MALIKA B
31-03-2008, 15:33
ذكريات تنشر لأول مرة عن حياة الشيخ ياسين
حوار- إيمان يس
ليست ذكرى جريمة اغتيال شيخ المجاهدين "الشهيد" أحمد ياسين التي ارتكبها سفاكو الدماء الصهاينة الغاصبون فجر يوم الإثنين 22 مارس 2004 مناسبةً للتباكي، ولكن لنجدد تأكيدنا أن المقاومة هي الطريق الوحيد للانتصار، وأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأنّ معركة الكرامة في فلسطين هي معركة استرداد الجماهير إرادتها المسلوبة، وحقها في القرار، وفي أن يكون حكامها تعبيرًا عنها، لا عن مصالحهم وارتباطهم بالأعداء.
http://www.ikhwanonline.com/Data/2008/3/2/imgg1.jpg
عبد الحميد أحمد ياسين
لقد أضاء الشهيد أحمد ياسين سماء الأمة الإسلامية والعربية الملبَّدة بغيوم الجهل والضلال والغواية، وجعل للشهادة وللدفاع عن القضية معنى، وقال لنا قبل أن يرحل للخلود: "أنا مُقْعَد وصنعت ما لم تصنعوه أنتم يا أصحاب الأجساد الصحيحة؛ فإنكم أنتم الواقفون الراكضون تستطيعون أن تفعلوا أكثر مني بكثير".
وبعد مرور 4 سنوات على ذكرى استشهاد الشيخ التقى (إخوان أون لاين) بأحد أبنائه، الذي كان يرافقه في كل تحركاته لنتعرف على جوانب من حياة الشيخ أحمد ياسين الإنسانية والاجتماعية، والتي لم يعرفها الكثير، فكان هذا الحوار مع عبد الحميد أحمد ياسين:
* إذا كانت الذكرى العطرة لاستشهاد الشيخ الشهيد أحمد ياسين هي اليوم الذي تنهمر فيه دموع اليتيم والجريح والمحتاج والمهموم حزنًا على فراقه؛ فما هو اليوم الذي بكى فيه شيخ المقاومة الفلسطينية؟
** عادةً ما كان يبكي الشيخ لاغتيال المجاهدين خاصةً من القيادات، ولكن ما رأيته بكى أحدًا مثلما بكى الشيخ المجاهد صلاح شحادة، ويومها زارنا الإعلام قبل أن يزور منزل أهل الشهيد شحادة، وسألوه: ماذا تقول في اغتيال القائد العام لكتائب عز الدين القسام؟! فأجاب قائلاً: "نترك الأفعال هي التي تتكلم".
http://www.ikhwanonline.com/Data/2007/9/19/uu1img.jpg
الشهيد صلاح شحادة
* في الذكرى الرابعة لاستشهاد الشيخ أحمد ياسين.. ما هي الأمنية التي تمنَّاها فتحققت؟ وما هي التي لم تتحقق؟
** هناك أمنيتان كان يتمنَّاهما الشيخ رحمه الله وتحقَّقتا، وهما: إقامة مدرسة دار الأرقم، فقد كان يحلم أن تكون له مدرسة خاصة، تُخرج جيلاً يتربَّى على الإسلام بحق، واستطاع رحمه الله أن يحقِّق هذه الأمنية قبل 5 أعوام من استشهاده، أما الأمنية الثانية فكانت الشهادة.
والأمنية التي تمنَّاها ولم تتحقق هي ألا يدقّ باب بيتنا سائل، وأن يرزقنا الله ما يكفينا أن نعطي كل محتاج وهو في بيته معزَّزًا مكرمًا، لكنها إرادة الله.
