مشاهدة النسخة كاملة : السماع



أشرف
30-11-2004, 16:44
السماع

منقول من:
كتاب الإحسان الجزء الثاني خصلة التؤدة (السماع)، على هذا الرابط من هنا (http://www.yassine.net/Main.aspx?article=Ihssan_10_9)


بسم الله الرحمن الرحيم. (قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد. ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد). اللهم إنيَّ أسألك من عندك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلُم بها شعثي، وتُصلح بها غائبي، وترفع بها شَاهدي، وتُزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها أُلْفَتي، وتعصمني بها من كل سوء.

السماع غناء بألحان كان ولا يزال يصنعه بعض الصوفية. واختلس الشيطان وحزبُه من الملبسين والماجنين والإباحِيِّين الاسمَ فأطلقوه على الغناء الفاجر الذي سماه فضيل بن عياض "حُداء الزِّنا". لا خلافَ عند أهل الحقِّ في أن السماع الشيطانِيِّ رجسٌ وفسق. إنما كان الخلاف في التغني بشعر زهدي تذكيري على هيئة خاصة. فرخص طائفة فيه من الصوفية منهم الغزالي، ومارسه آخرون من العلماء الأجلاء مثل العز بن عبد السلام، وتشدد في منعه آخرون.

نرجع إلى الموضوع إن شاء الله بعد أن ننظر في الغناء وبلائه باهتمام مستقبليٍّ. إن اللهو واللعب والمتاعَ سمات كل مجتمع جاهليٍّ، وما فتح على جاهلية من أسباب ذلك ما فُتح على الحضارة الماديَّة المستكبرة في الأرض في زماننا. الكُرَةُ الأرضية كلها مسرَحٌ واحد لعرض مشاهد الرقص والغناء والعُري وكل لوازم الفاحشة ومؤيداتِها ومُغرياتِها ودعاياتها و"فنونها" و"ثورتها الجنسية". وحول الأرض طَوْقٌ متواصل من الأقمار الصناعية تبُث بالصوت الجاهر والصورة واللون ما تُفرِزُه دور إنتاج الفاحشة في أمريكا وسائر عواصم الفساد.

لا بد غداةَ وقوف الدولة الإسلامية على ملإٍ من المنتظرين والمتربِّصين أن يُتَّخَذَ قرارٌ في شأن هذا البلاء المصبوب صَبّا من فجاج الأرض والسماء، المندسِّ دَسّاً في أجهزة الترانزستُور بكل بيت وفي كل يد، المخزونِ في المسجِّلات اليابانية، المتبرج بالألوان الزاهية على شاشات التلفزيون العالمي الذي تتبارى شبكاته المتنافسة في صناعة إغواءِ السامع والناظر.

المنعُ والتحريم والعقابُ لا معنى لها ولا جدوَى. وكيف تقبض على الهواء الساري والماء السائل! فراغٌ هائل في حياة الأسرة تملأه جلسة الأطفال والكبار والنساء والرجال إلى مُعلِّم الخَنا التلفزيون، يشرحُ أبواب اللهو والدوابِّيَّة على متون تطبعها الأستوديوهات اليهودية والوثنية. وليس لنا من مندوحة عن الدخول في المباراة العالمية لجلْب انتباه السامع والناظر بوسائل الإعلام الحديثة وفنونه وتقنياته، من مسرح ونشيد ونحو ذلك. وإنَّ قطعَ الصلة بين أشكال الإعلام التي يتيحها التقدم العلمي التكنولوجي وبين مضمونها الجاهليّ الدوابي قطعاً مفاجئا لا يتيسر إن أردنا الاحتفاظ بسمع السامع وبصر المتفرج، وهما كل زيد وعمرو من المسلمين وذراريهم. والإذاعة الإسلامية والتلفزيون الإسلامي اللَذيْن يُتْلَى منهما القرآن والوعظ بالجِد اللازم قد يستمع إليهما المتقون ساعةً، لكنَّ عامَّةَ الناس تدير الزِّرَّ سريعا إلى محطة مَرَحٍ ولهو تؤنس نفوسا تغذت "تربيتها الفنية" بذلك الغِذاء حتى أصْبحَ جزءاً من ماهيتها.

أعني أن قطعَ الأوتار والمزامير، وفكَّ الجوقات الموسيقية لن يكون إلا عملية تدريجية قد تطول.

