ولنا لقاء اخر قصة قصيرة حامد الزبيدي

[محمد حسين سعيد بور]

ولنا لقاء اخر
قصة قصيرة : حامد الزبيدي
أكمل الإمام خطبة الجمعة بالدعوات للمظلومين والضحايا الأبرياء والمضطهدين وهبط من المنبر ثم صلى بالمؤمنين والمنافقين وختم الصلاة بالتسابيح، دنى منه شيخا ملتحياً واثنا عليه ثم ربت بيده على كتفه وشدها بقوة وأفضى ما يجول في ذهنه.
يا لها من خطبة أثلجت القلوب المؤمنة وأنارت الألباب المظلمة بالمعرفة.
ثم همس إليه بيقين.
أنت من أمة قد خلت من عظماءها وحان الحين أن تنجب أمثالهم.
دس في يده ورقة صغيرة، أثناء المصافحة ومضى عنه ، انزوى الإمام خلف المنبر وتطلع إلى ما فيها بصمت وسعى بهدوء وانساب بسكينة، كمن كان واثقا بنفسه، وقف في باحة المسجد كالعملاق وهو ينظر بتمعن في زحام الناس الوافدين والخارجين رأى الذي كان يبحث عنه، رفع يده إلى الأعلى وصاح إليه.
هيه . تعال، تعال.
وعندما اقترب منه الشاب أشار إليه بإيماءة من عينيه ، ابتعد عن الناس و الشاب يتبعه وقف الإمام، ومثل الشاب أمامه.
نعم شيخي.
سأمضى إلى المخزن، التحق بي أنت والقناص إلى هناك- سنخرج الليلة بمهمة.
أين؟
لا عليك ألان، امض.
حسن
ثم أنطلق الشاب على عجل وخرج من المسجد والإمام نسل من بعده وهو يتأمل مكان الصولة في أخيلته وما سيقوم به الشابين اللذين وقع عليهما الاختيار وقال في ذات نفسه نعم الاختيار. القناص جريئاً وله معي أكثر من صولة، انه شديد المراس عند المواجهة.
ولا يخطأ هدفه في أحلك الظلام، وكذلك هذا المغوار الذي لا ينام إلا والقاذفة في حضنه.
دفع الباب الخارجي ، دخل في بيت خال، وأخرج من الغرفة المظلمة ثلاث عبوات، وجهزهن بكل ما يملك من تجربة وخبرة ثم وضعهن برفق في صفيحة فارغة وأحكم عليهن السدادة. ثم لف عمامته البيضاء بقوة على رأسه.
مد يداه أمام وجوده بذل وقال.
يا ربنا اغفر لنا وكفر عن سيئاتنا وخطايانا..
(عاد الى الصفيحة وهو يغمغم) لو لم نكن امة منافقة لما لبسنا ثوب الخوف والجوع وهبطنا إلى الدرك الأسفل، رحماك يا ربنا من هذا العذاب الذي لا طاقة لنا به.
سكت عن الكلام حين شعر بدخول الشابين الملثمين والمدججين بالسلاح.
جلس الثلاثة حول الصفيحة وتحدث الإمام عن مكان الصولة وشرح لهما الخطة بإمعان وترو حتى غابت الشمس وهرهر الليل بفيض الظلام، خلد الناس في البيوت المظلمة ونامت الأطيار مرتجفة في أوكأنها ولاحت النجوم في معبد السماء تنثر النور ولم يظهر القمر في ذلك المحفل الحالك، خرج الثلاثة من البيت وهم يتناوبون في حمل الصفيحة إلى المكان المنشود وهناك انطلق الإمام ،كفلاح يبذر بذوره والشابان يحرسانه من الخلف ويؤمنان إليه الطريق ولما أفرغ من دفن العبوات الثلاثة في الطريق، انظم إلى صاحبيه اللذين كانا يتطلعان إلى صيديهما من دبابة أو همر أو ناقلة جنود، لاحت إليهم من بعيد أضوية متحركة،رصدوها بشوق وتهيؤا لها نفسياً وكانوا على أهبة الاستعداد ، وحين أقتربت الدبابة الأولى وهما يتطلعان في وجه الإمام الذي تجمد ولم يظهر أي انفعال ، مرقت من فوق العبوات وكذلك الثانية والإمام لم يحرك ساكناً ولم يطلق جام غضبه، انه ما زال ضاغطاً على نفسه وكاتماً على نفسه وعينيه الجاحظتين تمروا بالغضب، وصلت الدبابة الثالثة الهدف ومن وراءها ناقلة جنود تسير عن بعد عنها، خرج الإمام من مكمنه ووقف كما كان يقف - حمزة يوم بدر أو احد -وصرخ بأعلى صوته، صرخة قائد محنك في ساحة الميدان،
تأهبوا.
