مشاهدة النسخة كاملة : تـربـية الرسول صلى الله عليه و سلم للناس وأسلوب تربيته‏



hammadi
19-04-2005, 16:11
تـربـية الرسول صلى الله عليه و سلم للناس وأسلوب تربيته‏


قبل أن ننتقل إلى الإطار العام لأسلوب تربية الرسول صلى الله عليه و سلم لنلق نظرة سريعة على تفسير هذه الآية، ذلك لأنه من المستحيل علينا معرفة الذروة التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه و سلم في التربية دون أن نعلم مستوى الناس الذين قام بمخاطبتهم والتعامل معهم وتربيتهم {هو الذي بَعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة: 2).

إن بعض الكلمات الواردة هنا تجذب الانتباه، إذ تبدأ الآية بضمير الغائب “هو”، ذلك لأن الناس آنذاك لم يكونوا يعرفون الله. فقد كانوا جاهلين وبدواً ومتخلفين، فلم يكن الله متجلياً في قلوبهم؛ فالآية تشير إلى بعدهم عن الله إلى درجة أنها لا تخاطبهم مباشرة بل تستعمل ضمير الشخص الثالث، وضمير الغائب “هو” ثم تقول الآية عنهم إنهم “أُمّيّون”.. أميون لا يعرفون ما الكتاب وما العلم، ولا يعرفون الله ولا رسوله... إلى مثل هذه الجماعة الأمية الصعبة المراس التي لا يرجى منها خير أرسل شخصاً ذا إرادة صلبة وروح عالية وقلب واسع وعميق؛ فاستطاع أن يربي من هذه الأمة البدوية رجالاً ساسوا الإنسانية وقادوها. ومع أن الله تعالى يعطي أهمية إلى القلم وإلى الكتاب والقراءة فقد كانوا بعيدين عنها جميعاً فأرسل الله “منهم” رسولاً، أي رسولاً من هؤلاء. وكون الرسول صلى الله عليه و سلم “منهم” هو من جانب كونه لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يعني أنه كان جاهلياً مثلهم، والحقيقة أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يجب أن يكون أميا، ذلك لأن الله تعالى سيكون معلمه ومربيه اختاره من بينهم وأرسله معلماً لتلك الأمة الأمية.

“يتلو عليهم آياته” أي يتلو عليهم آيات الله البينات آية بعد آية ويشرحها لهم ويربيهم عليها ويعلو بهم إلى سماء الكمالات الإنسانية. “وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” أي مع أنهم كانوا قبل مجيئ رسول الله صلى الله عليه و سلم في ضلال وفي جهالة وانحراف، فإن الله تعالى أرسل إليهم من يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. كل هذا بوساطة نبي أمي. والمراد هنا من تعليم الكتاب هو القرآن. وكما استطاع القرآن أن يحتضن جماعة وأمة ويرفعها إلى مستوى إنساني رفيع فإنه يستطيع إنجاز الشيء نفسه للأجيال القادمة. أما الأفكار الموجودة حاليا والتي يقدمونها كأفكار جديدة وجذابة، فمصيرها إلى الانطفاء واحدة بعد أخرى مثل شموع تعرضت للريح، إذ سيكون الكتاب الوحيد الذي يقول للشموس في بلد النور “أنا الشمس التي لا تغرب.” وستكون رايته هي الراية الوحيدة الخفاقة، وستحطم جميع الأجيال قيود الأسر عن أعناقها لتسرع إليه وحده، وقد بدت الدلائل على هذا منذ الآن.. فهذه هي روسيا.. وهذه هي الصين.. فلو سمعت ما يجري فيهما الآن وقبل عشر سنوات لما صدقت ما تسمعه الآن وحسبته خيالاً وأوهاماً... ولكن انظر الآن كيف تتحطم الدكتاتوريات المرعبة، وكيف تتهدم الإمبراطوريات السابقة وتهوي إلى الأرض جذاذاً واحدة إثر أخرى، وكيف يظهر القرآن وكأنه جذوة متقدة من تحت الرماد، وكيف ينبعث عالم التوحيد انبعاثاً جديداً. وبالرغم من كل هذا الظلم والاستبداد والتسلط يسري الروح الإسلامي إلى أرجاء المعمورة روحا يانعاً نضراً يتسلل إلى القلوب وتنبهر به الأنظار.

والمعنى الآخر لها هو قيام النبي صلى الله عليه و سلم بفضل هذا الكتاب المنير الذي علمه الله تعالى بتربية نفوسهم والسمو بها إلى المعالى، والسمو بالإنسان إلى المرتبة اللائقة بالإنسان، أي إرشاده إلى الطرق المؤدية إلى مرتبة الإنسان الكامل. فكما صعد وارتفع في المعراج فعليه أن يرتفع بهم روحيا وأن يحقق لهم معراجاً معنويا وروحيا في أعماق قلوبهم، حتى ولو كانت هذه الأمة في ضلال بين وفي انحراف كبير عن الحق، فالله تعالى إن شاء جعل من الفحم ماساً ومن التراب ذهباً وتبراً.. بل فعل ذلك فأخرج من هذه الأمة التي كانت قلوبهم سوداء كالفحم أمة بقلوب من ماس إلى درجة أن ذلك النسل الذهبي الذي رباهم الرسول صلى الله عليه و سلم لا يزالون يبهرون الأنظار.. هذا هو الفضل الإلهي الذي تم بوساطة النبي صلى الله عليه و سلم. لذا، يمكن القول بأن الرسول صلى الله عليه و سلم هو الإنسان الذروة الذي استطاع أن يعلو بالبشرية إلى المستوى اللائق بالإنسان.