* عُرف عن الشيخ رحمه الله سعيه الدائم للحفاظ على وحدة الصف الفلسطيني، وتقريب وجهات النظر بين شتى الفصائل، فكيف استطاع ذلك رغم كل ما كان يحاك لضرب الوحدة الفلسطينية؟
** لم يكن الشيخ رحمه الله يفرِّق بين أبناء الشعب الواحد، وأذكر بعد استشهاده رحمه الله، التقيت بشاب فتحاوي، فأوقفني ليسألني عن حالي، ثم فاجأني بقوله: أقسم بالله أني لن أنسى الشيخ أبدًا، وأن الله وحده يعلم مدى حبه للشيخ، فاستغربت كلامه وسألته عن السبب، فروى لي قصته مع الشيخ قائلاً: "ذهبت إلى الشيخ في أحد الأيام لأطلب مساعدته لأشتري ثلاجة لبيع بعض المشروبات، فنظر إليَّ مبتسمًا، ثم نظر إلى أخيك الأصغر عبد الغني وسأله عني: أيصلي؟! فأجابه عبد الغني بغضب: نعم يصلي ولكنه فتحاوي يا شيخ، فصاح به الشيخ قائلاً: اسكت، ثم أمره أن يعطيني ثمن الثلاَّجة، وقال: ما دام يصلي أعطه، وضحك الشاب قائلاً: "فوالله لا أنساها له أبدًا.. رحمه الله".
* وهب الشيخ رحمه الله وقته كله لخدمة الشعب الفلسطيني، لدرجة وصلت إلى أن باب بيتكم كان يُطرَق ليل نهار، حتى على مائدة الإفطار، فمتى كان يستريح الشيخ؟ وكيف كان ينظِّم يومه؟
** الشيخ رحمه الله كان 24 ساعةً في خدمة الناس، لا يعرف معنى الراحة؛ مما جعل مجموعةً من الإخوة يقترحون عليه أن يغلق باب المكتب ما بين الظهر والعصر، ويجعل هذا الوقت للنوم، فأجابهم برفض واستنكار شديدَين: "أنام، وإحنا جايين هنا ننام!! ومين يخدم الشعب؟"، لم يكن عنده وقت حتى لتناول الطعام، فقد كان يؤذن المغرب ولم يتناول وجبة الغداء بعد، ولا ينام ولا يهدأ له بال إلا إذا تأكد من خلوِّ المكتب تمامًا من أصحاب الحاجات، ويستيقظ فور قدوم أي سائل.
كان الناس ينتظرونه من الصباح الباكر قبل حتى وصوله للمكتب، خاصةً في الثمانينيات لم تكن هناك سلطة ولا قضاء، وكانت البلد منتهى الفوضى، فكان وحده دولة، ينظِّم كل شيء ويفصل في كل النزاعات والمشكلات، ولكن فيما بعد لم يعد يقدر أن يوفي احتياجات الجميع؛ فعيَّن بعضَ مَن يثق بهم لمساعدته في حل المشكلات، وأصبحوا يرفعون للشيخ فقط ما يعجزون عن حله ليقوم بحله بنفسه، لكن بعد أن يجمعوا له جميع المعلومات ويجروا التحقيقات والتحريات اللازمة ويقوموا بتلخيص الأمر له حتى يسهل عليه فهمه والنظر فيه.
* وأنتم كأسرة ألم يكن يزعجكم هذا؟ متى كنتم ترتاحون؟ ومتى كنتم تستذكرون دروسكم.. إلخ؟
** صدقيني كنا ننتظره في الطريق أثناء مروره لقضاء بعض احتياجاته؛ حتى نستطيع أن نسلم عليه، وأحيانًا كنا نشتاق إليه جدًّا فنغلق باب البيت لمدة لا تزيد عن ربع ساعة لنتمكن من قضاء بعض الوقت معه، ثم نشعر بالحرج من المنتظرين على الباب ونضطر للمغادرة سريعًا، بالنسبة لي فأنا كنت مرافقه، لكن باقي إخوتي- وخاصةً البنات- كيف يستطيعون الجلوس معه في وجود الناس، هكذا كانت حياتنا ونحن راضون بها.
