مشاهدة النسخة كاملة : تأملات في سيرة النص المسرحي



hassan_1677
15-06-2005, 18:37
تأملات في سيرة النص المسرحي
د.محسن الرملي

" النص المسرحي أشبه بجبل جليد عائم.. ثُمنه فقط ظاهر للعيان والباقي يختفي تحت الماء ".
جون لوي بارلو

كان النص المسرحي، في السابق، سيّداً على مجمل العملية المسرحية بمختلف عناصرها، بحيث لم يكن دور المُخرج أكثر من إدارة إيصاله إلى المتلقي، والممثل أكثر من قارئ له، والخشبة مكان لإلقائه، فتصبح كل المهمات مُسَخّرة من أجل إيصال قول الكاتب ورؤيته دون أن يجرؤ أحد على تغيير كلمة إلا بعد الرجوع والمراجعة وإقناع الكاتب. مقابل ذلك وجب على النص المسرحي أن يحمل أعباء كبيرة ومسؤوليات عناصر أخرى هشة الحضور أو غائبة، فكان يحتوي على أوصاف مطوّلة للمناظر والأجواء والأزياء والأضواء والأصوات ووقوع فعل الأحداث وغيرها، الأمر الذي جعل النص المسرحي طويلاً وثقيلاً واحتوائياً؛ يعامَل ـ ببالغ اعتبار ـ كونه جنساً أدبياً مستقلاً ومرغوباً فيه، فكان النقد يصدر تجاه النص مقروءاً، ويمكن حتى أن يقاضيه مسرحياً بمجرد القراءة دون الحاجة لانتظار دخوله تجربة المسرحة لأنها لم تكن تضيف إليه وإنما تكتفي بتجسيده بأمانة تقليدية. وعلى امتداد سنوات طويلة ظل النص المسرحي يسمى رواية ويصدر في كتب، وله نظامه واشتراطاته وخصائصه، إلا أن العمر الطويل للمسرح ومروره بمدارس وتجارب وتراكمات وبيئات مختلفة، والتقدم التقني وجهاد منظومات العناصر الأخرى كالإخراج والتمثيل والصوت والإنارة والديكور والملابس والموسيقى والسينوغرافيا والمكياج والإيماء والإيحاء والرقص والفضاء المسرحي والأشخاص العاملين فيه من أجل إبراز أهمية أدوارهم وسعيهم في استحصال حقهم في طرح رؤاهم؛ جعل النص المسرحي يتراجع ويتخلى تدريجياً عن الكثير من مسؤولياته القديمة، وأن يكون ديمقراطياً في تقبل حضور العناصر الأخرى التي انفصلت عنه، وأن يَقنع في إيلاء التخصصات لجهات الاختصاص، حتى صار النص المسرحي مجرد عنصر آخر من عناصر المسرح الأخرى، وفي بعض الأحيان أضعفها، وكأنه، الآن، يمر بأزمة أو في مرحلة احتضار بسبب تراجع أهميته في خلاصة العملية المسرحية، فلم يعد أكثر من مجرد مُنطَلق لها؛ نقطة بداية قد يتم التخلي عنها بعد قليل من الشروع بالعمل.
لقد أفرزت مسيرة المسرح الطويلة معادلة معاصرة تُرجح المسرح بشتى عناصره مجتمعة أو مجزأة أحياناً على كفة النص لتحيله إلى مجرد عنصر واحد من عناصر المسرح التي يتزايد عددها بفعل التطور، وإن كان هو العنصر الارتكازي بينها والذي يقوم على أساسه تشييد الهيكل المسرحي، إلا أنه فقد سلطته، بل هويته أحياناً، فلم يعد ثمة جنس محدد بعينه لا منازع له يحمل تسمية (النص المسرحي)، إذ نجد الآن الكثير من التجارب المسرحية التي تقوم على قصيدة شعرية أو على قصة أو رواية أو حكاية شعبية أو طُرفة أو حالة يومية عادية أو مقالة أو أغنية أو حلم أو خبر في صحيفة وما إلى ذلك، بل وأحياناً بلا نص ناطق على الإطلاق كما هو الحال، مثلاً، في مسرح الصورة، والمسرح الصامت "البانتومايم" وغيرها.