وبعده فإن أي إنسان عندما كان يقترب من الله تعالى بجناح الولاية أو البر والتقوى كان يرى في أماكن القرب منه تعالى ألوية محمد صلى الله عليه و سلم وهي تتموج هناك، وما خطا أحدهم خطوة في مدارج الرقي إلا رأى آثار أقدامه صلى الله عليه و سلم.

من الخطأ أن نظن أن تربية رسول الله صلى الله عليه و سلم اقتصرت على تزكية النفوس، إذ أنه أتى بنظام شامل للتربية يخاطب العقل والروح والقلب. والحقائق القرآنية الشاملة تفعل الشيء نفسه. فالرسول صلى الله عليه و سلم يخاطب العقل ويحضه ويشوقه، ويصل بهذا العقل ذي البعد الوحيي إلى الحد النهائي للعقول. ثم يتناول الروح ليسمو به إلى مراتب أعلى بكثير من المراتب التي يستطيع أن يصل إليها أي متخصص في التربية، ويأخذ بالقلب إلى العوالم التي يشتاق إليها ويهفو.. ثم يتناول مشاعر الإنسان ولطائفه الأخرى ليرتفع بها أيضاً إلى عوالم يتعثر فيها الخيال.. وبعد أن ارتفع بأرواح وعقول وقلوب تلاميذه وطلابه فتح أمامهم أبواب المؤسسات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والعسكرية والسياسية، لأنه أتى برسالة تستطيع أن تربي فتحصل على أفضل رجال الإدارة والاقتصاد والسياسة، وعلى أكمل القواد العسكريين... أجل، لقد جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم برسالة شاملة فيها الاقتصاد والمال والإدارة والتعليم والتربية وفيها أحكام العدل والقوانين الدولية... الخ. والخلاصة أنه أتى برسالة تحتضن كل ضرورات التقدم، ذلك لأنه لو كان هناك أي نقص في أي ناحية من نواحي رسالته لما تحققت الغاية من إرساله، بينما يقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث له:

«إن مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي كمثل رحل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين.»[1]

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3). أي أن جميع الأنبياء والأصفياء والأولياء كانوا يقولون: متى يتم هذا البنيان؟ فأنا أرسلتك نبياً كاملاً لتكملة هذا البنيان، وكما رضيت لكم هذا الدين فقد أقمته على الأسس التي يرضى الناس عنها.

أجل، لقد جاء النبي صلى الله عليه و سلم لتكملة النواقص، والذين يحاولون البحث والتفتيش عن نقص في رسالته، عليهم أولاً أن يبحثوا عن الثغرات الموجودة في عقولهم وفي قلوبهم.. لقد قام النبي صلى الله عليه و سلم بمهمة التتمة والتكملة وبمهمة الإصلاح والبلوغ إلى الكمال... كان عليه تعديل كل عوج. وإصلاح كل نقص، وتكملة كل قصور.. وقد أنجز هذا وأتمه. نستطيع أن نشاهد عظمة أي شخص مرب في المسائل الآتية:

أ- الـسـمـوّ بالروح والنفـس والعقـل

الأول هو السمو بروح الإنسان ونفسه وعقله، والبلوغ بها إلى أعلى نقطة يمكن الوصول إليها. والتأريخ يشهد أن الرسول صلى الله عليه و سلم استطاع أن يحقق هذا في طلابه وفي المنتسبين إليه بعون من الله تعالى..

يأتي ذكر النفس الأمّارة في القرآن الكريم... هذه النفس التي تضع العراقيل والعثرات أمام سمو الإنسان وتحاول الضغط عليه للحيلولة دون هذا السمو. فبدلاً من إنسان حقيقي مشتاق إلى عالم الروح، تجعله إنساناً يهتم بمتطلبات جسده فقط. وقد التجأ سيدنا يوسف عليه السلام إلى الله تعالى من هذه النفس {إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي} (يوسف: 53). إن النفس بطبيعتها أمّارة بالسوء، إلا أنه من الممكن التخلص من الوقوع في بئرها العميق عمق بحيرة لوط، والارتفاع مرحلة فمرحلة إلى أعلى وإلى الذروة، والقرآن يشير إلى أوضاع النفس هذه إذ يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ` اِرجعي إلى ربك راضية مَرضيّة} (الفجر: 27-28).

كما يشير القرآن إلى حالة تتحول فيها النفس من النفس الأمّارة بالسوء إلى “النفس اللوّامة”، أي النفس التي تحاسب نفسها. ولأنه يعد هذه النفس مرتبة معينة، فإنه يقسم بها و{لا أقسم بالنفس اللوّامة} (القيامة: 2).

