المطارد قصة قصيرة حامد الزبيدي

[محمد حسين سعيد بور]

المطارد
كانت السماء خالية و الصباح يفجر ينابيع الحياة من جديد ، اخترق بكارة الصمت صوت هزاز يصدح . كان واقفا في وكره فوق الشجرة الوحيدة التي تعيش في المقبرة ، اقترب من ذلك الصوت الشادي يملئ روحه العطشى من أنغام الفجر الطالع ، لكن الهزاز أطلق جناحيه يرفرفان في الفضاء الواسع ، انقطع الصوت و مات الصداح ، عاد السكون الأبدي في أروقة المقبرة ، خرج منها ينفض غبار الزمن المتراكم من ملابسه البالية ، كان يمشي في الشارع المحاذي لجدول المدينة ، ينظر إلى وشل الماء القابع في الحوض ، فوقعت أوراق يابسة تنكسر تحت قدميه ، وقف أمام السور الذي يفصل الجدول عن الشارع يغسل عينيه بتلك المناظر التي كان يراها منذ سنين خلت ، لم يتغير فيها شيء ، الأشجار ، الأوحال ، الحلفاء ، الخوف ، الأدغال هي ، كما فارقها ، حنين المكان أشعل فيه نيران الذكريات ، جاء يدفئ قلبه و يروي روحه من عطش الغربة شد انتباهه رجل كان يراقبه من خلف السور ، شعر بان عينيه تطاردانه ، تحرك من مكانه ، مرق من أمامه فتابعه الرجل من خلف السور ، ركض ، ركض وراءه ، التفت إلى جانب السور فرأى ذلك الوجه القبيح يلاحقه استغل انشغاله بالقفز من خلف السور مضى في الأزقة الموحلة ، يهرول من مكان إلى آخر لا على التعيين ، كان المهم أن يضلل نفسه عنه . دخل الحديقة العامة و هو يشعر بلذة النجاة و التخلص من ذلك الوهم الذي كان يطارده جلس على أريكة من الخشب ، يتمتع بأناشيد الصباح التي تنشدها جوقة الطيور فوق الأغصان رسمت تلك الأصوات الحرة و الرقصات الابتسام على وجهه المثقل بالهموم .
سرت رعشة ارتياح في دماءه و انتفض القلب من السرور كاد يقفز من قفص الجسد و يلعب مع الطيور ، أيقظ الأسرار و الخفايا لكنها جثمت في سراديبه المقفلة حيثما رأى ذلك المتلصص ينظر إليه من خلف الأشجار ، نهض من مكانه ، راوغ الصياد الذي كان يطارده ، ركض في ممرات الحديقة التي تسورها أشجار ألآس الكثيفة و هو يتبعه ، خرج من الحديقة ، ضيع نفسه بين الحافلات وسط الناس .
دخل المقهى و جلس في زاوية مهمات بعيدة عن الجالسين كي يسترد نفسه و يهدى روحه من الخوف الذي يطارده .. لما يطاردني ؟ لا افهم بالضبط لما أنا بالذات . صمت عن الصراخ الروحي و انتبه بصمت إلى الهمس الذهني ..
ـ ( إنني أعرفك لم تسرق لم تقتل أو تكذب .. أنت رجل سوي ليس لديك شان بالأحزاب ) ثم سكت الهمس عن الكلام و انطلق الصراخ .
لا ربما تحدثت واحد ما سمعني .. إنني دائما اعبر عن رائي بصراحة دون مجاملة أو نفاق و عاد ما يشبه الهمس ..
ـ ( كان هذا في الأعماق ) ..
ـ ( إذا لم قضيت سنين العمر مطاردا ؟ )
وضع النادل قدح الشاي ، انتبه إليه ، انه ذلك الرجل الذي كان يطارده ، شعر بالغثيان ..
ـ ( ماذا تريد مني ؟ )
جلس النادل إلى جانبه و قال له :
ـ ( أنت مطلوب في القسم .. )
ـ ( أي قسم ؟ أي جريمة اقترفتها )
ـ ( هناك ستعرف كل شيء .. )
نهض من مكانه كالثعلب و قال له :
ـ ( حسنا .. حسنا سأشرب قدح ماء و اذهب معك إلى حيث ما ترغب .. ) .
ذهب إلى صنبورة الماء و من هناك فر هاربا من المقهى بعيدا عنه و هو يركض اهتدى بفكرة ، أن يترك المدينة ، يرحل إلى مدينة أخرى ، دخل إلى المآرب و هو يفترس الوجوه يجفل من كل من يقترب منه أو يمشي خلفه صعد إلى الحافلة خلسة ثم انطلقت .. غير مكترث بصوت هدير الماكنة كان ينظر في الوجوه من خلال زجاجة شباك الحافلة التي كانت تسير بصعوبة بالغة ، ارتعد بدنه و طار قلبه من مكانه حينما رأى وجهه في قطعة الزجاج ينظر له ، التفت إلى جنبه فوجد كتفه يلاصق كتفه فقفز من فوق الجالسين ثم فتح الباب و رمى بنفسه على الرصيف و الحافلة تسير و هو يركض باتجاه معاكس حتى نفذت أنفاس النهار و انتهت دقات الحياة و سكت الرنين في الطرقات نظر إلى السماء الفسيحة ذات النجوم الكثيرة و رأى وجه الذي يطارده فوق كل نجمة يراقبه ، أحنى رأسه و دخل إلى المقبرة إلى حيث الهدوء و السكون رأى الشموع فوق القبور و رائحة البخور تملئ المكان و حارس المقبرة يحمل إكليل الورد الأبيض يضعه فوق ضريح الوطن الذبيح و شبح اسود يتخطى بين الممرات الضيقة يقترب منه و يقف خلفه يجفل من وجومه يدور جسده نحوه يقابله ..
ـ ( لم يطاردني ؟ )
ـ ( لأنك المعني .. )
ـ ( بأي شيء ؟ )
ـ ( بكل شيء .. هيا إلى القسم .. سر أمامي من دون فضائح .. )
تذكر الآن بإنه ميت منذ زمن بعيد ..
ـ ( الديك رخصة بإلقاء القبض على الموتى ؟ .. )
مد يده إلى قبره و شقه إلى اثنين . و لج فيه ، و تركه واقفا مثل الكلب .