بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد النبي و على أزواجه أمهات المؤمنين و على آله و صحبه ، وبعد
1.في مدرسة الوجود وعلومها :
يضع العبد قدمه على الطريق ، وفي الطريق المؤدية إلى معرفة ربه تكمن الاستقامة ، و الاستقامة بحسب الشيخ الأكبر شرعة و منهاج و مدرسة و تنزل.وما من عبد سواءا كان كافرا أو مؤمنا لا يحد عن الصراط الذي حد له، وبه بحسب اختياره النجدين أو أحدهما إن صح التعبير تكون عناية العبد و تحققه من تنزله وما يشار إليه ، فإن علم سر وجوده ، كان الوجود كمدرسة له ، فعاين ما عاينه قبله من أهل الطريق ، وتأكد من الوجود الإلهي المطلق ، و أيقن يقينا قطعيا بأخذ سيده لناصيته ، ومامن دابة أو نفس إلا والله آخذ بناصيتها .فمن مشى في غير طريق التي حدها الله له ، حاد عن سواء السبيل ، والكل بالنسبة إلى واحد ، على صراط ما شرع له .
يكون مسرح الوجود متقابلا في أجزائه ، متضاد في أركانه ، لايستقر على حال ، و لا تتكرر صوره ، وإن بدت للأبصار عكس ذالك، ينفر العقل من هذه الصور لتضادها ، لايفهم وجود السلام مع الحرب ، والشر مع الخير ، والنور مع الظلمة ، والشيطان مع الملائكة ، ورجحان كفة عن كفة. ويظل حائرا حسيرا فيما يراه و يسمع من الأحداث. وفي هذا التنافر المبدع لخلق الله و حكمه الأزلية ، تنشرح الحقائق للقلوب التي تتلقى علومها من الغيب و تجد جوابا لأسئلتها البليدة عن حقيقة الخلق ، و حقيقة الموت ، وحقيقة ما يغيب عن بصرها من عوالم ، وما قد تكون من رتب لعباد الله ، وما يكون في الكون ومسرحه من القلاقل و الآفات.
المؤمن بالله و رسوله صلى الله عليه وسلم يسلم لأمر هذه الأكوان ، أكوان الحيرة و الشك والريبة ، ويعالجها بالإيمان الذي تخالط بشاشته القلوب.
هذه هي البداية ، القدم الأولى التي يضعها العبد ، الأيمان مطلق الإيمان ، ثم ما وراء الإيمان أمر آخر ، استعداد لبلوغ سعة القلب ، وهذه السعة لايجد تفصيلها إلا في حديث الولي المشهور الذي رواها البخاري ، وفيه خطوات إجرائية أن فقهها العبد ولج باب المعرفة من بابها ، ثم تفرعت و استولت على سمعه وبصره و يده و رجله ، وبها ينال النسبة إلى الرب ، وعلى منوالها و بدرجاتها نفهم الرتب التي فصلها الشيخ الأكبر في المجلد الثاني من فتوحاته.
وفي هذا الصراط ، صراط الترقي في التربية و التعليم معا تكون التزكية والتدبر و مراتب التطبيب بمقتضى الشرع ، وبآليات الحكمة المستنبطة من النور الذي يتلقاه القلب بفعل التربية و مباشرة الروح و صقل سرها و طرح عنها كل أغيار الصدأ و الكن و الفصل و العمى و الران، وكلها آفات و قواطع و موانع تمنع العبد من السير إلى الله.
يتصرف الإنسان في أربع حقائق مترابطة و متباينة بعضها عن بعض ، حقيقة ذاتية ، و حقيقة ربانية ، و حقيقة ملكية ، و حقيقة شيطانية. تلخص ذالك الصراع بين الخير و الشر و الضر و النفع و الرحمة و القهر و الضلالة و الهدى. فحقيقة الإنسن الأولى ذاتية ، مسألة اختياره لأحدى النجدين ، تلقيه الوحي ، اختلاف نشآته العنصرية الذاتية المرتبطة بالأركان الأربع ، طغيان سلطان الأرض عن جذب السماء ، سمو الروح و خموذها ، استمداده للعلم من العقل بمدرك حواسه ، أو من رشحات النور الحكمية الآتية من الغيب ، أم اختياره للغيب و الشهادة كسراج لسيره في السبيل أو الزيغ عنهما .هذه الحقائق الذاتية المتحكمة في إرادة الإنسان بها تقاس كمليته أو مجموعه الخلقي العملي العلمي ، و لامناص من اعتبار أن أول الطرق المؤدية لمعرفة هذه الحقيقة الذاتية ، هو البحث عن نور الذات ومدى اتصالها بخصال النبوة ، و تعلقها بالذات النبوية الممدة للوجود الإنساني بحقيقتها الأصلية النورانية. تنصبغ الذوات النورانية عندما تعانق نورها الذاتي بالإمدادات النبوية ، و بها تنال الرحمة في شمولها لتتعدى وجودها الذاتي لتشمل غيرها من الموجودات ، حتى تعلم الحيتان و الدواب بأمرها ، بل يملأ الملأ الأعلى ذكرها ، ويذكرها الله عنده و يباهي بها ملائكته ، فمامن عبد مشمول برحمة خاصة إلا وكانت عامة تسري في غيره ليحمل عنها الأنواء و الأثقال رحمة من الله و فضل حتى تشمل الرحمة كل شيء ، وتلك الرحمة التي وسعت الخلق بفضل الله و رحمته، و لهذا كان شرط العالم الكامل الذي أنيطت به مقام الدعوة إلى الرسالة النبوية أن يؤمن و يقول بشمول الرحمة ، ومن أنكرها فما شم رائحة النسبة إلى الله و رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الحقيقة الذاتية ، تنبثق عند وجود هذا العامل الباعث الذاتي لسلوك السبيل ، الحقيقة الربانية المتمكنة في الإنسان ، فترشح في سره معنى الخلافة و النسبة الربية ، و اصطفاء خاص لعدد محصور من الخلق في دائرة الوظيفة الربية المقرونة بالرتب في الولاية ، و تتسع في شمولها لتشمل كل خلق سني سني رباني ، و تنحصر بمجموعها الكامل في الفرد الكامل المكمل الذي عليه مدار الوجود كله، إذ لابد للخليفة أن يكون على صورة مستخلفه ، وهو كمال الصورة ، و لاتتأتى هته الكملية إلا بالوراثة الكاملة بحسب الشيخ الأكبر قدس الله سره.
ومنها تندرج المعارف الملكية في حقيقتها الصورية ، أي الحفظ و العصمة و الأمن من كل التباس شيطاني ، فيكون قلب العبد العالم و مايرد فيه هو المعلوم بالضرورة و الأمر العلمي النوراني المحصل فيه.