* ألا تذكر ولو لمرة واحدة ردَّ فيها الشيخ سائلاً أو محتاجًا أو طالبًا لمساعدة من أي نوع؟
** والدي رحمه الله كان شديد الاتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورغم انشغالاته لم يكن يردّ أو يرفض طلبًا لأحد، حتى من كان يدعوه إلى عُرسه؛ عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعيتم فلبُّوا"، أذكر أننا دُعينا إلى عرس، وفي الموعد المحدَّد شغل الشيخ جدًّا في حل مشكلة بين اثنين ولم ينتهِ منها إلا قبل انتهاء موعد العرس بخمس دقائق، وكنت أظن أن الأمر بالنسبة له انتهى، إلا أنه أصرَّ على الذهاب ولو لإلقاء السلام والتهنئة دون النزول من السيارة، فقلت له: حتى هذه لن يسمح بها الوقت المتبقي، لكنه أصرَّ، فذهبنا، وسبحان الله بالفعل أدركنا الوقت وتمكنَّا من تهنئة العائلتين وانصرفنا وهم في قمة السعادة أنْ لبَّى الشيخ دعوتهما.
وفي موقف آخر دُعِيَ الشيخ إلى 4 أعراس في يوم واحد؛ فقلت في نفسي اليوم لن يتمكن الشيخ من تلبية دعوة الجميع، لكنه أخلف ظني فلبَّى دعوتهم جميعًا، ومن الطريف أن كل عائلة أصرَّت أن يتغدَّى عندها، وهو في الأصل يكفيه خمس ملاعق أرز ليشبع، فاضطر أن يأكل ملعقتين عند كل عائلة كي لا يرد دعوتهم؛ فقد تميز رحمه الله بحضور متميز تعجَّب منه الجميع؛ ففي كل مناسبة تجدينه وقبل الجميع ما لم يشغله شاغل، حتى مخيمات الشباب كان يحرص على الذهاب إليها؛ لتشجيعهم وبث روح المقاومة ورفع الروح المعنوية دائمًا كان يمنيهم بالمستقبل ويدفعهم للعمل له، حتى عندما أصيب عام 88 في الفقرة القطنية في العمود الفقري، وأمر الدكتور الزهار بمنع الزائرين، وأن يستلقي على ظهره فوق لوح خشبي على الأرض ويرتاح تمامًا، فبمجرد خروج الدكتور الزهار، طرق الباب أحد السائلين، ففتحت له وأخبرته أن الطبيب منع عنه الزيارة، فقال لي: دقيقة واحدة فقط، فسمعه الشيخ وقال: دعه يدخل، فدخل وكلم الشيخ ثم خرج، وبعد دقائق جاء آخر، ثم ثالث، وكل منهم يقول: دقيقة واحدة لو سمحت، وفي آخر اليوم ضحك الشيخ قائلاً: اشتغلت أكثر من الأيام العادية.. الأيام العادية كنت أخرج وأتحرك، لكن الآن أصبحت متفرغًا لهم تمامًا!!.
رحمه الله.. تسبَّبت هذه الإصابة في برودة أطرافه بشكل دائم، فكان يجلس في أحد أركان الغرفة ويستند بظهره إلى الحائط ونعلِّق له قريبًا من رأسه إضاءة للتدفئة وللقراءة ليلاً.
* هذه الشخصية الرقيقة، كيف كانت تتحمل أعباء القضاء وفضّ المنازعات؟ ألا ترى أن هذه الأعباء تحتاج إلى شدة في بعض الأحيان؟!