ثم هناك “النفس الصافية” وهي صفة النفس لدى المقربين، وأصحاب هذه الصفة تتجلى فيهم الشفافية والنقاء والصفاء إلى درجة أن الذين يشاهدونهم يتذكرون الله تعالى. وكانت نفس محمد صلى الله عليه و سلم من هذا النوع. كما استطاع تحويل العديد من أصحاب القابليات وأصحاب الكفاءات إلى هذه المرتبة بدرجات مختلفة كل حسب قابليته واستعداده. لقد استطاع الرسول صلى الله عليه و سلم -بعون الله- بالتربية المستمرة للنفس وتزكيتها إيصالها إلى أعلى هدف تستطيع النفس الإنسانية بلوغه. وهذا يبرهن على أنه كان مربياً لا مثيل ولا نظير له. وعندما نتفحص عهده نرى أنه لم يدع أي ثغرة تربوية في موضوع السمو بالعقل والنفس والارتفاع بهما إلى الذروة.

ب- كـون دعوته عالـمية

والثاني هو أن نجاح المربي وكماله يقاس بمدى عالمية وشمول دعوته وبالأبعاد الكمية والنوعية لمنتسبيه، فقد قام المعلمون والمرشدون الذين رباهم في حياته بنشر الحق في مناطق واسعة شاسعة ما بين مَراكَش ونهر أمودَريا القريب من بخارى، وتأملوا كيف أن المربي الوحيد في تلك المساحة الشاسعة من البلدان آنذاك لم يكن سوى النبي صلى الله عليه و سلم، وكان النظام الذي أتى به نظاماً شافياً ووافياً لمشاكل مختلف الأقوام والجماعات التي كانت تموج بها هذه المنطقة الشاسعة.

فكل من الإيراني والتركي والصيني.. الخ على اختلاف أمزجتهم ومشاربهم وثقافاتهم كانوا يهرعون إليه ويتقبلونه هو وكل ما أتى به. إذن، فإن نظم التربية التي جاء بها نظم عالمية تصلح دواء للبشرية كلها. إذن، فإن محمداً صلى الله عليه و سلم كان أكثر المربين تأثيراً في طول التاريخ وعرضه وأكثرهم مصداقية. ثم إننا نبحث عن مدى عظمة المربين في مدى بقاء وثبات أسس النظم التربوية التي يأتون بها، والآن انظروا إلى الناس الذين يتربون على أسس النظم التربوية التي جاء بها محمد صلى الله عليه و سلم قبل كل هذه القرون، فسترون أن الملائكة تغبط معظم هؤلاء في أخلاقهم. وإن نظم تربيته لا تزال تربي الأجيال حتى الآن.

والآن لنفكر ولنتأمل: لقد ظهر النبي صلى الله عليه و سلم في أمة بدوية متخلفة بل متوحشة وبدائية، ولكنه استطاع أن يربي من هذه الأمة طوال عصور وعصور قادة أطهاراً قادوا الإنسانية إلى الخير. إذن، فإن الرسالة التي جاء بها كانت رسالة كافية لإنقاذ البشرية بنفحة واحدة منها. وأنا شخصيا لا أحب تصوير الباطل، ولكني لا أملك نفسي من عرض بعض المناظر التي تبين مدى فساد المجتمع في العهد الذي ظهر فيه الرسول صلى الله عليه و سلم.

لقد ظهر في مجتمع تغلغلت فيه الوحشية إلى نفوس أفراده وأصبحت طبيعة فيهم: كانوا يشربون الخمر ويلعبون القمار ويقترفون الزنا علنا، ولم يكونوا يعدون هذه الفواحش شيئاً معيباً. انتشر الزنا حتى أصبح علنيا، فقد خصصوا بيوتاً للدعارة ونصبوا أمامها الأعلام..[2] كانت الفواحش منتشرة بشكل يجعل الإنسان يخجل من إنسانيته... ولو لا الحياء لذكرت أموراً أخرى. ثم إن هؤلاء القوم كانوا من النوع الذي لا يتورعون عن إثارة المشاكل الكبيرة والمنازعات الخطيرة لأسباب تافهة، وكان من المستحيل تقريباً جمعهم على صعيد واحد ومزجهم بعضهم مع بعض وتأليف قلوبهم، فقد سادت الفرقة والشحناء في أرجاء شبه الجزيزة العربية إلى درجة بدت أنها غير قابلة للعلاج.. أجل، فما من سوء إلا وجدته هناك. ولم يكن من الممكن أبداً لمثل هذا القوم الاستماع إلى النبي صلى الله عليه و سلم، ولكنه استطاع أن يسل هذه العادات السيئة منهم واحدة بعد واحدة، ثم زينهم بمزايا وأخلاق عالية بحيث سبقوا الأمم كلها وأصبحوا لها أساتذة ومعلمين.

