القرآن الكريم وبناء الجهاز المفهومي في نظرية المنهاج النبوي
(ذ. الحسن السلاسي، باحث في الفكر الإسلامي- المغرب)
يحظى القرآن الكريم باهتمام كبير في المشروع الفكري التجديدي للأستاذ عبد السلام ياسين، إذ يعتبره حجر الزاوية في تأصيله للمشروع المنهاجي المتكامل، باعتباره مصدر التشريع الأول، والأساس الذي تقوم عليه النظرية المنهاجية. من هنا كانت هذه النظرية قرآنية المنطلق والغاية، نظرية متكاملة قبست من القرآن الكريم، جمعت في مشروعها بين غايتين : استخلافية وإحسانية، وعلى أساس ذلك كثرت الكتب والدوريات والمسموعات والمرئيات تبسط القول في سبل بناء الخلافة الثانية من خلال اجتهاد مجدَّد ومجدِّد يقرأ ماضي الأمة وحاضرها ويتطلع إلى مستقبل البشرية بين يدي موعود الله تعالى.
ولتذليل الطريق للتفاهم مع القارئ والباحث والمختص والسياسي، تضمنت كتابات الأستاذ عبد السلام جهازا مفهوميا متآلفا ومنسجما يمهد لإشكالية تربط المقدمات بالنتائج وترتبها عنها وفق ضوابط : الوضوح والدقة والشمولية، و انطلاقا من القرآن الكريم كأصل أول رغبة في إعادة المفاهيم إلى تربتها الإسلامية الطيبة.
ولقد انطلقنا في بحثنا هذا من فرضية مؤداها أن الفكر المنهاجي ركز على القرآن الكريم في تأصيله للمفاهيم والقضايا والأفكار، وبحثنا عن هذه العلاقة في تأصيله للمفاهيم المنهاجية، وحللناها ووقفنا على تقاطعاتها وتبايناتها لرصد كيف تأسس الجهاز المفهومي في النظرية، وكيف انتظم. وقد توخينا في البداية التركيز على الآية من القرآن الكريم التي انطلق منها الأستاذ في تأصيله القرآني للمفهوم، وبحثنا عن تناميه ودلالاته التفصيلية وعناصره الجزئية اللغوية والاصطلاحية، وامتداداته الدلالية وثوابته المنهاجية، كما جاءت في كتاباته المختلفة مما يفيد موضوع البحث.
وأوصلنا البحث إلى أن الأستاذ عبد السلام ياسين بنى فكره المنهاجي القاصد إلى التغيير على أساس متين هو القرآن الكريم، لأن الغاية الكبرى هي الوصول إلى تحكيم كتاب الله تعالى في حياة الإنسان وبناء دولة القرآن تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تدرج في بناء مجتمع بشري يسوده القرآن وينظم علاقاته الخاصة والعامة.
وقبل حديثنا عن الجهاز المفهومي في نظرية المنهاج النبوي، بدأنا بنقطة لها أهميتها في تسليط الضوء على طبيعة هذا الفكر، والتي جعلته يضع جهازا مفهوميا، وهي مميزات الفكر المنهاجي من وضوح في الرؤية والوسيلة والغاية، وشمولية في الطرح باعتباره فكرا يقرأ الماضي، ويشخص الحاضر، ويستشرف المستقبل ومن دقة في التناول، ، ومن مقصدية، ومن تأصيل، مما يجعل الفكر متميزا جامعا مانعا مجملا ومفصلا.
كان للأستاذ المرشد وعي تام بضرورة تحديد المفاهيم منذ كتاباته الأولى فنراه يربط بين الجهاز المفهومي وبين طرح الإشكالية التي تؤدي إلى التحليل والمناقشة وما يتبع ذلك من تعليقات ومراجعات، واستخلاص النتائج وبناء التصور ثم العمل، هذا التمييز في المصطلحات والتميز في المفاهيم تفرضه عوامل تاريخية وثقافية وحضارية، و تفرضه عوامل تواصلية وإقناعية. وقد ميزنا في بحثنا عن انتظام المفاهيم لتشكل جهازا مترابطا، بين المفاهيم الوسائل والمفاهيم الغايات :
وأدرجنا ضمن المفاهيم الوسائل التي استخدمها الفكر المنهاجي لقراءة الماضي والحاضر والتخطيط للمستقبل واعتمدها كأدوات للتنظير والفهم والتجديد والعمل: اقتحام العقبة والمنهاج النبوي والقومة والخصال العشر.