** كثيرًا ما حاول الناس استغلال حسن خلق الشيخ، وظنوا أنه سيتهاون في الحقوق باسم التسامح؛ فمثلاً زارتنا ذات يوم أسرة قام أحد أبنائها بقتل أحد أبناء أسرة أخرى!! وظنوا أن الشيخ سيشفع لهم عند أهل المقتول ليعفوا عنه وينتهي الأمر، لكنه أمرهم أن يذهبوا بابنهم ويسلموه للعدالة، فأصابتهم صدمة في بادئ الأمر، ثم بعد أيام اعترفوا بأن الشيخ كان على حق؛ فمن الرحمة بالضعيف أن نأخذ له حقه من القوي، وإلا عمَّت الفوضى، وهذا ما جعل الجميع يرضى بحكم الشيخ، بعض المشكلات كانت تستمر 4 سنوات وأكثر، ثم يأتي الطرفان للشيخ قائلين: اقضِ في أمري بما شئت وأنا راضٍ؛ ففي إحدى المنازعات المادية طلب الشيخ من كلا الطرفين دفع 10 آلاف دولار، ثم دعاهما للحضور، ليتتبَّع أثر المشكلة من أولها، وكلما وجد حقًّا لأحدهما أخذه من نصيب الآخر وأضافه إلى نصيب صاحب الحق، حتى انتهت المشكلة بأن أحدهما أخذ 19 ألفًا والآخر لم يأخذ إلا ألفًا واحدًا، وخرجا راضيَيْن بحكم الشيخ، ثم ظهر شريك ثالث لهما، لم يكن موجودًا وقت المنازعة، ولم يعجبه ما حكم به الشيخ، فقال له الشيخ: حقك عندي أنا وما تريده سأعطيه لك، لكنه خرج غاضبًا ولم يعجبه، إلا أن والدَيه جاءا به بعد ساعات ليعتذر لنا ويسترضينا، وعرضا على الشيخ أن يدفعا عشرين ألفًا عوضًا عن العشرة آلاف التي دفعها شركاء ولدهما، وقالا له "بس تكون راضيًا عنا"، وقبَّلا رأس الشيخ.
سألته يومًا: كيف تجد حلولاً لهذا الكم من المشكلات؟ فأجابني: بالحكمة، لا بد لك من التجاوب مع الطرفين، وأن تستمع لهم جيدًا وتتفهَّم موقف كل منهما.
* ما أقسى حكم أصدره الشيخ؟
** لا أذكر تحديدًا، لكن أذكر واقعة لا تُنسى اهتزَّت لها غزة كلها؛ ففي إحدى المنازعات اقتحمت مجموعة مسلحة أرضًا يمتلكها أحد المواطنين، وأقاموا حولها سورًا، ثم قسَّموا الأرض بسرعة وباعوها لحوالي 15 فردًا ظنًّا منهم أن هذا سيعجز صاحب الحق عن استرداد حقه، ورفع صاحب الأرض شكواه للشيخ، وما إن علم بذلك المشترون حتى أسرعوا بالبناء، حتى يثبت كل منهم حقه، فأمرهم الشيخ بعدم البناء، لكنهم لم يلتفتوا لكلامه وشرعوا في البناء، فأرسل الشيخ ما يقارب 20 رجلاً أزالوا جميع المباني في أقل من ثلث ساعة؛ مما أصاب الجميع بالعجب، وذهب أصحاب المباني يتوسلون إلى الشيخ، فقال لهم: ألم أقل لكم أن تتوقفوا عن البناء حتى نعرف صاحب الحق ونعيد له حقه، فلم يجدوا بدًّا من الإذعان لأوامر الشيخ.
كما أن رحمة الشيخ بالناس لم تمنعه من إعادة الحقوق لأصحابها؛ مما جعل أكبر العائلات وأعتاها ترتعد عند سماع اسمه، بمجرد أن يرسل لها رسولاً يخبرهم بأنه مرسل من عند أحمد ياسين، فينتفضون قائلين: ماذا يريد أحمد ياسين، فسبحان الله، على الرغم من أن هذه العائلات مسلحة، والشيخ رحمه الله لم يكن يملك ولا قطعة سلاح واحدة، ولم يستخدم السلاح قط في فض المنازعات إلا أن الله قد أنعم عليه بمهابة وضعها في قلوب الناس.
* وكيف كان يقضي الشيخ في منازعة أحد أطرافها ابنه مثلاً؟
** على العكس مما يتصور الجميع، كان أكثر حرصًا على تحري الحق؛ لأنه حرص دائمًا على تربيتنا على الحق، وأذكر ذات يوم أن اغتاب أحد أخوتي جارًا لنا، فشكاه الجار للشيخ، وبالرغم من أن الأمر بسيط وأن الرجل فعلاً يحمل هذه الصفة إلا أن الشيخ أصرَّ على اعتذار أخي لهذا الجار، رحمه الله كان يحب الصدق والبساطة والمواجهة ورد الحقوق لأصحابها والتصافي حتى تبقى القلوب لا تحمل ضغينةً.