من هذه الأمة البدوية المتوحشة أنشأ أمة مدنية لا تستطيع الأمم المدنية حتى في عصرنا الحالي بلوغ كعبها، لذا يقول “موليير (Molière)” بحقٍّ “يستحيل أن توجد جماعة أخرى مستعصية على العلاج مثل جماعة نبي الإسلام. والاستحالة الثانية هي القيام بإصلاح مثل هذه الجماعة في وقت قصير جداًّ لا يتجاوز 23 عاماً ورفعها إلى مصاف الإنسانية، ولم يتيسر هذا إلا لمحمد صلى الله عليه و سلم ”

ويقول مفكر غربي آخر: “لقد استطاعت البشرية أن تقطع 25% من التقدم المقدر لها من يوم ميلادها وحتى عهد محمد صلى الله عليه و سلم، أما في عهده فقد ازدادت هذه النسبة بشكل عمودي وأصبحت 50% وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة منذ عهده حتى الآن فإن النسبة ارتفعت إلى 75% فقط.”

ومعنى هذا الاعتراف المخلص أن الثمار الناتجة من جهود جميع الأنبياء والفلاسفة وكبار رجال العلم والدولة والسياسة وصل إلى مثلها الرسول صلى الله عليه و سلم في مدى ثلاثة وعشرين عاماً فقط، وأنه رغم جميع التقدم التقني والعلمي الحاصل منذ أربعة عشر قرناً فإن البشرية لم تستطع سوى إنجاز نفس النسبة التي استطاع الرسول صلى الله عليه و سلم من إنجازها في حياته وهي نسبة 25%، أما نسبة 25% الباقية فستحصل عليها البشرية فيما بعد ضمن عمرها الباقي... هذا هو محمد صلى الله عليه و سلم، وهذه هي خدماته للبشرية التي تنعكس في القلوب والضمائر الحية. وتقول “الموسوعة البريطانية” في هذا الخصوص: “لقد جاء مصلحون كثيرون في تأريخ البشرية كان من بينهم أنبياء استطاعوا إنجاز بعض النجاح، غير أننا لا نشاهد عند أي أحد منهم النجاح الذي سجله محمد.”

ويقول الباحث “وهل (Wahl)” وهو من المنصفين: “لقد ترك كل رجل عظيم أثراً وراءه. أثر للنبي، وأثر للمصلح وأثر للمجدد وأثر لرجل الدولة العظيم. وقد ترك محمد صلى الله عليه و سلم أيضاً أثراً بعده. وهذا الأثر عظيم إلى درجة أننا إن ذكرنا “الأثر” تبادر إلى الذهن أثره هو وحده، وهو أثر عظيم إلى درجة لا يمكن مقارنته مع الآخرين.” وهذا الباحث رجلُ علمٍ أيضاً وقد حصل على جوائز علمية، إذن، فالصديق يعترف، والعدو يعترف أيضاً ولا أدري ماذا يقول بعض الجهلاء عندنا.

يعرفنا الله تعالى نفسه إلينا فيقول: {يُخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحيّ} (الأنعام: 95). فكأن الله تعالى يسري عن رسوله محمد صلى الله عليه و سلم بعرض صفاته المدهشة هذه عليه. فكأنه أعطى لرسوله صلى الله عليه و سلم التراب والحجر والمعدن في تلك الصحراء الموحشة وبين البدويين المتخلفين لكي يصنع منهم رجالاً من الذهب الخالص من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد بن الوليد وعُقبة بن نافع وطارق بن زياد رضي الله عنه أجمعين حتى يوم القيامة.

عندما ظهر سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم بنبوته وبرسالته في ذلك المجتمع وتعرف على معاصريه، كان لمعاصريه هؤلاء استعداداتهم وقابلياتهم القلبية والروحية والعقلية الخاصة بهم، فلم يحاول النبي صلى الله عليه و سلم طمس هذه القابليات وإضعافها، بل استغلها وحركها وقواها وجعل منها قوة عظيمة وطاقة كبيرة. ويقدم أحد المفكرين الكبار[3] أنموذج عمر رضي الله عنه قبل الإسلام وعمر بعد الإسلام... فعمر قبل الإسلام شخص جبار مهيب يملك الاستعداد لأن يكون رجلاً عظيماً. وقيامه في مراحل طفولته بالتسابق مع هذا أو ذاك ولوي أعناق الإبل وصرعها قد يكون إشارة إلى بذرة نفسه.. أما عمر بعد الإسلام فهو الإنسان الرقيق الحساس الذي يحذر من أن تطأ قدمه نملة، وكان إحساسه المرهف وشفقته إلى درجة جعلته يقول: “والله لو مات جمل ضياعاً على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه.”[4] وهكذا بلغ عمر وأمثاله إلى مستوى فوق مستوى البشر، وذلك بالتربية التي تلقوها عن الرسول صلى الله عليه و سلم...

