مشاهدة النسخة كاملة : كتاب بلوغ المأمول بالاحتفاء والاحتفال بمولد الرسول



خويدمكم
13-04-2005, 16:09
مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله موفق المتقين لشكر النعمة ، والصلاة والسلام على من أرسله الله للعالمين رحمة ، وعلى آله وأصحابه الهداة، وعلى سائر من اقتفى أثره واهتدى بهداه.
وبعد:
فلا يشك عاقل صادقُ الحبِّ بأن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو الاحتفاء به، والاحتفاء به صلى الله عليه وسلم أمر مقطوع بمشروعيته، لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولى، فقد علم الله سبحانه وتعالى قدر نبيه، فعرَّف الوجود بأسره باسمه وبمبعثه وبمقامه وبمكانته ، فالكون كله في سرور دائم وفرح مطلق بنور الله وفرجه ونعمته على العالمين وحجته، فالقرآن الكريم يصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً بليغاً ويثني عليه إجمالاً وتفصيلاً كما ذكر الإمام أبو سعيد الخركوشي في شرف المصطفى.
فَـمَدَحه في قلبه فقال: نــزَّله على قلبك [البقرة97]. وقال: لنثبّت به فؤادك [الفرقان32]. وقال كذلك: ماكذب الفؤاد مارأى [النجم 11].
ومدحه في خُلقه فقال: وإنك لعلى خُلقٍ عظيم [القلم4].
وذكر وجهه فقال: قد نرى تقلب وجهك [البقرة144].
وذكر بصره فقال: مازاغ البصر وماطغى [النجم17].
وذكر صدره فقال: فلا يكن في صدرك حرج منه [الأعراف 2].
وذكر عمره فقال :لَعَمْرُُكَ إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر72].
وذكر عينيه صلى الله عليه وسلم فقال: ولا تمدنَّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا [طه131].
وذكر اسمه صلى الله عليه وسلم فقال:والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّل على محمد وهو الحق من ربهم [محمد2]. وقال تعالى:ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله [الأحزاب4].وقال كذلك:وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [ آل عمران144]
وقال: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم [الفتح29].
وذكر بلده صلى الله عليه وسلم فقال:لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد [البلد1ــ2].
وذكر نساءه صلى الله عليه وسلم فقال:يانساء النبي لستن كأحد من النساء [الأحزاب 32].
وقال: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [الأحزاب6].
وذكر نطقه صلى الله عليه وسلم فقال : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم3].
وذكر صوته صلى الله عليه وسلم فقال: لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول [الحجرات2].
وذكر عصمته صلى الله عليه وسلم فقال: والله يعصمك من الناس [المائدة 67].
وذكر طاعته صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء 80].
وتجلى عليه بـقوله: ورفعنا لك ذكرك [الشرح:4].
وقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي (32/5) عند قوله تعالى : ورفعنا لك ذكرك:
واعلم أنه عام في كل ماذكروه من النبوة، وشهرته في الأرض و السموات ، اسمه مكتوب على العرش، وأنه يذكر معه في الشهادة و التشهد، وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة، وأنه صلى الله عليه وسلم ينتشر ذِكره في الآفاق، وأنه ختمت به النبوة، وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل، وعند الختم، وجعل ذكره في القرآن مقروناً بذكره واللهُ ورسوله أحقُّ أن يرضوه [التوبة 62]، ومن يطع الله ورسوله [النساء 13]، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [النساء 59]، ويناديه باسم الرسول والنبي، حين ينادي غيره بالاسم: ياموسى ياعيسى، وأيضا جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى: سيجعل لهم الرحمن ودَّا [مريم: 96] كأنه تعالى يقول: أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك . بل مامن فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم يمتثلون في الفريضة أمري، وفي السنة أمرك، وجعلت طاعتك طاعتي،وبيعتك بيعتي من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء80].إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله [الفتح10]. لا تأنف السلاطين من اتباعك، بل لا جرأة لأجهل الملوك أن ينصب خليفة من غير قبيلتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك، والوعاظ يبلغون وعظك، بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك، ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى يوم القيامة.اهـ.
وزاد الخازن في تفسيره (4/417) فقال: »رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله«. اهـ.