حوار- إيمان يس
ليست ذكرى جريمة اغتيال شيخ المجاهدين "الشهيد" أحمد ياسين التي ارتكبها سفاكو الدماء الصهاينة الغاصبون فجر يوم الإثنين 22 مارس 2004 مناسبةً للتباكي، ولكن لنجدد تأكيدنا أن المقاومة هي الطريق الوحيد للانتصار، وأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأنّ معركة الكرامة في فلسطين هي معركة استرداد الجماهير إرادتها المسلوبة، وحقها في القرار، وفي أن يكون حكامها تعبيرًا عنها، لا عن مصالحهم وارتباطهم بالأعداء.
http://www.ikhwanonline.com/Data/2008/3/2/imgg1.jpg
عبد الحميد أحمد ياسين
لقد أضاء الشهيد أحمد ياسين سماء الأمة الإسلامية والعربية الملبَّدة بغيوم الجهل والضلال والغواية، وجعل للشهادة وللدفاع عن القضية معنى، وقال لنا قبل أن يرحل للخلود: "أنا مُقْعَد وصنعت ما لم تصنعوه أنتم يا أصحاب الأجساد الصحيحة؛ فإنكم أنتم الواقفون الراكضون تستطيعون أن تفعلوا أكثر مني بكثير".
وبعد مرور 4 سنوات على ذكرى استشهاد الشيخ التقى (إخوان أون لاين) بأحد أبنائه، الذي كان يرافقه في كل تحركاته لنتعرف على جوانب من حياة الشيخ أحمد ياسين الإنسانية والاجتماعية، والتي لم يعرفها الكثير، فكان هذا الحوار مع عبد الحميد أحمد ياسين:
* إذا كانت الذكرى العطرة لاستشهاد الشيخ الشهيد أحمد ياسين هي اليوم الذي تنهمر فيه دموع اليتيم والجريح والمحتاج والمهموم حزنًا على فراقه؛ فما هو اليوم الذي بكى فيه شيخ المقاومة الفلسطينية؟
** عادةً ما كان يبكي الشيخ لاغتيال المجاهدين خاصةً من القيادات، ولكن ما رأيته بكى أحدًا مثلما بكى الشيخ المجاهد صلاح شحادة، ويومها زارنا الإعلام قبل أن يزور منزل أهل الشهيد شحادة، وسألوه: ماذا تقول في اغتيال القائد العام لكتائب عز الدين القسام؟! فأجاب قائلاً: "نترك الأفعال هي التي تتكلم".
http://www.ikhwanonline.com/Data/2007/9/19/uu1img.jpg
الشهيد صلاح شحادة
* في الذكرى الرابعة لاستشهاد الشيخ أحمد ياسين.. ما هي الأمنية التي تمنَّاها فتحققت؟ وما هي التي لم تتحقق؟
** هناك أمنيتان كان يتمنَّاهما الشيخ رحمه الله وتحقَّقتا، وهما: إقامة مدرسة دار الأرقم، فقد كان يحلم أن تكون له مدرسة خاصة، تُخرج جيلاً يتربَّى على الإسلام بحق، واستطاع رحمه الله أن يحقِّق هذه الأمنية قبل 5 أعوام من استشهاده، أما الأمنية الثانية فكانت الشهادة.
والأمنية التي تمنَّاها ولم تتحقق هي ألا يدقّ باب بيتنا سائل، وأن يرزقنا الله ما يكفينا أن نعطي كل محتاج وهو في بيته معزَّزًا مكرمًا، لكنها إرادة الله.
