[read]في ظلال التجديد عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه بقلم: الأستاذ أحمد حسيسو[/read]
الفهرس

مقدمة:

تجديد الدين و الإيمان:

شعب الإيمان:

الغاية الاستخلافية و الغاية الإحسانية:

حديث الخلافة:




مقدمة


إن الإيمان يزداد و ينقص، يزداد بالطاعات و القربات و ينقص بالمعاصي و الغفلات، و يكون لذلك أثر في أعمال العباد و سلوكاتهم وتصرفاتهم و معاملاتهم أفرادا وجماعات، فعندما يطول الأمد تنطمس الفطرة وتقسو القلوب، فيوسوس شيطان الهوى للنفوس فتهوي في دركات الشهوات والذنوب، فتكون الحاجة ملحة لمن يدعو ويذكر ويعلم و يصلح بالمقال والحال، بشيرا ونذيرا، و سراجا منيرا، ليرجع إلى الصواب من سبقت له من الله الحسنى ويتوب، تلك كانت وظيفة الأنبياء والمرسلين، إمامهم في تلك المهمة العظمى سيدنا محمد خاتمهم عليه وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه، و اقتضت حكمة الله تبارك و تعالى، أن تستمر هذه الوظيفة النبيلة بعد انقطاع النبوة، فيقيض لها من خلقه من دون الأنبياء عبادا له يهيئهم ويصطفيهم ويلهمهم و يوفقهم، ويبعثهم على رؤوس القرون بعد رسول الله ليجددوا لهذه الأمة دينها، إنهم من خاصة علماء الأمة، وهم أمناء الرسل وورثة الأنبياء عليهم السلام.







تجديد الدين و الإيمان:


روى الأئمة أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"
وروى الإمام أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، والحديث صححه الإمام السيوطي عن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: " جددوا إيمانكم قيل يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله."
يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: "تحصل لنا من هذه الأحاديث الشريفة أن الإيمان يبلى فيجب تجديده، يضعف فتتعين تقويته وأن الأمة تكلؤها عناية الله فيبعث سبحانه لها من يجدد لها دينها، وأن الإيمان يعالج من بلاه و ضعفه بطب موصوف لا لبس في كنهه وماهيته ووسيلته" [1].

ويقول الإمام أيضا: " ترك فينا الحبيب صلى الله عليه و سلم كلمة الله الحية، وترك فينا رجالا مؤمنين أحياء. و الإيمان والإحسان يتجددان بالاعتصام بالحبلين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله، ومن سنته العترة الطاهرة، وهم عموما كل متق ولي لله، وخصوصا الطاهرون الأولياء، وهم آل البيت حقا. باعتصامنا الصادق بهما يتجدد إيماننا حتى يتطابق مع إيمان الصحابة..." [2].

تجديد الدين بالنسبة للفرد يقوم على تجدد الإيمان في قلب العبد المسلم بالإكثار من ذكر الله، وإتيان الطاعات وهجران المحرمات، فيحصل له التجافي عن دار الفناء، النهوض للعمل الصالح بنية صالحة يرفعانه إلى مقام المؤمن المتطلع إلى الفوز في دار البقاء ، ثم يترقى في مدارج الإيمان عندما يجد وليا لله خبيرا عارفا بالله يأخذ بيده و يجنبه عثرات الطريق، حتى لا تكون له حاجة تحجبه عن الأنس بالله ولا مطلب دون ابتغاء وجه الله، هذا في حق الفرد نستشفه من خلال شروحات الإمام ياسين المستفيضة لمعاني الصحبة و التي اعتبرها من آكد الركائز في منهاج تربية وتغيير الإنسان المسلم، في غير ما موضع من كتبه، أما تجديد الدين بالنسبة للجماعة المنجمعة على الله، لعمارة الأرض بشرع الله وإعزاز أمة رسول الله، فلا بد له من ثلاث ركائز أساسية سماها الإمام رحمة الله عليه في كتابه المنهاج النبوي تربية و تنظيما وزحفا بالنواظم الثلاث، و هي الحب في الله، النصيحة و الشورى ثم الطاعة المأمور بها في الكتاب السنة، وهي أسس ثلاثة عليها، يمكن بل و يجب بناء جماعة منظمة من المؤمنين يعملون لإحياء الأمة من موات وجمع شملها من شتات، غياب إحدى هذه النواظم الثلاث سواء في روح الجماعة أو جسدها يجعلها تجمعا آخر غير التجمع الإيماني المُسَدَّدِ القاصدِ السائر على جادة الصواب.