أجل، فقد استطاع الرسول صلى الله عليه و سلم أن يربي أمثال هؤلاء الرجال من بين أولئك البدو المتخلفين الملتزمين بعاداتهم وعنجهياتهم بتعصب لا مثيل له. والآن لنشرح هذا الموضوع بمثال صغير شرحاً مختصراً: تحاول الدولة بكل وسائلها ووسائطها وإمكانياتها مكافحة عادة التدخين -التي تعد عادة بسيطة- فلا تستطيع ذلك، بل لا تستطيع مجرد خفض نسبة التدخين -المستمرة في التصاعد- إلى نسبة معقولة. ولا تعجز دولتنا فقط في هذا الموضوع، بل تعجز كل دول العالم، هذا بالرغم من كل المحاضرات وكل المقالات وكل الندوات التي تعقدها لمكافحة هذه العادة. ومع أن العلم وعالم الطب يصرحان بأن التدخين يؤدي إلى الإصابة بسرطان الحنجرة والرئة وسقف الفم، ومع أن الإحصاءات تقول إن نسبة الإصابة بهذه الأمراض نسبة كبيرة قد تبلغ 95% إلا أن كل هذه الجهود وهذه المعلومات والإحصاءات لا تفيد في مكافحة عادة التدخين. إلا أن أهل ذلك العهد كانت لهم عشرات العادات الضارة التي تشربتها نفوسهم واختلطت مع دمائهم فأصبحت أقوى بكثير من عادة التدخين، ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم استطاع بنفحة واحدة أن يزيل هذه العادات الضارة. وأن يزينهم بدلاً منها بعادات جميلة وبخلق حسن وبخصال حميدة إلى درجة كانت ملائكة السماء تغبطهم عليها وتتعجب فتقول: “عجباً! هؤلاء ليسوا ملائكة.. ولكنهم أفضل منها.” وفي يوم الحشر عندما تكاد أنوار هؤلاء تطفئ نار جهنم ستذهل الملائكة وتقول: من هؤلاء؟ أهم من الأنبياء أم من الملائكة..؟[5] إنهم ليسوا بأنبياء ولا ملائكة ولكنهم أفراد من أمة محمد صلى الله عليه و سلم نشأوا على تربيته وتربوا على مبادئه.

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرعى غنم عُقبة بن أبي مُعيط،[6] فأخذه النبي صلى الله عليه و سلم وجعله من أصحابه ومن تلاميذه وجعل منه مرشداً كبيراً بحيث يمكن القول إنه صاحب مدرسة الكوفة.. هذه المدرسة التي خرجت علماء أمثال علقمة وحمّاد والثوري وأبي حنيفة حيث كان كل منهم قمة في ساحة علمه وقد استقوا معظم مصادر علومهم من ابن مسعود رضي الله عنه الذي كان في الجاهلية راعي إبل وغنم... وهكذا جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم من راعي الغنم مثل هذا الشخص العبقري.

هناك بعض علماء الإسلام الذين أصبحوا موضوعاً للدراسة من قبل علماء الغرب منذ سنوات وكتبت حولهم مجلدات عديدة.. أحد هؤلاء العلماء هو أبو حنيفة رضي الله عنه الذي يعد “سولون (Solon)” و“حَمّورابي” في مرتبة تلاميذه حسب رأى أحد المفكرين... بينما يُعد هذا الرجل العظيم أي أبو حنيفة تلميذ تلميذ تلميذ ابن مسعود راعي الغنم وتلميذ رسول الله صلى الله عليه و سلم... وأنا لا أريد هنا التهوين من شأن أبي حنيفة حاشا لله ولكني أريد بيان عظمة أستاذهم. أجل، فبفضل تربية الرسول صلى الله عليه و سلم وتنشئته ظهر هؤلاء العظام بعد أن لم يكونوا شيئاً يذكر.. فقد تم إخراج الحي من الميت، وجعل الفحم ماساً.

وبفضل التربية نفسها استطاع عبد بربري، أن يعبر برج هرقل وأن يغير اسمه لكي يقول لأهالي بلاد ما وراء البحار ما لم يسمعوه من قبل، ويعرض أمامهم ما عجزت عقولهم عن إدراكه... فأوروبا قبل تعرفها بالإسلام ما كانت لتعرف معنى الرغبة في الشهادة واستحقار الحياة واستصغارها والشوق إلى الموت وإلى الشهادة، لذا فإنها لم تفهم كيف يقوم طارق بن زياد ومعه اثنا عشر ألف مقاتل بحرق سفنه والالتحام في قتال ضارٍ مع (90-100) ألف من جيش أعدائه الإسبان والاستمرار في القتال حتى في أقسى الأحوال وأكثرها مدعاة للتشاؤم واليأس... لقد ذهلت منه... ذهلت من هذا الشخص الذي يحارب جيشاً يبلغ تقريباً تسعة أضعاف جيشه ويجمع جيشه ليقول لهم:

“أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام.”

والتأريخ يقول لنا إن القتال لم يستمر سوى عدة ساعات انتصر بعدها جيش طارق انتصاراً كبيراً على أعدائهم.. ولم يلبث طارق إلا وكان في قصر طُلَيطُلة / توليدو (Toledo) حيث توجد فيه خزائن الملك الإسباني.. إذن، فانظر إلى حال هذا القائد الذي كان من قبل عبداً... انظروا إليه لكي تدركوا ما يفعله الإسلام عندما ينفخ معانيه في القلوب وفي النفوس.. لقد وضع طارق قدمه على خزائن الملك قائلاً: “يا طارق! لقد كنت من قبل عبداً، فأعتقك الله وجعلك قائداً، ونصرك ففتحت الأندلس وأنت الآن في قصر الملك، ولكن لا تنسى فغداً ستكون بين يدي الله.”