وذكر ذلك أيضا ابن الجوزي الحنبلي في زاد المسير (9/164) وزاد : ورفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء. اهـ.
وقد ذكر مثل ذلك الإمام الشوكاني وزاد في تفسيره فتح القدير (5/462): »وبالجملة فقد ملأ ذكرهُ الجليل السمواتِ والأرضَ، وجعل الله له من لسان الصدق، والذكر الحسن، والثناء الصالح مالم يجعله لأحد من عباده ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الحديد:21].
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله عدد ماصلى عليه المصلون بكل لسان في كل زمان، وما أحسن قول حسان رضي الله عنه:
أغـر عليـه للنبـوة خاتـــم
من الله مشهور يلوح ويشــهد
وضم الإله اسم النبي مع اسـمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشـق له من اسـمه ليجلــه
فـذو العرش محمود وهذا محمد
اهـ . الشوكاني رحمه الله تعالى.
* * *



فالاحتفال بالمولد النبوي الشريف عمل فيه إظهار الفرح والسرور والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وماكان كذلك فهو مما يندب إليه الشارع ويحبذه، فهذا ليس بمنكر ولا باطل، بل معروف من مقاصد الشريعة المحكمة، لذا اشترط العلماء في قراءة المولد أن يكون من عالم أو طالب علم، وأن يكون محاطاً بالسكينة والوقار، وأن لا يختلط فيه الرجال بالنساء، وأن لا تصحبه آلات الطرب باستثناء (الدف) على بعض الأقوال.
فلا يجوز الاحتفاء بمولد سيد الإنسانية إلا بالشروط المذكورة، كما لا يصح منع الاحتفال باستعمال قاعدة سد الذرائع، لأن قاعدة سد الذرائع يعمل بها إذا كانت لا تغيّب أصلاً أجمع عليه الناس، ولا تفوت مصلحة ضرورية على المسلمين، نظراً لإمكان منع المفاسد.
مثال ذلك غرس العنب والتمر والحنطة التي يصنع منها الخمر، فهل نمنع غرسها نظراً لذلك؟! هذا لا يقول به عاقل.
وكذلك لا نمنع مجلساً يذكر فيه الله ورسوله وسير الصالحين، ذلك المجلس الذي ترق فيه القلوب وتتعلق بقائدها ومنقذها سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم ، ذلك التعلق دافع لتثبيت الإيمان وبلوغ درجة الإحسان، الذي هو البر في أرقى صوره بدليل الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب الحاضر.
(إن الصدق ليهدي إلى البر وإن البر ليهدي إلى الجنة« والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي رأس البر التي ترفع المؤمن إلى أعلى درجات الإيمان، فلا يجوز إذاً منع هذا الاحتفال لتخلله بعض المخالفات الشرعية في بعض الأقطار الإسلامية، بل تمنع تلك المفاسد، وتُنقى تلك الاجتماعات من تلك الشوائب، حتى يعم الخير والنور.
وقد دعاني ذلك كله لتأليف رسالة في هذا الموضوع سميتها: »بلوغ المأمول في الاحتفاء والاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ).
وقد سبقني أئمة كبار في هذا الميدان أخص منهم سيدي وأستاذي العالم العلامة الدكتور محمد بن علوي المالكي الحسني، الذي كتب رسالة موجزة في هذا الباب، جامعة مانعة لما أثير حول المولد من الارتياب، ولا يحق لي أن أخط بقلمي بعد قلمه، ولكن بعد الاستخارة والاستشارة وإذنِه حبََّرت باليراع ما أفاض الله به عليَّ معتمداً على من سبقني في ذلك بعد اعتمادي عليه سبحانه وتعالى.



تمهيــد
وقبل الدخول في تفاصيل الأدلة الواردة في تعظيم هذه الذكرى العزيزة يحسن بنا أن نذكر معنى المولد، والمقصود من تعظيمه، وفوائد ذلك كله فأقول :
المولد معناه اللغوي : وقت الولادة أو مكانها. وأما في اصطلاح الأئمة فهو: اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم ورواية الأخبار الواردة في ولادة نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء ومدحهم بأفعالهم وأقوالهم(1).
فالمقصود من الاحتفال بالمولد هو تعظيم الأنبياء والأولياء والصلحاء مصداقاً لقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32].