شعب الإيمان:


في صحيح الإمام مسلم، رواية عن شعب الإيمان يقول فيها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: "الإيمان بضع و سبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، و الحياء شعبة من الإيمان " ، شعب الإيمان هذه البضع و السبعون، و هي عند الإمام البخاري بضع و ستون، لم يسردها النبي صلى الله عيه و سلم سردا، لكنها مبثوثة في كتاب الله وسنة المصطفى عليه الصلاة و السلام، وقد سبق أن صنف و كتب فيها كل من الإمام الحليمي والإمام البيهقي رحمة الله عليهما، ثم اجتهد في تناولها الإمام ياسين اجتهاد مجدد موفق، فصنفها إلى عشر عناوين كبرى سماها الخصال العشر، هي 1- الصحبة والجماعة، 2- الذكر، 3- الصدق، 4- البذل، 5- العلم، 6- العمل، 7- السمت الحسن، 8- التؤدة، 9- الاقتصاد، 10- الجهاد؛ كل منها تتضمن مجموعة من شعب الإيمان تتقارب و تتكامل فيما بينها في مغزاها الروحي و السلوكي، ودرسها و حلل معانيها من الجوانب التربوية الفردية، و الجوانب التنظيمية الجماعية، و مقتضيات الجهاد و الزحف لتحرير الأمة و إعلاء كلمة الله، كل ذلك في ارتباط وثيق مع واقع الأمة، وفي ضوء المرحلة التاريخية التي تعيشها وتمر منها، و استشرافا لمستقبل الإسلام، هذا في الوقت الذي ينشغل فيه كثير من أهل العلم في جزئيات الفقه، و آخرون في فروع العقيدة، بحسب ما أوتي هؤلاء وهؤلاء من علم و إرادة و جرأة، غير أن أسوأ العلماء من باعوا آخرتهم تقربا للأمراء، لا يفترون عن توبيخ عامة الناس، وتحميلهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الأمة من فساد وإفلاس، وإعلان الإنذار الشديد بيوم الوعيد في وجوه المستضعفين، مع مداهنة الطغاة المستبدين.
كل داع و واعظ و فقيه منهمك في مجال انشغاله قلما يجاوزه شبرا، و هذا طبعا لا يفيد التنقيص من أي جزئية من جزئيات ديننا الحنيف بأي حال من الأحوال، لكن جمع كليات الدين و فرعياته في انسجام وانتظام، و ضبط فقه الواقع و إدراك الأولويات، أمور لا يقدر عليها إلا كُمَّل الوارثين و أكابر المجددين.

الغاية الاستخلافية و الغاية الإحسانية:


كان الصحابة رضوان الله عليهم رهبانا بالليل و فرسانا بالنهار، لم يكن السعي التربوي الإيماني الإحساني عندهم منفصلا عن نداء "يا خيل الله اركبي" و لا عن هموم السياسة و المعاش و مخالطة الناس برهم وفاجرهم، مؤمنهم و كافرهم، لا تتعارض عندهم دمعة المحراب مع غبرة ساحة الحِرَاب، لكن مع حلول حكم السيف، أقصي أهلُ العلم من الشأن العام للأمة و حوصروا في زاوية العقائد والكلام وأحكام الوضوء و الحيض و النفاس، وانزوى الصوفية هروبا بدينهم في العزلة والزوايا، وشر عن آخرون للأحكام السلطانية حفاظا على بيضة الأمة أن تنكسر، و قد كانت للأمة يومئذ منعة و وحدة و هيبة تجاه المتربصين حينا من الزمان، صبر الصالحون على نقض عروة العدل حفاظا على حوزة الأمة، حتى لا يضعفها الخلاف، و تفتك بها الفتن الداخلية فتكون لقمة سائغة للدول الكافرة المتربصة آنذاك، لكن الآن لم تعد للأمة وحدة سياسية و لا شوكة إزاء العدو، و لا شيء مما كان يخشى عليه سلفنا رحمهم الله أن يضيع، لم يعد لدى الأمة ما يمنع العلماء و الدعاة أن يصدعوا بالحق في وجوه الحكام الظلمة العملاء للأعداء.
بعد إشارة عميقة رائعة إلى أن العدل قد تيتم بيننا، يقول الإمام العلامة المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله نظما بليغا:

هلموا ننكر الظلم ---- ننازله نقاتله.