يا سبحان الله..! ما هذا الفهم العميق!! المعتاد هنا أن الشخص الوضيع عندما يصل إلى القمة يحمل معه عقدة النقص فيتظاهر بالكبرياء وبالغرور ويكون دائم الفخر بنفسه ودائم الحديث عنها إلى الناس. هذا ما نراه لدي الذي تسلطوا على رقاب الأمة. ما هذه التربية المذهلة التي جعلت من عبد شخصاً عزيز النفس كريمها، وجعل منه إنساناً يراقب نفسه ويحاسبها بدلاً من الوقوع في خلق الخسة كما كان منتظراً من غيره في مثل هذه المواقف.

ومن الذين نشأوا في ظلال تربيته عُقبة بن نافع الذي فتح إفريقيا من أقصاها إلى أقصاها. وعندما بلغ المحيط الأطلسي خاض بجواده البحر حتى الركبة قائلاً: “يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك.”[7] ويتناول الشاعر التركي “عبد الحق حامد” هذا الموضوع في مسرحيته “طارق بن زياد” فيقول: “لا أدري أهذا القول من عُقبة بن نافع أسمى أم قول الملائكة في السماء؟” [8] أجل، هذا هو عُقبة بن نافع... تلميذ من تلاميذ محمد صلى الله عليه و سلم.

لقد كان صلى الله عليه و سلم يتناول الإنسان من جميع جوانبه العقلية منها والقلبية والروحية والوجدانية دون أن يهمل أو يطمس أي قوة منها، بل نشطها جميعاً وحركها كلها فأخرج من أفسد الناس أفضل الناس. وتسجيله كل هذا النجاح وكل هذا التوفيق في التوجيه وتربيته القابليات وبهذا القدر من الإصابة ومن التفوق دليل آخر من أدلة نبوته، ولا يمكن تقديم أي تفسير آخر في هذا الصدد، لأنه لم يعرف الإحباط أو الفشل أو الإخفاق في هذا الموضوع.

ج- الـحركـة والعـمـل

يقول الرسول صلى الله عليه و سلم في حديث له عن العمل والنشاط يحتاج إلى التأمل والتفكير: «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف.»[9] ولم يكن بالإمكان قول غير هذا لأن القرآن الكريم يقول: {وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105). أي إن عملكم سوف يقيم حسب مقياس ومعيار معين. وهذه الأعمال بأجمعها سوف تشهر وتعرض يوم القيامة أمام الأنظار حيث يأتي الناس ويشاهدونها ويدققونها: أتُعد هذه أعمالاً أم لا..؟ إذن، فالناس يجب أن يعملوا آخذين هذا بنظر الاعتبار.

ويقول الرسول صلى الله عليه و سلم في حديث آخر: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه.»[10] والآية الكريمة من أهم الآيات التي تحض على العمل، وأنا أعتقد أنها تصلح للكتابة على غلاف كل كتاب. ويشير حديث «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف» إلى أحد أبعاد هذا العمل. أجل، إن الله تعالى يحب العبد الذي يعمل ويكدح ويتعب في الأعمال التي تسمح بها الشريعة. والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: «ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده.»[11] ويقول أيضا: «لأن يحتطب أحدكم حُزْمَة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيَه أو يمنعَه.»[12]

ونستطيع تناول الموضوع في ظلال سورة العصر: {والعصر ` إن الإنسان لفي خسر ` إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (العصر: 1-3).

فالإيمان والعمل الصالح والارتباط بالحق والتواصي بالحق والصبر والتعلق بالصبر والتواصي بالصبر... كل هذه أنواع من العمل والحركة، والله تعالى يحب أصحاب هذه الأعمال. فالعمل والنشاط حسب مفهوم النبي صلى الله عليه و سلم وضمن دائرته يعد من أفضل الأعمال وأقربها لنيل رضى الله تعالى، فهو لم يقل أبداً كونوا كالرهبان واقضوا حياتكم في الصوامع وتجنبوا الزواج وابتعدوا عن الأكل الطيب وعن الشراب، ولا تهتموا بالدنيا بل انبذوها لكي تحصلوا على رضا الله تعالى وتصلوا إليه.

فقد تناول الشهوة الجنسية ووجهها نحو الجهة المشروعة فقال صلى الله عليه و سلم: «تزوجوا الودود الولود.»[13] وفي حديث آخر يقول: «تناكحوا تكثُروا فإني أباهي بكم الأمم.»[14] أي كلما كثرتم فرحت وسعدت بذلك وعندما أنظر إلى خلفي فأرى الجموع الكثيرة وهي تركع وتسجد وتكبر وتهلل بخشوع فإن فرحي يزداد. فلم يحاول الرسول صلى الله عليه و سلم تحجيم الغزيزة الجنسية أو تحريفها أو حبسها، ولم يسلك أي طريق يؤدي بالإنسان للإصابة بالعقد النفسية في هذا الموضوع. فقد أدار هذه الغريزة وصبها في مسار مشروع ووضع الطرق التي توصل الأمة الإسلامية في هذا الموضوع أيضاً للحصول على رضا الله تعالى، فتربيته هي توجيه الفطرة والطبيعة البشرية نحو الاتجاهات التي تحقق الغاية من الخلق.