ولاشك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أعظم شعائر الله قطعاً وأجلها قدراً، ويتأكد ذلك عند مولد نبينا صلى الله عليه وسلم حيث ورد تعظيمه في الكتاب الكريم وفي السنة المطهرة .
هذا وللمولد النبوي فوائد كثيرة، منها: أن الاحتفال به يشتمل على ذكر مولده الكريم، ومعجزاته، وسيرته، والتعريف به صلى الله عليه وسلم .
هذا بالإضافة إلى اجتماع الناس على تلاوة القرآن الكريم وقراءة الأحاديث والسير وإطعام الفقراء والمساكين.
ومن فوائد الاحتفال بالمولد النبوي أيضاً إحياء ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ، فقد قال الحافظ السيوطي رحمه الله في الحاوي للفتاوي 251/1: »إن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات...هو من البدع الحسنة(2) التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.
وقال الإمام شهاب الدين المعروف بأبي شامة الشافعي رحمه الله في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث ص23: »ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق من مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك ــ مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء ــ مشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكراً لله تعالى على ما مَنَّ به من إيجاد رسوله، الذي أرسله رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم«.
ويتساءل المسلم هل عمل المولد عبادة، أم هو عادة، والصحيح أنه ليس بعبادة بالمعنى المتبادر ولا عادة بل هو سعادة، واستجابة لأمر الله في وجوب توقيره وتعزيره صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلاً، وهذا هو الدين كله، ومظهر من مظاهر التعظيم لشعائر الله لقوله تعالى: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب. ولا يصح بحال الخلط بين الأوراق والتلبيس على العامة بين المعاني المتداخلة، فالعبادة معنى، والشعيرة معنى.
تعريف العبادة: لغة واصطلاحاً:
أ ـ التعريف اللغوي: قال ابن سيده في المخصص (4/96): »أصل العبادة في اللغة هي التذليل، من قولهم: طريق معبَّد، أي مذلل بكثرة الوطء عليه. والعبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني، يقال: تعبَّد فلان لفلان: إذا تذلل له، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم، كالحياة والفهم والسمع والبصر، فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله«.
ب ـ التعريف الاصطلاحي:
قال العلامة الشيخ سلامة العزامي القضاعي الشافعي المتوفى سنة 1356 هـ في كتابه (البراهين الساطعة)، ونقله عنه علامة مكة المكرمة الشيخ محمد العربي التباني المالكي المتوفى سنة 1390هـ، في كتابه (براءة الأشعريين): »معنى العبادة شرعاً هو الإتيان بأقصى الخضوع، قلباً وقالباً، فهي إذاً نوعان: قلبية وقالبية.
فالقلبية : هي اعتقاد الربوبية أو خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع أو الضر ونفوذ المشيئة لا محالة لمن اعتقد فيه ذلك.
والقالبية: هي الإتيان بأنواع الخضوع الظاهرة من قيام وركوع وسجود وغيرها، مع ذلك الاعتقاد القلبي، فإن أتى بواحد منها بدون ذلك الاعتقاد لم يكن ذلك الخضوع عبادة شرعاً ولو كان سجوداً، وإنما قال العلماء بكفر من سجد للصنم؛ لأنه أمارة على ذلك الاعتقاد، لا لأنه كفر من حيث ذاته؛ إذ لو كان لذاته كفراً لما حلَّ في شريعة قط، فإنه حينئذٍ يكون من الفحشاء، والله لا يأمر بالفحشاء.
وقد كان السجود لغير الله عزَّ وجل على وجه التحية والتكريم مشروعاً في الشرائع السابقة، وإنما حُرِّم في هذه الشريعة، فمن فعله لأحد تحية وإعظاماً من غير أن يعتقد فيه ربوبية كان آثماً بذلك السجود، ولا يكون به كافراً إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له، ويرشدك إلى ذلك قوله عزَّ وجل في يعقوب نبي الله وامرأته وبنيه حين دخلوا على يوسف وخروا له سجداً، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2 / 492).: أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلاً... وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام فحُرِّم هذا في هذه الملة«. اهـ.
وبهذا التعريف قد اجتمعت لدينا ثلاثة قيود:
1 ـ اعتقاد انفراد المعبود بحق بالتأثير والتدبير المطلق (بذاته) في كل شيء.
