يعد الاهتمام بالمسألة الاجتماعية سمة أصيلة من سمات الفقه التجديدي للإمام عبد السلام ياسين، فقد أولى لها رحمه الله تعالى أهمية كبيرة، حيث جعلها من صلب نظرية المنهاج النبوي، وفي هذا السياق تبرز خصلة البذل - بوصفها إحدى الخصال التي ينبني عليها الفقه المنهاجي – مُشكِّلةً بشعبها الإيمانية نظاما لحل المشكل الاجتماعي، فهي قوام العمل الاجتماعي، والكفيلة إن طبقت في المجتمع الإسلامي بتحرير الإنسان المستضعف من الشواغل الصادة له عن سبيل الله تعالى بإحقاق حقوقه وضمان ضروريات وحاجيات حياته.

أولا: الناظم الدلالي لمفهوم البذل

الباء والذال واللام كلمة واحدة، وهو تركُ صِيانةِ الشيء، يقال بذَلْتُ الشيءَ بَذْلاً، فأنا باذلٌ وهو مبذول، وابتذلْتُه ابْتِذالاً[1]أي احتقرته احتقارا. والبَذْل: ضد المَنْع. بَذَله يَبْذِله ويَبْذُله بَذْلاً: أَعطاه وجادَ به. وكل من طابت نفسه بإِعطاء شيء فهو باذل له ورجل بَذَّال وبَذُول إِذا كان كثير البذل للمال[2].
ينتظم لنا من خلال الدلالة اللغوية لكلمة بذل أن معناها إعطاء الشيء والجود به استهانة به
وبهذا المعنى أيضا وردت في الحديث النبوي، ويدخل في خصلة البذل ما أمر الله تعالى به من الإنفاق بالمال وبالنفس.

ثانيا: البذل فتوة

ينبغي للمؤمن ألا يركد في صحبة المؤمنين منكمشا على نفسه بل يتعين عليه أن يفقه مشاكل أمته ويلتصق بواقعها ويعاني آلامها ويتهيأ لحمل أعبائها، قال الإمام ياسين رحمه الله " ندفع المؤمنين لميدان التطوع، يعطون الشعب من أموالهم، ووقتهم، وجهدهم. فينتقلون بذلك من الموقف التابع إلى الموقف المسؤول، ومن ذهنية الذي يبحث عمن يحل مشاكله، إلى عقلية القوي الأمين، يتعلم القوة والأمانة في الميدان لا في الأحلام، يحل هو مشاكل الناس، لا يكون عالة على الناس" [3].
فعلى هذا المنوال يلم المؤمنون والمؤمنات جهودهم في العمل التطوعي ويضعونها في خدمة المستضعف قصد تحريره وإطعامه "إنها مهمات كالجبال، تحتاج لرجال سامقي الهمم، متوفري الخبرة، قادرين على العطاء بلا حساببذل" [4].
والبذل فتوة ترى فضل الله عز وجل وكرمه على أهلها أن وفقهم لخدمة دينه والجهاد في سبيله سبحانه وتعالى.

ثالثا: قاعدة بذل الفضول

الأصل في قاعدة بذل الفضول ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله بسنده المتصل من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يضرب يمينا وشمالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له قال- أي الراوي- : فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل" [5].
فهم الراوي رضي الله عنه أن الإنسان يبذل كل ما عنده حتى لا يبقى معه فضل من الطعام
والشراب والرحل وغير ذلك، قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى معلقا على ما فهمه الصحابي رضي الله عنه " فنحن أولى بهذا الظن ومصير الأمة في خطر" [6].
نعم الأمة في خطر لأنها غارمة قد فدحها الدين بسبب ما فعله سفهاء الجبر في خيراتها وأموالها، الأمة في خطر ما دام فيها الفقير والمسكين والجاهل. فيجب والحالة هذه أن يتخذ جند الله الحديث الشريف عزمة نبوية - قبل بناء الدولة الإسلامية وأثناء البناء وبعده – لخدمة المستضعفين و إطعام الجائعين وتعليم الجاهلين والسعي في مصالحهم.
وتجدر الإشارة في هذا السياق أن الإسلام رغم حثه على الفعل الإحساني التطوعي فقد احتاط كل الاحتياط لتفادي أن يتحول المجتمع الإسلامي إلى مجتمع استعطاء واتكال على الغير، فحرم بذلك التشوف إلى أموال الناس فضلا عن سؤالهم من غير حاجة ماسة أو ضرورة ملجئة.

رابعا: المردود الاجتماعي والوجه الأخلاقي للبذل
بقلم: الأستاذ عبد الالاه بالقاري
يمكن الحديث باختصار عن المردود الاجتماعي و الوجه الأخلاقي للبذل في العنصرين التاليين:

أولا: إكرام المسلمين
وهو إكرام عملي حقيقي وليس نفاقا اجتماعيا، وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي أنه كالجسد الواحد، لا يصاب فيه عضو إلا أحست به سائر الأعضاء وتأثرت، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم رحمه الله عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [7].
وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أمثلة ناصعة في البذل وقسمة المال، هذه قصة واحدة من قسمتهم رضي الله عنهم، روى ابن سعد عن أم درة قالت: "أتيت عائشة بمائة ألف ففرقتها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لو كنت اذكرتني لفعلت" [8].
قال الإمام ياسين رحمه الله معلقا على فعل أم المؤمنين رضي الله عنها "في عصر الأنانيات ما أحوجنا أن نتخلق بأخلاق من ينسى فطوره ويعطي بلا حساب" [9].
وقمين أن نذكر في هذا الصدد صنيع الأشعريين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا نموذجا رائعا في التكافل الاجتماعي حتى صاروا علامة مضيئة عليه ومضرب الأمثال في ذلك، فلم يكن تكافلهم من جنس ما ألفه الناس بل تعدوه إلى اقتسام ما يملكون بالسوية.

ثانيا: إكرام الإنسانية
كرم الإسلام الإنسان وحرم ظلمه وهضم حقوقه، قال تعالى ﴿ ولقد كرمنا بني آدم﴾ (سورة الإسراء:70) وتبعا لهذا الأصل العظيم فإن الإسلام يبسط للإنسانية الأسيرة في قبضة المستكبرين من أبناء الدنيا بساط العدل والرحمة كي تحيا حياة آمنة، قال الإمام ياسين رحمه الله بعد كلام "إن لكافة الخلق من مائدة الرخاء الإسلامي نصيب" [10].
وحاصل الأمر أن المردود الاجتماعي للبذل ووجهه الأخلاقي يشكل واجهة مشرقة يمكن أن يقدم بها المسلمون خصوصيتهم الحضارية في أفق بناء مشترك اجتماعي عالمي.