مشاهدة النسخة كاملة : تـــــــوظـيـــــــــف الـتــــاريــخ فـي كـتـــــابـة المـســـــرحـيـــــة



hassan_1677
15-06-2005, 18:51
تـــــــوظـيـــــــــف الـتــــاريــخ فـي كـتـــــابـة المـســـــرحـيـــــة


د. حسين علي هارف
يشكل التاريخ مادة عامة وخصبة لكاتب المسرح، وقد دأب المؤلفون المسرحيون منذ العصر الاغريقي فالاليزابيثي - لاسيما شكسبير - وما زالوا، على استلهام الاحداث التاريخية والشخصيات التاريخية في مسرحياتهم، غير ان تعامل المؤلف المسرحي مع التاريخ لا يتطابق مع تعامل المؤرخ معه اذ يذهب الكاتب المسرحي (جورج بوشنر) في تشخيصه لعلاقة المسرح بالتاريخ إلى ان الشاعر المسرحي لا يعدو في نظره "ان يكون مؤرخاً، ولكنه يحتل مرتبة اعلى من هذا الاخير لانه يخلق التاريخ مرة اخرى، ويغوص بنا في حياة احد العصور بدلاً من ان يقدم لنا سرداً جافا عنه، ويرينا الطبائع بدلاً من الخواص. والوجود بدلاً من الوصف".
الان ان بوشنر من جهة اخرى يقول "واسمى واجبات هذا الشاعر هو الاقتراب من التاريخ كما كان فعلاً ما امكنه ذلك". وبذلك يتقاطع مع المهمة الابداعية الجمالية الموكلة للكاتب المسرحي والمشتقة من احقية (الفن) في التدخل في الحياة والطبيعة بالاضافة والحذف واعادة تركيب الاشياء وصياغتها لانه يرصد التاريخ الخفي - المهمل الذي يحتاج إلى استبصار ووعي وادراك وبذلك ينجح النص التاريخي حين يكتشف بدوره من بين الركام الهائل للوقائع التاريخية.
ان المسرح فن ابداعي يذهب إلى تلك المساحات الفارغة في التاريخ لينفذ من خلالها.
يناقش (ليسنغ) (1729 - 1781) في كتاباته العلاقة الجدلية بين التاريخ والدراما ويبدو موقفه لاول وهلة معادياً للتاريخ لانه يرى التاريخ مجرد (مستودع اسماء).
ويلخص (جورج لوكاش) (1885 - 1971) مفهوم ليسنغ في هذا المجال على النحو الآتي: (ان على الشاعر ان يعامل الشخوص بقدسية اكثر من الحقائق) وهذا ما سيجعلنا نتريث كثيراً في حكمنا السابق.
ان (ليسنغ) يطرح التساؤل الآتي: إلى أي مدى يجوز للشاعر المسرحي ان يبتعد عن الحقيقة التاريخية؟ ويجيب على ذلك (في كل ما لا يتعلق بالشخوص، بقدر ما يشاء. ان عليه ان يعتبر الشخوص وحدهم مقدسين، او يمكن ان يسمح له بان يضيف فقط ما يعززهم ويظهرهم في ضوئهم الافضل والتغيير الجوهري الاقل سوف يزيل سبب تمسكهم بهذه الاسماء وليس غيرها. وليس من شيء اكثر اثارة للازعاج والكره من شيء لا تستطيع ان تجد له مبرراً ذلك ان الانسان عند ليسنغ هو قلب الدراما.
ان ليسنغ حين يرفض كلية اللجوء إلى الحرفية التاريخية لغرض ضرورات الشكل التاريخ انما يدافع بذلك عن حرية الكاتب الدرامي (ضد صحة وقائع المعطيات التاريخية باسم اجمالي الدراما المكتفي ذاتياً التي يربط بها المطالبة بان يكون هذا الاجمالي صورة كافية للقوانين العامة للعملية التاريخية. فهو اذن يطالب بان تختلف الحرية عن الحقائق المنفردة باسم اخلاص اعمق لروح الكل).
تمثل اراء (ليسنغ) تلك وجهة نظر عميقة ناضجة لطبيعة العلاقة بين الدراما والتاريخ، بل بين الدراما والواقع عموماً وذلك بجعله (الدراما) مسؤولة عن الحركة الداخلية والخارجية للعملية التاريخية.
ولنناقش الآن - تحديداً - علاقة الكاتب المسرحي بالمادة التاريخية التي يعتمدها في تاليف مسرحيته إلى إلى أي مدى يحق للكاتب المسرحي ان يتلاعب بالتاريخ ويتدخل في احداثه؟ وإلى أي مدى تحكم الحقيقة التاريخية الكاتب المسرحي في معالجته للمادة التاريخية.
