لقد قادني التدبر للقرآن العظيم إلى أن أكتشف أن النظر لا يغني عن الإبصار! فالمرض إذن نظر بلا إبصار! قال عز وجل: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [اﻷعراف 198]، وقال سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف 105]، والقرآن العظيم مجموع كلي من الآيات الدالة على الطريق، آيات هي في حاجه فقط إلى من يبصرها؛ ومن هنا وصف الله القرآن كله بأنه (بصائر)، قال سبحانه: (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الجاثية 20].

والبصائر: جمع بصيرة، وهي الآية التي تُبَصِّرُ الناس حقائق الوجود، وتدلّهم على الطريق السالكة إلى الله، عند تعدد الطرق السالكة إلى غيره، وتسمى (بصيرة) من حيث هي مشعة بالنور، الذي يكون سببًا في تبصير الأعين الواقعة عليها، ولذلك وصف الله الآيات في سياق آخر بأنها (مُبْصِرَة) على صيغة اسم فاعل، فنسب الإبصار إليها من حيث هي سبب فيه، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) [اﻹسراء 12]، أي: مضيئة للأشياء، ومسببة بذلك للأعين في الإبصار.

إلا أن الموضوع المقصود عندنا ها هنا هو: الإبصار النفسي، أو القلبي، لا إبصار الجوارح، فالنفس الإنسانية (جسم) روحاني سوي، له جوارحه النفسانية، المفارقة للبدن، وإنما البدن لباسها الخارجي، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) [سورة الشمس 7]، فإبصار النفس، أو إبصار القلب هو الذي يصاب بالعمى عن الغفلة، ويعالج بالتذكر، قال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [سورة اﻷعراف 201]، وقال سبحانه: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج 46].

وعليه يُحمل معنى قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [سورة النمل 13]، وقوله عز وجل: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [سورة اﻹسراء 59]، فالآيات مُبْصِرَةٌ بمعنى مُبَصِّرَة، فهي لذلك بصيرة، والبصيرة: هي الثقب الذي يجعل في باب الدار من أجل معرفة الطارق، ... فمن خلالها يطلع الإنسان على الحقيقة ويكتشف طبيعتها. ومن هنا كانت آيات القرآن مُبْصِرَةً أو بصائر.

فإذا نصب المولى الكريم الآيات بصائر للناس، فإنهم إن لم يبصروا؛ لا لوم آنئذ إلا على أنفسهم، وهو قوله تعالى الوارد على أشد ما تكون النذارة: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [سورة اﻷنعام 104]، إن هذه الآية أُمٌّ من أمهات الكتاب. فأعد قراءتها وتدبر ثم أبصر!
تدبر ثم أبصر لأن الإبصار نتيجة طبيعية للتدبر، ولذا كانت الآيات صارمة في وجوب التدبر ...

ومن أجل هذا كله خاطب الله جل جلاله الناس ذوي الأبصار، كما في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [سورة النور 44]، وقوله أيضًا: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [سورة الحشر 2].

* فريد_الأنصاري
* بلاغ_الرسالة_القرآنية