* عُرف عن الشيخ رحمه الله سعيه الدائم للحفاظ على وحدة الصف الفلسطيني، وتقريب وجهات النظر بين شتى الفصائل، فكيف استطاع ذلك رغم كل ما كان يحاك لضرب الوحدة الفلسطينية؟
** لم يكن الشيخ رحمه الله يفرِّق بين أبناء الشعب الواحد، وأذكر بعد استشهاده رحمه الله، التقيت بشاب فتحاوي، فأوقفني ليسألني عن حالي، ثم فاجأني بقوله: أقسم بالله أني لن أنسى الشيخ أبدًا، وأن الله وحده يعلم مدى حبه للشيخ، فاستغربت كلامه وسألته عن السبب، فروى لي قصته مع الشيخ قائلاً: "ذهبت إلى الشيخ في أحد الأيام لأطلب مساعدته لأشتري ثلاجة لبيع بعض المشروبات، فنظر إليَّ مبتسمًا، ثم نظر إلى أخيك الأصغر عبد الغني وسأله عني: أيصلي؟! فأجابه عبد الغني بغضب: نعم يصلي ولكنه فتحاوي يا شيخ، فصاح به الشيخ قائلاً: اسكت، ثم أمره أن يعطيني ثمن الثلاَّجة، وقال: ما دام يصلي أعطه، وضحك الشاب قائلاً: "فوالله لا أنساها له أبدًا.. رحمه الله".
* وهب الشيخ رحمه الله وقته كله لخدمة الشعب الفلسطيني، لدرجة وصلت إلى أن باب بيتكم كان يُطرَق ليل نهار، حتى على مائدة الإفطار، فمتى كان يستريح الشيخ؟ وكيف كان ينظِّم يومه؟
** الشيخ رحمه الله كان 24 ساعةً في خدمة الناس، لا يعرف معنى الراحة؛ مما جعل مجموعةً من الإخوة يقترحون عليه أن يغلق باب المكتب ما بين الظهر والعصر، ويجعل هذا الوقت للنوم، فأجابهم برفض واستنكار شديدَين: "أنام، وإحنا جايين هنا ننام!! ومين يخدم الشعب؟"، لم يكن عنده وقت حتى لتناول الطعام، فقد كان يؤذن المغرب ولم يتناول وجبة الغداء بعد، ولا ينام ولا يهدأ له بال إلا إذا تأكد من خلوِّ المكتب تمامًا من أصحاب الحاجات، ويستيقظ فور قدوم أي سائل.
كان الناس ينتظرونه من الصباح الباكر قبل حتى وصوله للمكتب، خاصةً في الثمانينيات لم تكن هناك سلطة ولا قضاء، وكانت البلد منتهى الفوضى، فكان وحده دولة، ينظِّم كل شيء ويفصل في كل النزاعات والمشكلات، ولكن فيما بعد لم يعد يقدر أن يوفي احتياجات الجميع؛ فعيَّن بعضَ مَن يثق بهم لمساعدته في حل المشكلات، وأصبحوا يرفعون للشيخ فقط ما يعجزون عن حله ليقوم بحله بنفسه، لكن بعد أن يجمعوا له جميع المعلومات ويجروا التحقيقات والتحريات اللازمة ويقوموا بتلخيص الأمر له حتى يسهل عليه فهمه والنظر فيه.
* وأنتم كأسرة ألم يكن يزعجكم هذا؟ متى كنتم ترتاحون؟ ومتى كنتم تستذكرون دروسكم.. إلخ؟
** صدقيني كنا ننتظره في الطريق أثناء مروره لقضاء بعض احتياجاته؛ حتى نستطيع أن نسلم عليه، وأحيانًا كنا نشتاق إليه جدًّا فنغلق باب البيت لمدة لا تزيد عن ربع ساعة لنتمكن من قضاء بعض الوقت معه، ثم نشعر بالحرج من المنتظرين على الباب ونضطر للمغادرة سريعًا، بالنسبة لي فأنا كنت مرافقه، لكن باقي إخوتي- وخاصةً البنات- كيف يستطيعون الجلوس معه في وجود الناس، هكذا كانت حياتنا ونحن راضون بها.