تقول الكاتبة (مارجوري بولتون) في تشريح المسرحية (في ايامنا هذه يزداد واجب الكاتب اهمية عندما يختار موضوعاً من التاريخ على ان يعرضه عرضاً دقيقاً صادقاً من الناحية التاريخية). وتنتهي بولتون إلى مطالبة الكاتب بالقيام بشيئ من الاطلاع في دور الكتب والمتاحف لتجنب أي تشويه للحوادث وخطأ في ترتيب الحوادث التاريخية، وانا لنجد في ما ورد ما يكفي لتحجيم المساحة الابداعية التي ينبغي للكاتب المسرحي التحرك ضمنها.
ولننطلق من عبارة (على ان يعرضه عرضاً دقيقاً من الناحية التاريخية) تلك. ان الكاتب المسرحي اذا توخى الدقة والصدق في الناحية التاريخية بذلك القدر من الالزامية والتحفظ فانه سيقترب من مهمة المؤرخ في الوقت الذي يبتعد فيه عن مهمته الابداعية بوصفه فناناً، فالابداع هو (خلق) جديد، فان كنا نخلق (فمعنى ذلك ان هناك شيئاً جديداً لم يكن في وسع احد التنبؤ به في اللحظة السابقة مباشرة). وهذا يمنحنا تبعاً لذلك قدراً من الحرية في العمل وفق قوانين خاصة بنا ذلك (ان المؤلف الذي تحمل مشقة ابتداع وخلق وفقاً لخطة سابقة يطالب بالاعتراف به ككائن حي لانه صاحب خلق جديد حر). وهذا الخلق يختلف بالضرورة عن الكتابة التاريخية التي تعنى كثيراً بتدوين الحقيقة التاريخية كما وقعت بالفعل حرفياً ما وسعها بذلك.
ويرى (اطيمش) (ان على المسرحي الا يقع فريسة ما رواه المؤرخون. ومن هنا فهو يجيز للكاتب المسرحي في ان لا يتجاوز ما رواه المؤرخون في بعض المواقف ولكنه لا يخرج عن الحدود العامة. وهو هنا لا يحدد تلك الحدود العامة، وكذلك يفعل (ملتون ماركس) في (المسرحية كيف ندرسها ونتذوقها) في اطلاق يد الكاتب في التلاعب باحداث التاريخ وافتراض احداث وامور اخرى في مسرحية مشترطاً على الكاتب (ان يكون دائماً على حذر، فلا يتلاعب بالحقائق تلاعباً فادحاً). وهو هنا يترك تحديده عائماً فما الذي يحدد (فداحة) التلاعب من عدمه وعلى أي اساس يبني الكاتب حذره وهو يحذف الكثير من الادلة والشواهد التي يرى انها غير لازمة له؟
وينبغي الاشارة إلى ان اطلاق يد الكاتب في التصرف بالمادة التاريخية لا يعني اننا نسمح للكاتب المسرحي بان يضلل قارئه ومشاهده تاريخياً بمعنى انه يسمح لنفسه وفق ذلك بان ينسخ ويبدل وقائع تاريخية خطيرة ومهمة يعرفها المتفرج جيداً فيزيفها خدمة لموضوعه المسرحي، فان بحث الكاتب عن ما يخدم موضوعه ويغنيه لا يشكل مبرراً في تزييف احداث تاريخية بما يخل بالمعرفة التاريخية للمشاهد.
واذا عمد المؤلف إلى ذلك فاننا سنساله عندها، ولماذا اخترت الاطار التاريخي وهذا الحدث او الشخصية التاريخية بالذات لتطرح من خلالها موضوعك اصلا؟ ربما كان الاجدر هنا اللجوء إلى اطار معاصر يمكن -التلاعب فيه بحرية مطلقة. واذن لا تزييف للتاريخية، ولا تشويه للحقائق التاريخية من قبل الكاتب المسرحي واذا كان الكاتب المسرحي غير مطالب بالخضوع كلياً لحقائق التاريخ فهو في الوقت نفسه مطالب بعدم مناقضتها او تجاهلها تجاهلاً تاماً، وربما كان يكفيه ان يعرض من درجة اهمية الحدث التاريخي او الشخصية وان يضيف من خيالهما ما يزيد الحقيقة التاريخية وضوحاً واقناعاً فيجعل لها امام الخواطر وكانها تشاهد وتدرك بالحس عبر الازمان. ويذهب جورج لوكاش في التاكيد على الحقيقة التاريخية التي تنبئنا عن الحقائق وعن اتجاهات التطور الكامة، فليس للكاتب المسرحي كما يرى لوكاش (أي مبرر ليفعل هذا ذلك انه اذا كان يرغب حقاً في رسم شخوصه كافراد احياء فهو اذن سيجد اهم ادلته ومساعداته في الحقيقة التاريخية، وكلما تغلغل إلى مسافة اعمق في التاريخ ازدادت هذه الادلة والمساعدات).