2 ـ اعتقاد انفراد المعبود باستحقاق الخضوع له وحده.
3 ـ كون ذلك العمل من أعمال الإرادة الاختيارية، ليتقرب بها العبد إلى الله تعالى، مصحوباً بالتذلل والخضوع والانكسار لما أذن الله به.
ويشتمل ذلك على الآتي:
1ـ ما كانت الاستجابة فيه لأمر فرضاً كان أو مستحباً.
2ـ أو الامتناع عما كان النهي عنه تحريماً أو كراهة.
3ـ أو مباحاً انقلب بنية إلى مطلوب أو محظور.
4ـ أو دلَّ الدليل على تعظيمه من الشارع، وهذا الأخير لا تتحقق فيه صفة العبادة، بملاحظة قصد الشارع من التعظيم لذاته، وإنما العبادة تأتي من جهة وجوب ارتباط التعظيم من العبد لما عظم الخالق. فإذا أشار الدليل إلى منزلة معتبرة ومعظمة عند الشارع لمكان، أو فعل فيه، أو زمان، أو ذات، طلب من العبد أن يلتزم بما التزم الشرع به من هذا التعظيم، فكان عبادة بهذا المعنى.
وقد تكون العبادة فرضاً كالصلوات الخمس، وقد تكون سنة كصيام يوم الخميس، وقد تكون أمراً مباحاً ولكن تصبح طاعة بنية القربى إلى الله تعالى. كالأكل والشرب بنية امتثال قوله تعالى: كلوا واشربوا.
شعائر الله:
1) الشعائر جمع شعيرة وهي تطلق على مناسك الحج، كالطواف والسعي.
2) وتطلق على الأماكن التي تكون عندها العبادة كالمشعر الحرام.
فالعبادة إذاً في الإسلام: هي مطلق الطاعة والخضوع لله تعالى في تنفيذ ما شرع فرضاً كان أو نفلاً أو مباحاً بنية القربة ضمن الأصول والقيود الشرعية المتقدمة.
3) وتطلق الشعيرة أيضاً على كل معلم من معالم الإسلام، عبادة كانت أو مكاناً أو شخصاً فكل معلم من معالم الإسلام شعيرة، ومن هنا يتضح الفرق بين الشعيرة والعبادة.
فالشعيرة أعم والعبادة أخص فكل عبادة شعيرة، وليس كل شعيرة عبادة.
فالشارع أمرنا بتعظيم البيت الحرام وبناء المساجد وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره ولم يأمرنا بعبادة الكعبة ولا بعبادة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعبادة المساجد ولا بعبادة الصحابة والصالحين من عباد الله مع أن توقيرهم واجب واحتقارهم كفر لأنهم يمثلون الدين.
وكذلك طباعة المصحف والتذلل للأبوين والمؤمنين تعد من شعائر الله وليس ذلك عبادة لتلك الشعائر.
فالمولد النبوي بهذا المقتضى يعتبر شعيرة من شعائر الدين، بل هو الدين لأنه يحكي سيرة الأمينصلى الله عليه وسلم فالقرآن الكريم هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل دستور الإسلام وقد مثله رسول اللهصلى الله عليه وسلم أجل تمثيل في ذاته وفي حياته، وفي مجتمعه، فحينما نحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحتفي بالقرآن الذي يحمل قيم وأخلاق الإسلام العظيمة، ففي تفسير الإمام الفخر الرازي (23 / 32) ما نصّه: »والأصل في الشعائر الأعلام التي بها يعرف الشيء ويكون وسيلة إلى رحمة الله تعالى، فتعظيم شعائر الله تعالى أن يعتقد أن طاعة الله تعالى في التقرب بها، فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب«.اهـ.
فمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة لما يحتوي عليه الاحتفاء من تعريف الأمة بقدر هذا النبي صلى الله عليه وسلم من خلال شمائله وسرد سيرته نثراً أو شعراً وغرس محبته وإجلاله في قلوب المسلمين، والدعوة إلى التأسي والاقتداء به.
