كان (فلان) يشكو جاره.. يقول عنه إنه حسود، فهو يترقب صعود الجيران وهبوطهم على درج العمارة.. يهمه جداً أن يرى ماذا يحملون وهم عائدون من السوق؟ من الذين يزورونهم وفي أي الأوقات؟ بل ويهتم الجار بأن «يتسمع» أخبار الجيران.. من نجح فيهم ومن رسب.. من مرض ومن سافر ومن يبر والديه ومن يعقهم.. ومن هنا بدأ الراوي صاحب القصة يخاف من «عين» جاره الحسود.. على حد قوله.. ويختفي خلف شجرة أو بناء حتى لا يراه الجار (إياه). بل ويأمر أبناءه ألا يدخلوا من باب العمارة مجتمعين بل متفرقين حتى لا تصيبهم عين الجار الحسود كما يقول بطل قصتنا.

ومضت الأيام وذات يوم لمح الراوي جاره القديم يستيقظ فجراً.. فيصلي في المسجد.. ويعود لكي يروي (شجرة) أمام العمارة لينال ثواب هذا العمل.. والناس نائمون، حيث لا يراه إلا الله.. والراوي لهذه القصة.. يقول الرجل: حين رأيتُ جاري الذي يتهمه الناس بأنه حسود ويخفون عنه نجاحاتهم وإنجازاتهم.. حين رأيته يقوم ليلاً ليصلي وفجراً ثم حرصه على أن يروي شجرة وحيدة عجوزاً لا يلتفت إليها أحد.. كل هذا فتح قلبي لهذا الرجل.. إن فيه خيراً كثيراً.. إنه يحرص على عمل الخير ولو في أبسط صوره.. إنه لا يؤذي أحداً بالمعنى ولكن الاتهام الموجه إليه دائماً هو «الحسد» .. فالناس من جيرانه يلصقون به تهمة الحسد لو انكسر لديهم شيء ثمين.. أو انقطعت الكهرباء إذا زار أحدهم.. أو مرض ابن إذا رآه.. هل يتعارض الحسد مع الخير أم من الممكن أن يكون المرء حسوداً ومحباً للخير في آن واحد؟

أخذ الراوي يفكر.. هل هذا الجار هو الحسود فقط؟ لا.. فالناس أغلبهم يَحسدون ويُحسدون.. وقد يحسد الإنسان نفسه في يوم من الأيام.. حين يُعجب بشيء من بيته فيفاجأ بعطل أصابه فوراً ويحدث هذا في السيارة.. وأحياناً يُعجب بولده فيمرض.. وهو لا يقصد أن يحسده بالتأكيد.. ومن يومها والراوي إذا أعجب بشيء أسرع إلى قوله: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، كما وجهنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. ومن يومها توقفت الأعطال والأمراض بإذن الله.. إذن مشكلة الجار أنه لا يقول (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) حين يُعجب بشيء أو شخص.. وتفكر الراوي في أمر هذا الرجل الذي قاطعه جيرانه خوفاً من «عينه» بينما هم أيضاً يحسدون أنفسهم وأولادهم ويُخفون ذلك ويلصقونه دوماً بالجار.. لا أحد يعترف أنه حاسد مطلقاً والجميع دوماً يرى في الغير هذه الصفة.. ذهب الراوي لجاره لأول مرة فوجده كريماً مبتسماً يُحسن الترحيب بالضيف.. حفاوة بالغة وكرم شديد.. يبدو إنساناً طيباً أصيلاً.. يقول الراوي لقد نصحتُ جاري بأن على الإنسان إذا أعجب بشيء أو شخص أن يبادر فيقول (ما شاء الله لا قوة إلا بالله).. وسعد الجار بالنصيحة وقرر أن يعمل بها.. لم يضق بالنقد ولا بالمعنى الخفي للنصيحة، وجلس الراوي مع جاره يتحدثان فإذا به متعمق في أمور عديدة.. مثقف ودود.. فتغير انطباع الراوي عنه.. وخرج من بيته وهو ينوي أن يُحدِّث الجيران عن ميزات جارهم حتى يكفوا عن مقاطعته وأهمية أن يصلوه.. وفعل الراوي لكن الجيران رفضوا إعادة الصلة بالجار وكانت حجتهم أن مقاطعة الحسود هي أقل عقاب له.. ويكمل الراوي القصة: مرض جارنا فجأة وكان شاباً قوياً فلم يزره أحد من الجيران إلا أنا.. ثم نُقل للمستشفى وساءت حالته سريعاً فرحل إلى الدار الآخرة.. وحين علم الجيران بذلك تألموا أشد الألم.. فقد هزهم نبأ الموت المفاجئ لهذا الشاب.. وحزنوا حزناً شديداً وهم يتذكرون كيف كانوا يتجنبونه سنوات طوال ولا يشاركونه فرحاً ولا ترحاً.. وكيف كانوا يختبؤون من عينه كأنها سهام موجهة.. وبدأوا يعيدون حساباتهم مع الحياة والناس.. إن الحياة تنتهي فجأة، ومن الظلم أن يحب الإنسان الحياة لدرجة أن يتهم الآخرين دوماً بأنهم (حسده) وأن كل بلاء يصيبه فهو إما من حسدهم أو سحرهم، لماذا فعلوا بجارهم ما فعلوه؟ وإذا كانوا مقتنعين فعلاً بأنه حسود.. ما سبب حزنهم الشديد لموته المفاجئ؟

لقد رحل الرجل المتهم بالحسد.. مع ذلك فالجيران لا زال منهم من يمرض.. ومازالت الأشياء الثمينة تتكسر في بيوت الجيران، ومازال الجيران يبحثون عن بديل يتهمونه بالحسد لكل مشكلة أو حدث مؤلم يلم بهم.. لقد رحل الجار القديم ولم يعد هناك من يعتني بالشجرة العجوز ويسقيها، فلا أحد من الجيران يهتم بهذه اللمسة واللفتة الرقيقة مثل الجار القديم.. المظلوم.

نسأل الله أن يعفو عن الجميع.

المصدر د. نادية عوض
المجله العربيه