ثم فجر العبوات الثلاث واشتعلت النيران، تشرذمت الدبابة إلى قطع صغيرة من الجمر الأحمر المتناثر في الظلام والدبابة الثانية غيرت مسارها وعادت إلى المكان وراميها كان يطلق الرصاص بعمية وبطريقة عشوائية،حصد فيها الهواء والظلام والبيوت الآمنة، عالجه القناص حتى أرداه قتيلاً وأخذت الدبابة بالانسحاب التراجعي ثم لاذت الفرار أما ناقلة الجنود ظهر جنودها كل منهم يرمي باتجاهه وهم يصرخون صراخاً هيستيرياً ويطلقون الرصاص بلا تعين.
صوب المغوار قاذفته وأطلق الصاروخ على الناقلة التي تحولت إلى قطعة جمر، طار منها جنديا في العراء، ولم يكتف المغوار بذلك حيث سدد مرة أخرى وهبت النيران فيها والإمام يكبر بأعلى صوته.
الله اكبر الله اكبر
ولم يكف عن التكبير إلى أن سمع صوت مروحية قادم من بعيد، أمرهم بالانسحاب إلى الجهة الأخرى، انطلق الثلاثة كالسهام واجتازوا الطريق، عثر الإمام وانكفأ على وجهه ، سمع أنينا وأنفاسا متقطعة، اقترب من الذي عثر به، فوجده يتنشق الهواء بصعوبة، جلس عن قرب منه ونادى على صاحبيه بهمس لكن دونما جدوى لقد غابا في الظلام، مدد جسده بمحاذاته خشية أن ترصده المروحية التي كانت تحوم في السماء الذليلة، أطلقت قنبرة تنوير في الفضاء وأخذت تمزق بأحشاء السماء بعيداً تطلع الجندي في وجه الإمام ثم أسدل جفنيه ببطء وأطلق العنان لذكرياته الكامنة في نفسه، راى نفسه في ولايته بين أصدقائه وعشيقاته وتلك الليالي الحمر التي كان يقضيها في المراقص والمواخير، صور كثيرة تغيب وتظهر في ذهنه لكن صورة واحدة فرضت نفسها أكثر من غيرها، تلك الصورة التي غرر بها ولبس ثوب البربرية المصبوغ بألوان وحشية وترك حياته ومجونه وجاء -ليقتل وينهب ويسلب ويغتصب -بما صدرته دولته من حرية وديمقراطية معبئة في صناديق مزيفة ومزورة.. فقد الوعي وتلاشت تلك الصور الخبيئة، مد الإمام يده وجس نبضه، وتأكد من عدم موته ، سحب يده المخضبة بالدماء وخلع عمامته البيضاء ولف بها جراح صدره النازفة ثم رفعه بصعوبة بالغة الى صدره ووضعه على ظهره ونهض به والدماء تسيل ، مشى في الأزقة المظلمة، دلف به إلى أحد البيوت المعدة للحوادث الطارئة للمجاهدين، وطلب من الطبيب أن يعالجه، لكن الطبيب امتعض من ذلك واستهجن، إلا انه انصاع لمعاينته بحكم مهنته الإنسانية والإمام يناشده المعالجة، حدج الإمام بنظرة خاطفة وقال.