فبهذا يعتبر مظهراً من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره، ووسيلة مشروعة، لبلوغ محبة الله عز وجل قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله... وقوله صلى الله عليه وسلم : »لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين«
فلا يكون الاتباع إلا بمعرفة، ولا تكون المعرفة إلا بالذكر والتذكير والتعريف والبيان بأي وسيلة عرفها الإنسان بحسب مقتضى كل عصر ومجتمع. وليس في الشريعة ما يمنع من الاستفادة من وسائل التعريف والبيان المستجدة في كل عصر ومصر بحيث لا يصطدم بحكم أو نص شرعي مقرر وقد جاءت القاعدة الأصولية في هذا البيان أن »الوسائل لها حكم المقاصد« إذا كان المقصد شرعياً، فلا مدخل للابتداع في مثل ذلك، كما يثيره المخالف، علماً بأن المولد النبوي الشريف يستمد مشروعيته من الأدلة العامة قبل الخاصة، فأما الخاصة فسترد خلال هذه الرسالة، وأما العامة فقد ثبت المولد بدليلين من القرآن الكريم لا يماري فيها إلا مكابر.
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ومن المعلوم أن ذكر الله عبادة، تفردت بعدم التقييد والتخصيص بوقت معين، بل إن صفتها الإطلاق، فيجوز للمؤمن أن يلتزم بها حسب نشاطه، في في أي وقت شاء، وبدون تحديد عدد، أو صفة معينة، ويدلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: »من قال لا إله إلا لله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك«.
وهذا الأمر نحاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان، في ذكرهم لله، وصلاتهم على رسوله صلى الله عليه وسلم:
اختيار الوقت: ثبت بأسانيد صحيحة وكثيرة أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه خصص عشية يوم الخميس ليحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي شيبة في المصنف (565/8)، والحاكم في المستدرك (111/1 و314/3) و الطبراني في المعجم الكبير (123/9) وغيرهم بأسانيد متعددة.
اختيار الصيغة: عن سلامة الكندي قال: كان سيدنا علي رضي الله عنه يُعَلِّم الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: »اللهم داحي المدحوات، وبارئ المسموكات، وجبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها، اجعل شرائف صلاتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما أغلق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ لجيشات الأباطيل، كما حُمِّل فاضطلع بأمرك بطاعتك، مستوفزاً في مرضاتك، بغير نكل عن قدم، ولا وهن في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبساً لقابس، آلاء الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم، وأنهج موضحات الأعلام، ونائرات الإسلام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة، اللهم افسح له مفسحاً في عدنك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك، مهنئات له غير مكدرات من فوز ثوابك المحلول وجزيل عطائك المعلول، اللهم اعلِ على بناء البنائين (الناس) بناءه، وأكرم مثواه لديك ونزله، وأتم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة ومرضيّ المقالة، ذا منطق عدل وخطة فصل وحجة وبرهان عظيمصلى الله عليه وسلم«.
أخرجه الطبراني في الأوسط (36/10)، (وكما في معجم البحرين للهيثمي 27/8)، وابن أبي عاصم في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ص26 برقم (23).
وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور والطبري في مسند طلحة، وأبو جعفر أحمد بن سنان القطان في مسنده وعنه يعقوب بن شيبة في أخبار علي، وابن فارس وابن بشكوال هكذا موقوفاً. (كما في القول البديع للسخاوي ص53-54 والنص المذكور منه).
وله طريق آخر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6 / 66 رقم 29520 ط الحوت)، وزاد في آخره: » اللهم اجعلنا سامعين مطيعين، وأولياء مخلصين، ورفقاء مصاحبين، اللهم بلغه منا السلام واردد علينا منه السلام«. فيحسن الحديث بهذين الطريقين.
وقال ابن كثير: هذا مشهور من كلام علي (نقله السخاوي أيضاً في القول البديع، ومنه أخذنا ضبط ما في حديث عليّ من مشكل ص105).
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد: »التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته« قال ابن عمر: زدت فيها: (وبركاته)، (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله) قال ابن عمر: زدتُ فيها: (وحده لا شريك له) وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رواه أبو داود في سننه (971) بإسناد صحيح.
اختيار العدد: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »»من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك«. رواه مسلم في صحيحه (17/17 بشرح النووي)، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: هذا فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مئة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المئة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نهى عن اعتدائها ومجاوزة أعدادها وأن زيادتها لا فضل لها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة. انتهى.