د- الـتـجارة والـزراعة والجهاد

ليس هناك مثيل له ولا شبيه في موضوع موازنة الأشياء. ففي حديث شريف يقول صلى الله عليه و سلم: «إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم.»[15] والتبايع بالعينة هي قيام شخص بشراء بضاعة من شخص آخر عن طريق الدين ثم بيعه له بسعر أرخص. هذا هو أحد تعاريف هذا البيع وهو يكفي هنا.

وسواء عدّ هذا البيع صورة من صور الربا المخفي أو شيئاً آخر فإن صاحب الشرع لا يرضى به. وأنا أعتقد بأننا لم نعرف المعنى الحقيقي لهذا الحديث إلا بعد الثورة الصناعية إن كنا قد فهمناه بحق.. كنا قد نسينا الجهاد، وعندما نوينا التوجه للصناعة لم نحسن موازنة الأمور فأهملنا الزراعة وتربية الحيوانات.

علماً بأن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يخبرنا -وقبل أربعة عشر قرناً- بما يجب علينا فعله. فقد كان متوازناً في هذا الأمر مثلما هو متوازن في جميع الأمور الأخرى. طبعا يجب أن تكون هناك زراعة وتربية الحيوانات. والدليل على هذا وجود أحاديث شريفة تحض على هذا.. ولكننا نخطئ عندما نقصر كل جهودنا في هذين المجالين فقط.

وهذا يشمل من يترك المدينة لكي يقضي حياة هادئة على قمة جبل ويبقى هناك وحده ليستغرق في تأملاته، ويشمل كذلك المزارع ومربي الحيوان الفاقدين للنشاط والحيوية في مهنتهما... إذن، فهذا الحديث الشامل يعلمنا درساً مهماً في الاقتصاد، كما يقول لنا: إنكم إن تركتم الجهاد، أو لم تمتلكوا القوة التي تؤهلكم لأن تأخذوا مكانكم اللائق ضمن التوازن الدولي فإن الله تعالى سيرسل عليكم ذُلاًّ لا يزول بسهولة.. إذ ستبقون تحت الاحتلال وتحت القهر والظلم إلى أن تعودوا إلى الإسلام وتحيون حياة إسلامية.. وهذا المعنى غيض من فيض، فلرسول الله صلى الله عليه و سلم أحاديث أخرى عديدة حول هذا الموضوع، ولكننا نكتفي هنا بهذا الحديث. وكما أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يحدد القابليات والمهارات والاستعدادات ولم يضيق عليها، فإنه لم ينظر إلى القوة البدنية نظرة تحقير واستهانة، على العكس من هذا فقد قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.»[16]

والذين يريدون أن يكونوا محبوبين من قبل الله تعالى عليهم أن يكونوا أقوياء في أبدانهم وأقوياء في قلوبهم. أي يكونوا أقوياء في الروح بجانب القوة الجسدية. وهكذا يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه و سلم لا يقول لنا: صوموا لكي تضعفوا، واضعفوا بدنيا لكي تحصلوا على رضا الله وقبوله. بل يحارب الرهبانية بقوانين الفطرة الإلهية ويوجهنا إلى هذه القوانين.

هـ- مـلاحـظـة حول العـلـم

إن ما أتى به النبي صلى الله عليه و سلم لساحة العلم وما أكسبه للعلم وللحياة الفكرية يعد من مظاهر رسالته العالمية الشاملة. يهتم القرآن بالعلم ويحض الناس جميعاً لاكتسابه فيقول: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9). فيجعل للذين يعلمون مرتبة أسمى من الذين لا يعلمون. ويقول في آية أخرى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} (فاطر: 28).

فالعلماء الذين هم أقرب إلى معرفة عظمة الله تعالى هم الذين يخشونه حق الخشية. وهناك قراءة شاذة تسند إلى أبي حنيفة يقرأ فيها لفظ الجلالة مرفوعاً ويكون المعنى آنذاك: “إن الله يحترم من عباده العلماء فقط” ولا شك أن هذا الاحترام هو بشكل يناسب الذات الإلهية المنزهة. ولكن القراءة كما قلنا قراءة شاذة[17] ولكنها من ناحية معناها جديرة بالوقوف عندها أيضاً.

عندما يقوم فخر الدين الرازي بتحليل موضوع متعلق بالعلم ينتبه إلى نكتة لطيفة جداًّ فيقول: “إن المذاهب الثلاثة خارج المذهب المالكي تعد الكلب نجساً عيناً”، أي أن الكلب نجس بأجمعه فلا يصح وجوده في البيوت، ولكن إن كان الكلب “كلباً معلَّماً”، أي تم تعليمه وتدريبه على الصيد أو على حراسة الغنم عند ذلك يتغير الوضع. حيث يصح أكل الصيد الذي يمسكه بفمه ويأتي به، وتعد الأماكن التي يتجول فيها ويتمسح بها أماكن نظيفة، ولا يكون هناك بأس من وجوده في البيوت.”