أما النشيدُ الذي يحمل كلمتَنا للناس فليس النشيدَ الصوفي، وقد سمى الأستاذ البنا السماعَ الذي كان يحضره "نشيدا جميلا"، لكنه النشيد الجهادي الذي نجد له أصلا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله. فلا كلامَ ولا جدالَ. فإنْ أدخلْنا مع الإنشاد إيقاعَ الدفوف فتَرَخُّصٌ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بضربها في الأعراس، وقال لعائشة كما روى البخاري: "ما كان معكم من لهو؟! فإن الأنصار يعجبهم اللهو". وإن راعينا غُرْبَة الإسـلام وتمَكُّنَ "حُداء الزِّنَا" من النفوس، ورأينا أن مضمون الكلمة الدينية يَسْلَمُ لنا ولو امتزج بنغمات الأوتار إلى حينَ يعيد العلماء تقديرَ الرأي في هذه النقطة الفقهية المختلَفِ فيها، فالشكلُ الفنيُّ المقتبَسُ لا يعدو أن يكون، في أكثر التقديرات تشدُّداً، خَيْطاً جاهليا دخل في نسيجنا، تمحوه النية، ويُبَدِّل الاستغفار سيآته حسناتٍ. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، وما أخرجه ذلك عن الإسلام والإيمان والإحسان.

قالت أمنا عائشة رضي الله عنها مُعقِّبَةً على روايتها لصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها حين ستَرَها لتتفرج طويلا على لعب الحبش: "فاقدُرُوا قدْرَ الجارِية الحديثة السن تسمع اللهو". رواه البخاري. ونحن نأخذ بعين الاعتبار كلَّ ما ذكرنا لنبلغ رسالة الإسلام والإيمان والجهاد، متجاوزين السماع الشيطاني المحرم والسماع الصوفي المختلَف فيه. إن شاء الله.

أخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: "لما كان يومُ الأحزاب وخَنْدَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيتُه ينقل من تراب الخندق حتى وارَى عني الترابُ جِلدةَ بطنه -وكان كثيرَ الشعَر-. فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب، يقول:


اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنـا ولا صلينـا
فأنزلن سكينـة علينـا وثبت الأقـدام إن لاقينـا
إن الألى قد بغوا علينـا وإن أرادوا فتنـة أبينـا


قال: ثم يمُد صوتَه بآخرها".

قلت: بأبي وأمي ناقلُ تراب يرتجز ويمد صوته! وفي هذه المَدَّة النبوية العظيمة سَلْوَةٌ لنا وإسوة عن شدة القاعدين المبَدِّعين المكفرين.

شكا قوم إلى أمير المومنين عمر رجلا يغني، فجاءه فسمعه يُنشِد فيما يُنشد يخاطب فؤاده ويعظ نفسه:


لا أراه الـدهـرَ إلاَّ لاهـيـا في تمادِيـه فقـد بـرَّحَ بـي
ويْحَ نفسـي لا أراهـا أبـدا فـي جميـل لا ولا فِـي أدب
نفسُ! لا كنتِ ولا كان الهوَى! راقبي المولى وخافي وارهَبي


فردَّدَ عمر البيت الأخير وقال: على هذا فليُغَنِّ من غنى![1]

طوَّر الصوفية هذا الغناء الزهدي الوعظي الذي حبَّذه أمير المومنين فَسُمِّيَ سماعا له أصولُه وآدابُه. قال ابن القيم في تعريف السماع الصوفي المختلَفِ فيه: "اجتماعهم في مكان خال من الأغيار (أي ممن ليس منهم) يذكرون الله، ويتلون شيئا من القرآن. ثم يقوم من بينهم قَوَّالٌ (منشد) ينشدهم شيئا من الأشعار المزهِّدة في الدنيا، المرغِّبة في لقاء الله ومحبته، وخوفه ورجائه، والدار الآخرة، وينبههم على بعض أحوالهم من يقظة وغفلة".[2]

ويعرِّفُ السماع الشيطاني الذي لم يكن إلا الغناءَ المجونيَّ الفحشائيَّ ملفوفا في ثوب الاسم متلبسا به. يقول: "غرهم من استحسانه صلى الله عليه وسلم الصوتَ الحسن بالقرآن، وأَذْنَه له، وإِذْنَه فيه، ومحبةَ الله له، فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النِّسوانِ والمُرْدَانِ وغيرهم بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد، وذكرِ القدِّ والنَّهْدِ والخَصْرِ، ووصف العيون وفعلها، والشعر الأسود، ومحاسِنِ الشباب، وتوريد الخدود، وذكر الوصل والصَّد، والتجَنِّي والهجران، والعتاب والاستعطاف، والاشتياق، والقلق والفراق".[3]

قلت: لا يكادُ يخفى تعاطُف ابن القيم مع السماع الأول، مع أن مذهب الإمام أحمد والحنابلة هو التحفظ الشديد.