* ألا تذكر ولو لمرة واحدة ردَّ فيها الشيخ سائلاً أو محتاجًا أو طالبًا لمساعدة من أي نوع؟
** والدي رحمه الله كان شديد الاتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورغم انشغالاته لم يكن يردّ أو يرفض طلبًا لأحد، حتى من كان يدعوه إلى عُرسه؛ عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعيتم فلبُّوا"، أذكر أننا دُعينا إلى عرس، وفي الموعد المحدَّد شغل الشيخ جدًّا في حل مشكلة بين اثنين ولم ينتهِ منها إلا قبل انتهاء موعد العرس بخمس دقائق، وكنت أظن أن الأمر بالنسبة له انتهى، إلا أنه أصرَّ على الذهاب ولو لإلقاء السلام والتهنئة دون النزول من السيارة، فقلت له: حتى هذه لن يسمح بها الوقت المتبقي، لكنه أصرَّ، فذهبنا، وسبحان الله بالفعل أدركنا الوقت وتمكنَّا من تهنئة العائلتين وانصرفنا وهم في قمة السعادة أنْ لبَّى الشيخ دعوتهما.
وفي موقف آخر دُعِيَ الشيخ إلى 4 أعراس في يوم واحد؛ فقلت في نفسي اليوم لن يتمكن الشيخ من تلبية دعوة الجميع، لكنه أخلف ظني فلبَّى دعوتهم جميعًا، ومن الطريف أن كل عائلة أصرَّت أن يتغدَّى عندها، وهو في الأصل يكفيه خمس ملاعق أرز ليشبع، فاضطر أن يأكل ملعقتين عند كل عائلة كي لا يرد دعوتهم؛ فقد تميز رحمه الله بحضور متميز تعجَّب منه الجميع؛ ففي كل مناسبة تجدينه وقبل الجميع ما لم يشغله شاغل، حتى مخيمات الشباب كان يحرص على الذهاب إليها؛ لتشجيعهم وبث روح المقاومة ورفع الروح المعنوية دائمًا كان يمنيهم بالمستقبل ويدفعهم للعمل له، حتى عندما أصيب عام 88 في الفقرة القطنية في العمود الفقري، وأمر الدكتور الزهار بمنع الزائرين، وأن يستلقي على ظهره فوق لوح خشبي على الأرض ويرتاح تمامًا، فبمجرد خروج الدكتور الزهار، طرق الباب أحد السائلين، ففتحت له وأخبرته أن الطبيب منع عنه الزيارة، فقال لي: دقيقة واحدة فقط، فسمعه الشيخ وقال: دعه يدخل، فدخل وكلم الشيخ ثم خرج، وبعد دقائق جاء آخر، ثم ثالث، وكل منهم يقول: دقيقة واحدة لو سمحت، وفي آخر اليوم ضحك الشيخ قائلاً: اشتغلت أكثر من الأيام العادية.. الأيام العادية كنت أخرج وأتحرك، لكن الآن أصبحت متفرغًا لهم تمامًا!!.
رحمه الله.. تسبَّبت هذه الإصابة في برودة أطرافه بشكل دائم، فكان يجلس في أحد أركان الغرفة ويستند بظهره إلى الحائط ونعلِّق له قريبًا من رأسه إضاءة للتدفئة وللقراءة ليلاً.
* هذه الشخصية الرقيقة، كيف كانت تتحمل أعباء القضاء وفضّ المنازعات؟ ألا ترى أن هذه الأعباء تحتاج إلى شدة في بعض الأحيان؟!