هنا يقف الإمام فخر الدين الرازي هُنيهة ليقول: “إذا كان الكلب يتخلص من نجاسته نتيجة لتعلمه الصيد بل يصبح كأحد أفراد العائلة فما بالك بالإنسان العالم وإلى أي ذروة يستطيع هذا الإنسان العالم أن يبلغ؟”

هذه هي وجهة نظر الشريعة..وهذه هي الرسالة التي أتى بها محمد صلى الله عليه و سلم. فالذين لا يعرفون الله جهلاء والذين يعرفون الله وينقادون له علماء. وحسب منطق الشريعة لا تطلق كلمة “العلماء” على الذين لا يعرفون الله ورسوله. أما الذين يعرفون الله تعالى ورسوله فهم “علماء” وإن كان نصيبهم من العلوم قليلاً. فإذا أعتبرنا أن كلمة “يخشى” في القراءة الشاذة تأتي بمعنى “يحترم” إذن، فالله تعالى بالمعنى اللائق بذاته وبصفاته يحترم من يؤمن بالله وبأنبيائه وكتبه واليوم الآخر وبالحشر والنشر وبالجنة وبجهنم.

وسأكتفي هنا في موضوع الفكر بالحديث النبوي الشريف: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة.»[18] لم ير الغرب شيئاً مثل هذا ولم يصل إلى هذه المرحلة بعد.. إن قمتم بالتفكر وبالتأمل المنظم ساعة واستطعتم التوصل إلى شيء تستطيعون تقديمه لخير الإنسانية، أو لو قمتم بالتفكر والتأمل باسم حياتكم الروحية والقلبية ولصالح حياتكم الأخروية وحياتكم الأبدية بشكل صحيح ومشروع فإن مثل هذا التأمل والتفكير قد يكون خيراً لك من عبادة سنة، وقد يكون ثوابه أكثر.

لقد ابتعدنا منذ سنوات طويلة عن التأمل والتفكير المنظم وكذلك عن العبادة ذات الأبعاد العميقة.. ابتعدنا أو أُبعِدنا.. ولا يرجع هذا العيب إلى الإسلام، بل إلى المسلمين. فقد فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم أبواب ونوافذ التفكير على مصاريعها قائلا لنا: {اُدخلوها بسلام آمنين} (الحجر: 46).

وكلما أصبحنا غرباء عن العلم زادت سطحيتنا، وعجزنا عن صيانة مواقفنا في التوازن الدولي أمام الغرب فأصبحت الكلمة كلمتهم وأصبحنا نتلقى الأوامر منهم. ولكني مؤمن بأن هذه الأمة الأصيلة ستنهض يوماً وتشغل المكان اللائق بها بين الأمم.

أجل، لقد جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم برسالة خلقية وتربوية، ولكنه نجح في تربيته هذه للإنسان حسب استعدادات وقابليات كل فرد ولم يحرف هذه القابليات أو يقف أمامها بل أخذ الإنسان كما هو، مما جذب إليه الناس آنذاك وأصبحت طريقته التربوية هذه قوة دافعة لهم لأنها لم تقف أمام الفطرة الإنسانية ولم تحاربها ولم تناقضها. فكل تعليم من تعاليمه كان عاملاً دافعاً. هذا علماً بأنه كان يطبق طريقته التربوية في مجتمع لا يعرف أي شيء تقريباً من الأخلاق أو التربية أو السلوك السليم. وفي الأمثلة التي سأقدمها يظهر لنا بوضوح من أين أخذهم الرسول صلى الله عليه و سلم وإلى أين أوصلهم في النهاية.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] البخاري، المناقب، 18؛ مسلم، الفضائل، 20-23؛ «المسند» للإمام أحمد 2/257، 398
[2] البخاري، النكاح، 36؛ أبو داود، الطلاق، 33
[3] المقصود هو الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي. (المترجم)
[4] «تاريخ الأمم والملوك» للطبري 5/195؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/53؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/305
[5] «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/360
[6] «المسند» للإمام أحمد 1/379؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/150
[7] «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 4/106
[8] «طارق» لعبد الحق حميد طرخان (باللغة التركية)
[9] «فيض القدير» للمناوي 2/290
[10] «كنز العمال» للهندي 3/907
[11] البخاري، البيوع، 15؛ ابن ماجة، التجارات، 1
[12] البخاري، الزكاة، 50، 53، البيوع، 15؛ الترمذي، الزكاة، 38؛ النسائي، الزكاة، 85؛ «المسند» للإمام أحمد 1/134
[13] أبو داود، النكاح، 3؛ النسائي، النكاح، 11؛ «المسند» للإمام أحمد 3/158، 245
[14] «فيض القدير» للمناوي 3/269
[15] أبو داود، البيوع، 54؛ «المسند» للإمام أحمد 2/84
[16] مسلم، القدر، 34؛ ابن ماجة، المقدمة، 10
[17] «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 14/220؛ «روح المعاني» للآلوسي 22/191؛ «تفسير النسفي» للنسفي 3/340؛ «الكشاف» للزمخشري 3/308
فتح الله كولن

anass
19-04-2005, 19:16
بارك الله فيك أخي الكريم و جزاك كل خير

المختار
20-04-2005, 01:28
موضوع قيم جعله الله في الميزان المقبول