ويوضح المسرحي البولندي يوزيف شاينا هذا الأمر بقوله:" إن المسرح يبدأ حيث ينتهي الأدب وهناك فرق بين الدراما الأدبية والمسرح؛ في المسرح أريد أن أحوّل الكلمات إلى صورة، والمسرح الحقيقي هو الحركة داخل هذه الصورة. لم أكن أبداً المخرج الذي يقدم أعمالاً أدبية، حاولت دائماً أن أخلق عروضاً لا يكتفي الإنسان بالاستماع إليها". وهناك حركات وتيارات قد تجاوزت الجانب الأدبي في المسرح مستندة على ما يسمى بتأثير خشبة المسرح ومعلنة الرفض التام للنص المكتوب، وقد عبر عن ذلك الأمريكي جوزيف شايكن مدير المسرح المفتوح: إن أرفع شكل للتواصل في المسرح هو السكوت والصمت. وأصبحت مفردات الفرق الشابة المسرحية هي كل ما يعارض الدراما أو النص المكتوب لأن المسرح في نظرهم هو حركة وتمثيل وعلم للمنظر".(مجلة الأقلام/آذار1987 بغداد).
وهكذا حلت كلمة (إعداد) محل كلمة (تأليف)، وكلمة (مُعِد) بدل كلمة (مؤلف)، وأصبح.. هاملت غير هاملت، ولير غير لير، وطرطوف غير طرطوف؛ يتبدلون تماماً حسب رؤية كل مخرج، لأن المخرج أصبح الآن سيد المسرح؛ هو دكتاتوره، كما يقال، وهو المؤلف الثاني للنص، فقد أخذ يطرح رؤيته هو للنص، ولم يعد دوره ينتهي عند طرح رؤية الكاتب كما كان في السابق، بل إنه قد يتعارض معها أحياناً.
هذا على صعيد مسرَحَة النص، أما على صعيد قراءته فإنها أصبحت غير عملية وغير ممتعة هي الأخرى، لأنها شبيهة بقراءة سيناريو لفلم سينمائي، إذ تتطلب الصبر على شكل الكتابة وعلى إشارات وحواشي لا تعني القارئ ولا تصب في هدفه، لأنها من صلب اهتمام العامل المسرحي المختص وليست من اهتمامه كقارئ يبحث عن المتعة أو فكرة أو رؤية وغيرها.
ولكننا على الرغم من كل تلك الاشكالات أو الأحوال التي أصبح يعيشها النص المسرحي لا نريد أن نعلن موته بوصفه جنساً أدبياً له تاريخه العريق، ودوره الفاعل في صياغة الذهنية الإنسانية الواعية على مدى العصور، ومواقفه المعالجة والمتصدية والفاعلة في مسيرة الثقافة العالمية وحركة التاريخ الحضاري.
ومهما تكن الصعوبات التي يواجهها في توالي فقدانه لخصائصه، إلا أن ثمة ما لا يمكن إنكاره في إمكانية تمييزه عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى؛ تلك الروح الخاصة بالكلمة المسرحية المعبأة بالجملة الفعل وبالحوارية المتعاشقة وبصلابة وحدة النص وكثافته، وبطرده لكل ما هو زائد وبنوعية إيقاعه التصاعدي الشاذ وبمباشرته بقصد الهدف ووضوح طرح الموقف تجاه القضية المعنية وبحرارته وبحيويته شكلاً، حيث الاستعداد العالي لتقبل اختلافات زوايا التناول، إنه قد أصبح نصاً ديمقراطياً متسامحاً، بل وأكثر لياقة على صعيد الشكل، إلى جانب أصالة مضامينه وتحولاتها، حيث الغوص بعيداً في مسيرة استكشافاته العميقة لهموم الإنسان وأحاسيسه تبعاً لكل مرحلة وكل حال، وإبرازه الجلي للغوامض والصغائر الهاجسة في النفس الإنسانية، إلى جانب تواصل شهره لسلاح الرمز الوافي للطرح وفق كل متطلب، بل إن النص المسرحي سيبقى " أشبه بجبل جليد عائم ثُمنه فقط ظاهر للعيان والباقي يختفي تحت الماء" على حد قول الفرنسي جون لوي بارلو. إذاً فثمة ما يبقى خاصاً وجديداً، وثمة ما يمكن أن نلمسه ونتحسسه من أجل تمييز هذا الجنس الأدبي وإدامة حياته، ليس على صعيد العرض المسرحي فحسب، وإنما في كونه نصاً صالحاً للقراءة كما هو صالح للعرض.

المختار
05-03-2006, 23:38
جزاك الله خيرا اخي الفاضل حسن

omo hala
22-04-2006, 21:25
assalamo alaykom abhato an taesselin lil massrah min fadlikom aenouni

نسيم
25-08-2006, 00:16
موضوع ممتاز منك مشرفنا
مشكور على المقال الرائع

عبد اللطيف بوكرن
14-09-2006, 11:12
مشكووووور أخي الكريم

المختار
03-01-2007, 22:39
مشكور اخي الكريم

جزاك الله الف خير