، أن يمنّ عليهم {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} [القصص: 28/5] ولكن ها أنتم ترون كيف أنه خلف بعد ذلك الرعيل الأول، بل الذي جاء من بعدهم أيضاً، والذي جاء من بعدهم أيضاً، ها أنتم ترون كيف خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وأعرضوا عن وصايا الله وأوامره، وتعمدوا أن يسلكوا نقيض ما قد أمر الله سبحانه وتعالى به، فهل هنالك ظلم إن قال الله عز وجل عنهم: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 19/59] هذا هو قرار الله سبحانه وتعالى. مجموعة من الناس كثروا أو قلوا، وهم كثير في العدد كما تعرفون، ولكن هذه المجموعة متناثرة بين سمع الدنيا وبصرها، متناثرة تتقلب في حمأة ذل ما مثله ذل، تتقلب في حمأة مهانة ما مثلها مهانة.

والعجب - أيها الإخوة - أن الذي يسام الذل يتأوه عادة، والذي يسام المهانة يتأوه من المهانة عادة. أما أمتنا هذه فقد آل الأمر بها إلى أن تنتشيء بالذل، وأن تضرب بالمهانة، وأن تدغدغها العصي الذي تنهمر على ظهرها وعلى كواهلها. هذه هي الأعجوبة التي آل إليها أمر هذه الأمة.

أقول هذا - أيها الإخوة - مرة أخرى كي لا يعتب عاتب منكم على القضاء فيقول: ألسنا مسلمين؟ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ لعلكم عرفتم الجواب الآن: نحن مسلمون ولكننا مسلمون بالانتماء، مسلمون بالشارة، ولعل الذي يضعون الشارة على صدورهم يعتزون بها أكثر مما يعتز كثير من المسلمين بإسلامهم اليوم، نعم، ولقد سألت زينب رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: أنهلك وفينا الصالحون، قال: ((نعم إذ كثر الخبث)). لا تنظروا إلى القلة من الصالحين الذين يتأوهون مما أصابهم، ولكن انظروا إلى الكثرة، انظروا إلى الخبث الطافي، انظروا والتفتوا يميناً وشمالاً إلى الأعداء والكثيرة الكبيرة التي تنتمي بالشكل إلى الإسلام؛ ولكنها والله ليست من الإسلام في شيء، اللهم إلا القلة التي سيرحمها الله عز وجل يوم القيامة، أقول يوم القيامة، أما في دار الدنيا فلا أستطيع أن أجزم بشيء لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم استهلكون وفيكم الصالحون إذا كثر الخبث)).

هذا الكلام الذي أقوله ليت شعري هل يبلغ سمع هؤلاء الذين صدق عليهم قول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} [مريم: 19/59] هل سيقرع هذا الكلام أذن التائهين الذين حكموا على أنفسهم بأن يتحولوا إلى غثاء سيل؟ ترى لو سمعوا هذا الكلام، أليست هنالك بقية من الفطرة الإيمانية؟ ليست هنالك قطرات من دم الكرامة تهتاج وتتحرك بين جوانحهم ليعودوا فيستيقظوا ويقولوا: اللهم لبيك وإليك؟ ترى لو أتيح لهم أو لبعضهم أن يسمعوا هذا الكلام ألا يتأتى منهم أن ينهضوا نهضة كنهضة الصريع عندما يستيقظ من غفلته وغشيته؛ ليتجه إلى الله، وليفر من حاله إلى الله سبحانه وتعالى.

مفتاح واحد - أيها الإخوة - يملكه كل واحد منكم، إن أدرناه على وجهه المطلوب تبدل ذلنا عزاً، وتبدلت مصائبنا رحمة ونعماء، هذا المفتاح يتمثل في شيء واحد هو صدق الالتجاء إلى الله، صدق التضرع على باب الله عز وجل. ومرة أخرى أقول كما قلت قبل اليوم: أما أنتم فتضرعون، وربما تلتجئون وتبكون، ولكن أين هم قساة القلوب؟ أين هم أولئك الذين يتطوحون في الليل سكارى بين نعمانهم وبين مشاغلهم وما ينسيهم ويلهيهم عن الله سبحانه وتعالى؟ أين من الالتجاء إلى الله قادة الأمة؟ أين من الالتجاء إلى الله قائد كمحمد الفاتح يضجر رأسه بالتراب، ليس بالتراب وبين جبينه فارق قط، يبكي ويستنزل الرضا عن عند الله، ليستنزل النص على أعقاب ذلك من عند الله، أين قائد في هذه الأمة يطرق باب الله سبحانه وتعالى بيد من العبودية المرتجفة؟ لا يكفي أيها الإخوة، لا يكفي أن تعج المساجد بالساجدين والركع، لا يكفي أن تعج المساجد بمن يرفعون أكفهم إلى سماء الرحمة الإلهية، نحن ننتظر من قادة هذه الأمة أن يؤوبوا إلى الله، أن يعودوا إلى الله سبحانه وتعالى، أن يقولوا: اللهم إننا نعلم أننا أسأنا: إلى أنفسنا، وأننا ارتكبنا ما ارتكبناه من الآثام، وها نحن نعود إليك آيبين تائبين، حزانى عابدين.

بيننا وبين النصر القريب أن ندير هذا المفتاح.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.