وأريد هنا أن أذكر مذهبي في هذا السماع الوعظي. فأنا أزهدُ الناس فيه، وأعتبره مضيعة صرفة للوقت على معرفتي بما يعطيه من انفعال وقتِيٍّ يلتذ بخشوعه بعضُهم، ومع احترامي واعتذاري وعذري لرجال حملهم الوَجْد على أجنحة الحال حتى اضطربَت أجسامهم في إيقاع وتمايُلٍ وذكر هائج باللسان. وسمى الملاحظون هذا الاضطرابَ الحاليَّ الغالب اللذيذَ رقصا صوفيا. وقد ذكر الذهبيُّ أن سلطان العلماء كان يحضر السماعَ ويرقُص. وقرأنا في مذكرات الأستاذ البنا أنه كان يحضر "الحضرة"، ويسميها المغاربةُ "عمارة".

ذلك متاعٌ للعاطلين عن حلية الجهاد وشُغْلَتِه. وأبردُ من كل بارد، وأفدحُ من كل بِطالة، صنع قوم ما هبَّ عليهم من الوَجد والذوق نَسْمَةٌ، فتشبهوا بأصحاب الحال، وقاموا واصطفوا وتواجدوا وتفعَّلوا وتكلَّفُوا وتراقصوا. إن كانت غلبةُ الحال والوجدِ تعذِر الصادقين، فالمتصنعون محافظون على آثار بديعة في متاحف الزور.

مذهبي الترخيص للعامة، من باب ارتكاب أخف الضررين في جو المنافسة العالمية على حُداء الزنا، في نشيد الإذاعة والتلفزيون وما يواكب النشيد من تمثيليات خيالية أو تاريخية بشرط إدخال ذلك في الإسلام وتصفيته قدر المستطاع. مذهبي لنفسي ولجند الله أن نعذرَ أهلَ الوَجد والحال الصادقين، وأن نُعلِّم، فيمن نعلم من الجاهلين، أهل الرقص المتواجد، وفي أنفسنا ننقل تراب خنادق التحصن، وعتاد التصنيع والقوة، وأعباء الجهاد والمسؤولية، ولا حرج عندئذ أن نمد الصوت كما مده الصوتُ الملهم الشريف.

على أن نتدرج بالرَّكب الإسلامي جميعه إلى السماع الإحساني، وهو الاستماع والإنصات إلى كتاب الله عز وجل يُتلى، ويُرتل، ويُجوَّد، ويتغنَّى به المومنون، من الاستغناء به عن غيره، ومن الغنة وتحسين الصوت. ونتجنب هذه الأصواتَ المسجلة المحترفة المتعرِّجة المُخَنَّثَةَ، بعضها لا كُلَّها.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا. آمين.

قال الإمام الرفاعي في المتواجدينَ المتراقصين المتصنعين: "إيش أعمل بالسماع الذي رَقَصَ فيه الراقصُ بغير قلب، ونجاسةُ النفس لطَّختْه! كيف يُحسَب برقْصِه ونقصه من الذاكرين!(...) الراقصون كذابُون، والذاكرون مذكورون. بين الملعون والمحبوب بَوْنٌ عَظيم(...) أيْ سادةُ! إياكم والدجاجلة! إياكم والشيطانية! إياكم والطُّرُقَ التي تؤدي إلى كلا الوصفين. أخجِلوا الشيطان بخالص الإيمان. خرِّبُوا بِيَع الدَّجَلِ بيد الصدق".[4]

كان الشيخ أحمدُ السرهندي على مذهب مشايخه النقشبندية من العزوف الكاره عن كل سماع غير القرآن.