أخلع بزته وحذاءه.
خلع الإمام البزة والحذاء ومن ثم فل العمامة عن صدره، جمع أشياءه، ووضعها في زاوية الغرفة، والطبيب منشغلاً بتحضير أدواته، دخل عليهم أحد المجاهدين وهو ينظر إلى المريض المستلقي على السرير والغائب عن الوعي، بكره واحتقار قال وهو يشهر سلاحه نحوه،...
لا تعالجه، دعه يموت، دعه يرحل عنا جثة هامدة.
اقترب الإمام ووقف أمام فوهة البندقية وفتح ذراعيه.
مهلاً، مهلاً يا أخي.. نحن لا نكن لهم مثلما هم يكنون لنا.
صرخ المجاهد بالإمام.
ابتعد عنه لأضعها في رأسه (وأنعل أبو الدزه علينه)
اقترب الإمام حتى لامست الفوهة بطنه وقال بهدوء
ماذا تفعل يا أخي وأنت في ثورة الغضب، ألا تخشى غضب الله، انه جريح والنبي (عليه أفضل الصلاة والسلام) لم يقتل أسراه ولا جرحاه.
سحب المجاهد بندقيته وخرج من الغرفة وهو يردد
أستغفر الله من غضب الله .
أكمل الطبيب علاجه وبقي واقفاً بجانب السرير وهو ينظر إلى مريضه، ثم قال
لقد نزف كثيراً، وما أحوجه ألان إلى قنينة دم.
أجاب الإمام بحيرة.
من أين نأتي إليه بالقنينة؟
لا أعلم.
خذ من دمي وأنقذه.
لا أستطيع أن أجازف به.
دكتور حياتنا كلها مجازفة، جازف بحياته من أجل أن يعيش ولا تخف، هيا قبل فوات الأوان لا تتردد.
وضع الطبيب يده في جيبه وأخرج منديلاً، مسح به وجهه من العرق ثم تمعن طويلاً في وجه المريض الساكن،كسر الإمام الصمت وبدد الحيرة
هيا افعلها، ثق أن دمي يستضيف كل الاجساد دون استثناء وقد أعطيت منه الكثير. بلا فحص.
قال الطبيب بحزم ، أو أراد أن يتخلص من دوامة الحيرة التي تعتريه.
هيا اجلس.
جلس الإمام على الأرض وسحب الطبيب من ذراعه قنينة دم ووضعها فوق مسند معدني ثم ضخها إلى جسم المريض قطرة قطرة.. وهو يعاينه بتوجس ورهبة.
رافقه الإمام سبع ليال قضاها في خدمته والسهر عليه وكأنه ولي حميم ولم يفكر أبدا إن هذا الراقد جاء ليقتله ولما استعاد عافيته قال الطبيب إلى الإمام.
قد تحسنت حالته وبإمكانه المغادرة وقت ما تشاء
اتجه الإمام صوب الزاوية والتقف ملابسه المضرجة بالدم الأسود اليابس وساعده بارتدائها ثم لف العمامة على وجهه وحجب عنه الرؤيا وقاده كالأعمى في الأزقة المظلمة الخالية من البشر، وقفا على الرصيف الذي دارت بقربه الصولة، فل العمامة عن وجهه ثم تركه ومضى والجندي يرنو إليه.. وما هي إلا برهة وفوجئ الإمام بهمر تسير بسرعة خطواته وبمحاذاته ، نظر إليها بالتفاتة سريعة ورأى الجندي في داخلها يرنوا إليه بابتسام، مد المترجم عنقه من نافذة العجلة وقال.
أنهم يقولون . ماذا يطلب منا مقابل تعاونه معنا؟
دونما أن يلتفت إليهم وهو يمشي بخطوات ثابتة في الطريق.
ليخرجوا من الوطن بسلام وإلا سيكون لنا لقاء أخر.
ثم انعطف عنهم في ذلك الزقاق.
18/10/2007