واذن فنحن امام اتفاق على اتاحة قدر من الحرية للكاتب المسرحي في التعامل مع المادة التاريخية رغم الاختلاف في تحديد هذا (القدر) من دارس لآخر.
-ونحن هنا مع اعطاء اكبر قدر من الحرية للكاتب في التعامل مع الحقيقة التاريخية إلى الحد الذي نسمح له بالابتكار او بخلق حقيقة فنية جديدة فـ (اذا اريد للحقيقة ان تبقى، وجب مزجها بالاكاذيب، والحقيقة المطلقة الصرفة لا تطاق وما من احد يملكها، وهي ليست جديرة حتى بالكفاح في سبيلها، انها غير انسانية وليس جديرة بان تعرف).
واذن فالحقيقة التاريخية بحاجة إلى ان يعمل الكاتب المسرحي فيها ويعيد صنعها بما يجعلها مقنعة، مؤثرة وجميلة، أي يجعلها قريبة إلى الصدق الفني الذي لا تقل اهميته عن الصدق التاريخي، فالكاتب المسرحي كثيراً ما يجد نفسه مضطراً للتضحية اما بالحقيقة التاريخية لصالح الضرورة الفنية او العكس (واذا ما وقع عالم باحث في مثل هذه الحيرة فان الاختيار امامه سهل، ذلك ان تشويه التاريخ بالنسبة له يمثل مخالفة اعظم من الكتابة البليدة) اما بالنسبة للكاتب المسرحي فنحن نرى ان مجافاته للصدق الفني يشكل عيباً بل مأخذاً اكبر من تقاطعه مع الصدق التاريخي. فلو افتقر عمل الكاتب المسرحي إلى أي طابع واثر فني مقنع وجميل فانه حينئذ سيجافي الصدق، حتى وان التزم الصدق التاريخي التزاماً حرفياً.
يسعى الكاتب دائماً إلى التعامل مع احداث التاريخ وشخصياته بتفاصيلها وحرفياتها بحيث يجعل لهذا الحدث التاريخي اثراً في انفسنا نحن المتلقين ويجعل فهمنا للحدث التاريخي متداخلاً مع فهمنا لناحية من نواحي النفس البشرية التي تحمل اكثر من تأويل واحد، ذلك ان (الدراما) كما يقول جبرا ابراهيم جبرا تحتاج إلى التعقيد البشري الذي يكشف الكاتب الفنان من خلاله عن الجوانب البشرية الخفية للنفس الانسانية. وهذا ما فعله شكسبير الذي كان فهمه للتاريخ مرتبطاً بفهمه للنفس البشرية، فشكسبير (لا يمسرح التاريخ فحسب بل يمسرح السايكولوجية ويعطينا شرائح كبيرة، منها وفيها، نجد انفسنا.
ولكن هل يزودنا التاريخ بذلك العنصر الانساني، النفسي، الوجداني، العاطفي الذي نحن بحاجة ماسة اليه في (الدراما)؟ لا يحدث هذا غالباً، وربما دائماً فماذا يعطينا التاريخ اذن؟ يجيب (جورج لوكاش) عن هذا التساؤل قائلاً (احداثاً هي، اذا صح التعبير معرفة من الخارج فقط، ما قام به الناس ولكن ما فكر فيه الناس، الاحاسيس التي رافقت مناقشاتهم ومشاريعهم ونجاحاتهم وخيباتهم، المحادثات التي فرضوا بها او حاولو ان يفرضوا بها عواطفهم واراداتهم على العواطف والارادات الاخرى والتي باختصار كشفوا بها عن شخصيتهم الفردية: كل هذا يمر به التاريخ بصمت تقريباً). هذا ميدان الفن، بل هو ميدان المسرح بالذات.

المختار
18-06-2005, 00:02
بارك الله فيك اخي الفاضل حسن

مشاركة قيمية جعلها الله في الميزان المقبول

بنت الشام
01-02-2006, 16:23
شكرا

على الموضوع القيم

سلمت يداك

سهيل
07-02-2006, 22:21
شكرا

على الموضوع القيم

سلمت يداك


جزاك الله خيرا

amoula
09-02-2006, 11:22
إقتباس:
المشاركة الأصلية بواسطة بنت الشام
شكرا

على الموضوع القيم

سلمت يداك

abire_sabile
22-11-2008, 22:32
مشكور أخي الفاضل على الموضوع الشيق...بعبارة أخرى يمكن القول أن المسرحي عكس الوؤرخ لا يحكي التاريخ انما هو يصنع التاريخ