وفي رواية للحديث عند أحمد في المسند 185/2 والطبراني في كتاب الدعاء 949/2 عن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مئتي مرة في يوم، لم يسبقه أحد كان قبله، ولا يدركه أحد بعده إلا بأفضل من عمله«.
قال الهيثمي في المجمع 86/10: ورجال أحمد ثقات وفي رجال الطبراني من لم أعرفه.
وكان لأبي هريرة رضي الله عنه خيط فيه ألفا عقدة، لا ينام حتى يسبح به، رواه أبو نعيم في الحلية 383/1 .
وقال أبو هريرة: إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم اثني عشر ألف مرة. رواه أبو نعيم في الحلية 383/1 وابن سعد (كما في الإصابة 209/4)، وإسناده صحيح، وصححه الحافظ في الإصابة.
قال عبدالله ابن الإمام أحمد بن حنبل: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته فكان يصلي كل يوم وليلة مئة وخمسين ركعة. (سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي 212/11).
وهذا الإمام المحدث العارف بالله الولي الحجة أبو عمر المقدسي الحنبلي (ت607هـ) كان يصلي كل ليلة جمعة بين العشاءين صلاة التسابيح أربع ركعات ويطيل فيها، وكان يصلي يوم الجمعة ـ قبل صلاة الجمعة ـ ركعتين، كل ركعة يقرأ فيها »قل هو الله أحد« خمسين مرة.
وحكى ولده عن أهله: أنه كان يصلي في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة نافلة.
وممن حكى من أهله أم عبدالرحمن: أنه كان يقرأ كل يوم: قل هو الله أحد ألف مرة، ويقول: »سبحان الله وبحمده«، ألف مرة،» سبحان الله العظيم«، ألف مرة، ويقول: »سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر«، ألف مرة، و»لا إله إلا الله الملك الحق المبين«، ألف مرة.
وكان إذا دخل منزله قرأ: »قل هو الله أحد« خمس مرات... ولا يجلس حتى يركع ركعات إلا أن يكون مريضاً فيصلي جالساً.
قلت (القائل الحافظ الضياء المقدسي): وكان يزور المقابر كل جمعة بعد العصر، ولا يكاد يأتي إلا ومعه شيء من الشيخ في مئزره، أو شيء من نبات الأرض.
وكان يقرأ كل ليلة بعد عشاء الآخرة آيات الحرس، لا يكـاد يــتركـها.
(انظر مناقب الشيخ أبي عمر المقدسي للإمـام الحـافظ ضــياء الـدين المقدسي ص32-33)، ونقل هذا الكـلام الحافظ الــذهبي في سير أعلام النبلاء (22 / 6-7). وفي تاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610هـ . ص 267- 268).
وأما الدليل الثاني: فقوله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر مطلق يأتي به المسلم بما شاء من الأعداد في أي وقت كان... وما مولد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ذكر لله وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أي وقت جاء به المسلم وعلى أي كيفية شرعية: جاز له ذلك.
وبهذا قد اندحضت شبهة من ألزم المحتفي بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدعة تخصيص وقت معين، فتخصيص وقت معين للاحتفاء مدفوع بالدليلين المتقدمين من أدلة العموم.
وسنورد لك أيها القارئ الكريم ـ بشيء من التفصيل ـ الأدلة الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى.
* * *
وقد قسمت هذه الرسالة إلى أربعة فصول :
الفصـل الأول: الأدلـة من القرآن الكـريم
الفصل الثـاني: الأدلـة من السنة المشرفة
الفصل الثـالث: دليـــل الإجماع
الفصـل الـرابع: شـبـهـات وردود

1 إعانة الطالبين 3-361

2 من حيث الوسائل لا من حيث المقاصد، لأن المقصد أصل الأصول، وهو المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وآله الكرام، وأصوله ثابتة من الكتاب والسنة كما ستعرف.




http://www.awqafdubai.gov.ae/awqaf/vArabic/showpage.jsp?objectID=6770&lID=0

anass
13-04-2005, 18:31
مشكور أخي الكريم

abolamin
13-04-2005, 21:36
جزاك الله خيرا

أشرف
13-04-2005, 23:41
بارك الله فيك أخي على المشاركة القيمة