** كثيرًا ما حاول الناس استغلال حسن خلق الشيخ، وظنوا أنه سيتهاون في الحقوق باسم التسامح؛ فمثلاً زارتنا ذات يوم أسرة قام أحد أبنائها بقتل أحد أبناء أسرة أخرى!! وظنوا أن الشيخ سيشفع لهم عند أهل المقتول ليعفوا عنه وينتهي الأمر، لكنه أمرهم أن يذهبوا بابنهم ويسلموه للعدالة، فأصابتهم صدمة في بادئ الأمر، ثم بعد أيام اعترفوا بأن الشيخ كان على حق؛ فمن الرحمة بالضعيف أن نأخذ له حقه من القوي، وإلا عمَّت الفوضى، وهذا ما جعل الجميع يرضى بحكم الشيخ، بعض المشكلات كانت تستمر 4 سنوات وأكثر، ثم يأتي الطرفان للشيخ قائلين: اقضِ في أمري بما شئت وأنا راضٍ؛ ففي إحدى المنازعات المادية طلب الشيخ من كلا الطرفين دفع 10 آلاف دولار، ثم دعاهما للحضور، ليتتبَّع أثر المشكلة من أولها، وكلما وجد حقًّا لأحدهما أخذه من نصيب الآخر وأضافه إلى نصيب صاحب الحق، حتى انتهت المشكلة بأن أحدهما أخذ 19 ألفًا والآخر لم يأخذ إلا ألفًا واحدًا، وخرجا راضيَيْن بحكم الشيخ، ثم ظهر شريك ثالث لهما، لم يكن موجودًا وقت المنازعة، ولم يعجبه ما حكم به الشيخ، فقال له الشيخ: حقك عندي أنا وما تريده سأعطيه لك، لكنه خرج غاضبًا ولم يعجبه، إلا أن والدَيه جاءا به بعد ساعات ليعتذر لنا ويسترضينا، وعرضا على الشيخ أن يدفعا عشرين ألفًا عوضًا عن العشرة آلاف التي دفعها شركاء ولدهما، وقالا له "بس تكون راضيًا عنا"، وقبَّلا رأس الشيخ.
سألته يومًا: كيف تجد حلولاً لهذا الكم من المشكلات؟ فأجابني: بالحكمة، لا بد لك من التجاوب مع الطرفين، وأن تستمع لهم جيدًا وتتفهَّم موقف كل منهما.
* ما أقسى حكم أصدره الشيخ؟
** لا أذكر تحديدًا، لكن أذكر واقعة لا تُنسى اهتزَّت لها غزة كلها؛ ففي إحدى المنازعات اقتحمت مجموعة مسلحة أرضًا يمتلكها أحد المواطنين، وأقاموا حولها سورًا، ثم قسَّموا الأرض بسرعة وباعوها لحوالي 15 فردًا ظنًّا منهم أن هذا سيعجز صاحب الحق عن استرداد حقه، ورفع صاحب الأرض شكواه للشيخ، وما إن علم بذلك المشترون حتى أسرعوا بالبناء، حتى يثبت كل منهم حقه، فأمرهم الشيخ بعدم البناء، لكنهم لم يلتفتوا لكلامه وشرعوا في البناء، فأرسل الشيخ ما يقارب 20 رجلاً أزالوا جميع المباني في أقل من ثلث ساعة؛ مما أصاب الجميع بالعجب، وذهب أصحاب المباني يتوسلون إلى الشيخ، فقال لهم: ألم أقل لكم أن تتوقفوا عن البناء حتى نعرف صاحب الحق ونعيد له حقه، فلم يجدوا بدًّا من الإذعان لأوامر الشيخ.
كما أن رحمة الشيخ بالناس لم تمنعه من إعادة الحقوق لأصحابها؛ مما جعل أكبر العائلات وأعتاها ترتعد عند سماع اسمه، بمجرد أن يرسل لها رسولاً يخبرهم بأنه مرسل من عند أحمد ياسين، فينتفضون قائلين: ماذا يريد أحمد ياسين، فسبحان الله، على الرغم من أن هذه العائلات مسلحة، والشيخ رحمه الله لم يكن يملك ولا قطعة سلاح واحدة، ولم يستخدم السلاح قط في فض المنازعات إلا أن الله قد أنعم عليه بمهابة وضعها في قلوب الناس.
* وكيف كان يقضي الشيخ في منازعة أحد أطرافها ابنه مثلاً؟
** على العكس مما يتصور الجميع، كان أكثر حرصًا على تحري الحق؛ لأنه حرص دائمًا على تربيتنا على الحق، وأذكر ذات يوم أن اغتاب أحد أخوتي جارًا لنا، فشكاه الجار للشيخ، وبالرغم من أن الأمر بسيط وأن الرجل فعلاً يحمل هذه الصفة إلا أن الشيخ أصرَّ على اعتذار أخي لهذا الجار، رحمه الله كان يحب الصدق والبساطة والمواجهة ورد الحقوق لأصحابها والتصافي حتى تبقى القلوب لا تحمل ضغينةً.