قصة قصيرة تماثيل رخام حامد الزبيدي

[محمد حسين سعيد بور]

حامد الزبيدي

تماثيل رخام



رحلت الشمس تقضي ليلتها في أحضان الكون العميق وتركت وراءها خيط قرمزي باهت في الشفق البعيد كندب احمر في وجه السماء ، ورفرفت الدياجير في البيوت ، واستنار القصر الواسع ، برجال ، تخرج النار من عيونهم وأفواههم وأيديهم . والإمبراطور الجالس في شرفته ، تخرج الأصنام من بين قدميه ، تحملها الريح ، تمطرها السماء ظلاما .

استفاق من تلك الصور النائحة في ذهنه ، الصور التي ابتدعتها مخيلته من قسوة الجراح والألم ، حين سمع زغاريد وهتافات عارمة في الطرقات البعيدة ، نهض من فراشه وخطى بضع خطوات مرتبكة صوب الكوة الصغيرة ، وبدأ يتطلع من خلالها ، رأى الناس يرفعون الأصنام بأيديهم ويقذفونها في الهواء . التفت الى الصنم القابع في غرفته المظلمة ، رأى زوجته الحبلى ، تعوم في حوض الماء الملكي ، انتفض من صمته وسكونه ثم ذهب نحو الصنم ، مسكه بكلتا يديه ، وخرج به من البيت وهو يتطلع في الوجوه المزورة والأفواه الثائرة , ويصيخ السمع الى أحاديثهم ،

:هلموا بنا نرمي الأصنام خارج الأسوار .

وآخر : بل نجعلها جذاذا كما جعلها الأولين .

وثالث : هيا بنا نأخذها الى ساحة الاحتفالات وهنالك نحرقها .

انطلقت الحشود كالموج الهادر متجةً الى الساحة وهنالك أخذت تدور حول التمثال الكبير الذي كان يضع المسلة الذهبية بين يديه ، وهي تلقي بأصنامها إمامه ، تكومت الأصنام فوق الأصنام ، خرجت زمرة فتية من بين الحشود ، وأحرقت الأصنام ، ذاب التمثال الكبير والمسلة الذهبية ، شعر بحرقة في صدره وضيق واختناق مما يفعلون ، لذا قرر الانسحاب ، سل نفسه خلسةً من بين الحشود ، ذهب ليختبئ في غرفته الطينية , دفع الباب , فوجئ بصنم في الممر ، أشاح بنظره الى الجهة الأخرى ومرق عنه , دلف في الغرفة وقال في ذات نفسه : خيل اليَّ , إني رأيت صنماً في الممر .

ومضى يتطلع الى الخزانة في الظلام , سقط في مستنقع الانهيار وتمحور في ذاته عندما سمع أزيز طائرات ودوي انفجارات , هرع يتخبط في الظلام نحو الكوة الصغيرة , وعلى امتداد بصيرته الواسعة , رأى رحيل قافلة الإبل , والنيران تلوك البيوت وتبتلع بيادر القمح , والرجال والنساء تطير في الهواء , تتصادم , تسقط نثيث احمر فوق جثث الاطفال المنتفخة , وأقدام حافية كأنها أسراب حمام تائهة في السماء . ارتطمت جبهته بحافة الكوة ثم رجع الى الخلف واسند رأسه الى الخزانة , شعر بسيل دافئ ينهمر على خديه , رفع يده الى وجه , مسح الدم عنه ثم جلس على السرير , حس بشيء غريب تحت عجيزته ,مد يده الى الخلف وجد الفراش مليء بالأصنام , جفل من مكانه ونهض مذعورا , يصيخ السمع الى ناقوس الرحيل الذي كان, يدق الباب , ذهب الى الخزانة ثم فتح بابها واخرج منها الحزام , شده على بطنه ثم انطلق من البيت وهو ينادي بأعلى صوته .

يا أيها الناس , ان الأصنام التي تحملها الريح لا تمت لنا بصلة ولا تمثل أرادتنا .

ثم صمت عن الكلام , بعد ان اقترب من أؤلئك الذين كانوا ينظرون صوب السماء المليئة بالدخان وكأنهم تماثيل رخام .

انطلق من بين التماثيل ,وقف إمام القصر الواسع , ينظر الى ذلك الإمبراطور الجالس في شرفته ,قفز من فوق السور , انزوى تحت الشرفة , هبطت عليه الكائنات كأسراج الليل اقتربت منه . صرخ بهم .

الله اكبر (أشكد ) أحبك يا وطن الكبرياء .

ثم ضغط على زر الحزام المقدس , اشتعلت النيران وتحول القصر الواسع الى كومة ركام ورماد .

[سهيل]

بارك الله فيك

قصة قصيرة وجميلة