ومجموع هذه المفاهيم الوسائل تؤدي إلى تحقيق الخلافة الثانية أو دولة القرآن، وما يرتبط بها من شورى، وإحقاق للعدل، وتثبيت للإحسان، وهي المفاهيم الغايات.
وقد خلصنا بعد عرضنا المستفيض لهذه المفاهيم إلى ما يلي:
- أن الجهاز المفهومي في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين تدرج من المفاهيم الوسائل إلى المفاهيم الغايات في نسق مترابط منسجم محكم، بدءا بمفهوم اقتحام العقبة كأول درج في سلم الجهاز ومرورا بالمنهاج والقومة والخصال العشر، ثم الوصول إلى المفاهيم الغايات : الخلافة الثانية أو دولة القرآن والشورى والعدل وغاية الغايات الإحسان. على أن هناك مجموعة من المفاهيم الفرعية التي تدخل مع المفاهيم الأساسة في تقاطع وارتباط منهاجيين كمفهوم التربية والتغيير والعقل والقلب وفقه التجديد أو الاجتهاد أوردناها ضمن المفاهيم المناسبة لها والحاضرة ضمنها والمساهمة في بنائها، لتشكل في مجموعها الشبكة المتآلفة المترابطة من المفاهيم المنهاجية فيما أسميناه الجهاز المفهومي في نظرية المنهاج النبوي في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين.
- أن هذا الجهاز ينبني على القرآن الكريم ويتأسس عليه ويتمركز، وهذا ما قادنها إليه بحثنا، واطلاعنا المتكرر على ما جاء في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين، وما استشهدنا به من نصوص لا نجاوز به هذه الكتابات، كلها تدور حول الوحي: القرآن والسنة.
- أن الجهاز المفهومي في نظرية المنهاج النبوي يتميز بالجدة والصرامة والدقة العلمية، وينفتح على كل النظريات والعلوم والأفكار والمعارف القديمة والحديثة مما له صلة بإنارة السبيل للباحث عن الحق، الطالب التغيير المنشود، الساعي للقاء الله على بصيرة.
- أن الغرض من تحديد جهاز مفهومي على أسس منهاجية هو ربط جسور الحوار والتواصل مع المتلقين على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم الفكرية والدينية والفلسفية والسياسية، تذليلا للصعوبات المعرفية والفكرية ومخاطبة لهم بما يعرفون ويفهمون وتبليغا لرسالة الله، وإقامة للحجة المطلوب إقامتها على الناس... فهو جهاز يتجنب الإقصاء ويسعى إلى التواصل والبناء.
- أن بناء جهاز مفهومي منهاجي، يتوخى تأصيل المفاهيم الإسلامية لما يترتب عن ذلك من نتائج تؤثر على العمل والأهداف والغايات.
- أن الجهاز المفهومي يؤسس لباقي المحاور التي سترد في هذا البحث، ويتقاطع معها لأن به قوام النظرية وعليه عمادها، فهو يتقاطع مع المحاور السبعة الأخرى ويتجاوب معها.
تأسيسا على ذلك تستحق نظرية المنهاج النبوي أن تحمل نعت التجديد بمعنييه العلمي والشرعي، فبالمعنى العلمي تسنى بفعل هذه الشبكة المتآلفة من المفاهيم إرساء قواعد مكينة للفهم والتواصل والحوار وتبادل التجارب العلمية المختلفة، وبالمعنى الشرعي أحيت النظرية دين الله تعالى وبعثت موعودا أخبر به نبي آخر الزمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، يبشر العالمين بالخلافة الثانية على منهاج النبوة يعم خيرها كل بيت مدر ووبر، ويحيى في ظلها الناس إخوة متحابين، في ظل العدل والإحسان...
- أن الواضع للنظرية هو الذي سهر على تنفيذ جوانب منها في حياة الفرد والجماعة، يراقب ويقوم ويحين ما تبقى من ركائزها مضمنة في كتب تصدر اتباعا لإتمام مشروع دولة القرآن.فهو حفظه الله المنظر والمجدد والمربي والراعي، وأن الخلافة الثانية بإذن الله وشيك تحققها على يديه.وبذلك يمكن أن نعتبر هذه النظرية مدرسة تتجاوز حدود التنظير إلى الممارسة والتطبيق.
وقد توصلنا من خلال هذه الدراسة إلى أن الجهاز المفهومي في نظرية المنهاج النبوي متكامل ومنسجم ومترابط ومتآلف شكل منطلقا هاما لبناء تصور منهاجي لم يسبقه إليه أحد ممن نظروا لبناء مشروع مجتمعي.كيف لا وهو ينبني فكره على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد أئمة العلم وأحباره.
والحمد لله رب العالمين.