قال رحمه الله: "وقد جَعَلَت الصوفيَّةُ القاصرون اليوم السماعَ والرقص دينهم ومِلَّتَهم، مستندين إلى عمل مشايخهم واتخذوه طاعتهم وعبادتهم. أولئك الذين اتخذوا دينَهم لهوا ولعبا".[5]

وقال مغلوب الحال والوجد المترَخص في السماع:





زيادةُ حسنِ الصوتِ في الحلق زينَةٌ يروقُ بها لحنُ القريـض المحبَّـرِ
ومن لم يحركـه السمـاعُ بطيبـه فذلك أعمى القلب أعمـى التصـوُّر
تُصيخُ إلى الحادي الجِمال لواغِبـاً فَتُوضِع في بَيْدائهـا غيـرَ حُسَّـرِ
ولله فـي الأرواح عنـد ارتياحِهـا إلى اللحن سرٌّ في الورى غيرُ مُظْهَرِ
وكل امرئ عـاب السمـاعَ فإنـه من الجهل في عشوائه غيرُ مبْصِـر
وأهل الحِجَى أهلُ الحِجَـازِ وكلهـم رأوْهُ مُباحـاً عندهـم غيـرَ منكـر
وهام به أهـلُ التصـوف رغبـةً لتهيِيج شـوْقٍ نـارُه لـم تُسَعَّـر
وإن رسول الله قـد قـال: ريِّنُـوا بأصواتِكـم آيَ الكتـاب المطـهَّـر
وزاَنـتْ لـداودَ النبـيِّ زَبُــورَه مزاميرُه بالنَّوْحِ فـي كـل مَحْضَـر
وفي الخُلْدِ إسرافيلُ يُسمـع أهلَـه فيُسْليهمُ المسموعُ عن كـل منْظـر
فإن أكُ مُغْرىً بالسمـاع وحسنِـه فحسبي اقتداءً بالكريم ابـن جَعْفَـر




وقلت:


أنْصِتْ إلى الرَّحْمَةِ يَا عَانِيهَاكَ الشِّفا مِنْ آيِ قُـرآنِ
كُلُّ سَمَاعٍ دُونَـهُ رَغْبَـةٌللنَّفْسِ فِيهَـا وِزْرُ بُهْتَـانِ
عَدا النَّشيدَ لضَعافَ المَـلايَنْسَـلُّ لِلْقَلْـبِ بسُلْطَـان
--------------------------------------------------------------------------------
[1] روى القصة الشاطبي في كتاب "الاعتصام" ج 1 ص 369.

[2] مدارج السالكين ج 1 ص 501.

[3] المصدر السابق ص 492.

[4] البرهان المؤيد ص 56 وما بعدها.

[5] المكتوبات ج 1 ص 279.


منقول من:
كتاب الإحسان الجزء الثاني خصلة التؤدة (السماع)، على هذا الرابط من هنا (http://www.yassine.net/Main.aspx?article=Ihssan_10_9)

IDELCAID Youssef
03-12-2004, 12:07
salam
qu'allah t'agrée mon frère et qu'il t'accorde sa mesiriccorde inchallah
amin amin...

أشرف
03-12-2004, 12:25
آمين أخي الفاضل ومشكور على مشاركتك المباركة :)

المختار
21-01-2005, 21:49
جزاك الله خيرا اخي مشرفنا الفاضل اشرف


موضوع قيم جعله الله في ميزان حسناتك امين

anass
15-02-2005, 13:33
مشكور أخي أشرف

hassan_1677
17-03-2005, 00:10
آمين أخي الفاضل ومشكور على مشاركتك المباركة

nawara
12-12-2005, 13:38
مشكور أخي أشرف

موضوع قيم جعله الله في ميزان حسناتك امين

قصي علي عبد الله
24-08-2006, 13:19
وكل يدعى وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

عبد اللطيف بوكرن
24-09-2006, 19:49
حب النبي و الآال مذهب حقا و يقيني

hasnaa
03-11-2006, 17:41
جزاكم الله خيرا
وننتظر المزيد

salam
06-11-2006, 17:32
موضوع رائع وقيم أخي الفاضل
جزاك الله عنه ألف خير وجعله في ميوان حسناتك
قل أمين يا رب العالمين

أشرف
06-11-2006, 23:31
آمين يا رب العالمين
تسلمي لنا أختي سلام ورزقك الله من فضله فهو الكريم وذو الجود والكرم سبحانه وتعالى

ibnaoune_1975
10-02-2007, 23:15
جزاك الله خيرا اخي مشرفنا الفاضل اشرف


موضوع قيم جعله الله في ميزان حسناتك امين

zaky
18-04-2007, 17:58
بارك الله فيكم و زادكم من علمه

...هيثم...
01-03-2008, 10:01
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اما بعد
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله جنة وسعادة في الدنيا والاخرة

لك من كل احترام




...هيثم...

kroumme
28-02-2010, 21:33
شكــــــــــــــــــــرا لك

المداح
21-03-2010, 12:27
أهلا و سهلا