لقد كانت قومة الإمام ياسين بحق قومة جامعة لما تفرق في أزمنة العض و الجبر، قومة تروم بلوغ درجات الإحسان على أساس العدل في تناغم و انسجام، كما هو حال الصحابة الكرام، و كانت دعوة تصل تبتل الليل بسبح النهار، نسج رائع عجيب أثل له الإمام تنظيرا و تأليفا و تربية و تنظيما، إنه ازدواجية الخلاص الفردي للمؤمن و الخلاص الجماعي للأمة.
تجديد الدين على مستوى السلوك التربوي للفرد وعلى مستوى السير التنظيمي للجماعة، مطلبان يعتبران مناط التجديد في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله و أسكنه فسيح الجنان، لا يفترقان في منهاجه وتنظيره كما حدث في الأمة منذ أن رفع الله الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، و تحول أمر الأمة من حكم الشورى إلى ملك عضوض، ذلكم الحدث التاريخي المزلزل الذي سماه بالانكسار التاريخي.
المطلبان أمر إلهي وجب السعي لتحقيقهما، استنبطهما الإمام من البلاغ الإلهي القرآني، وسماهما بالغايتين الاستخلافية و الإحسانية، وذلك في قوله عز من قائل في سورة العنكبوت: ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾ ، فهمَ الإمامُ العدلَ المأمور به في كتاب الله في شموليته، عدل في الحكم، عدل في القضاء، عدل في قسمة الأرزاق، و عدل في كل شيء، أما الإحسان فأورده في كتاب الإحسان بمعانيه الثلاثة المذكورة في الكتاب و السنة النبوية الشريفة، الإحسان بما هو إتقان للعمل، وإحسان المعاملات مع الخلق، و إحسان العبودية للخالق، حاصل القول و خلاصته في نظرية المنهاج النبوي عند الإمام ياسين والتي بسطها في العشرات من مؤلفاته، فإن همَّ الفرد وحاله بين يدي الله في الدار الآخرة لا ينفك، ولا ينبغي له، عن مصير الأمة التاريخي ورسالتها ومكانتها في العالمين.

حديث الخلافة:


من أهم أبواب التجديد في فكر الإمام المجدد رحمه الله، طريقة تناوله لحديث الخلافة، حديث لا يكاد يخلو مجلس من مجالسه من ذكره والاحتفال به، وقلما تقرأ كتابا من مؤلفاته دون الوقوف عليه، لما يوليه من أهمية لهذا الإخبار الغيبي النبوي، يبسطه للأمة المحمدية شحذا للهمم وتحفيزاً وبشارةَ، وكان رحمه الله من أكثر العلماء و الدعاة و المفكرين استبشارا و فرحا و يقينا ببشارة عودة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، بعد قرون العض و الجبر، مؤكدا من خلال قراءته وفهمه للتاريخ على أن الأمة تعيش آخر حياة عهد الملك الجبري، و أن على ذوي الهمم العالية و أهل الفضل و الصلاح أن يتهيئوا ليكونوا أهلا لتنزل قدر الله بالتمكين لدين الله على أيديهم، ومن تخلف عن الركب فلا يلومن إلا نفسه يوم لا ينفع الندم، فالنصر آت، آت، آت، فهاك أخي القارئ و يا أختي الحديث البشارة : روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح ينتهي إلى حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال :"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها.ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت " حديث نبوي عندما نتفحصه في السياق التاريخي و المراحل التي مرت بها أمتنا و تمر بها حاليا، نستخرج منه علما و فهما عظيمين، فهو خبر أتانا ممن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه و سلم، و بقدر ما هو قضاء و قدر من أمر الله سبحانه و تعالى لا راد له، فهي أيضا أحداث على صلة بما كسبت أيدي الناس، وفيه لكل أهل زمان ومكان قدر من المسؤولية في فهمه و العمل و التعامل معه وفق ما تقتضيه سنن الأسباب و التدافع.
فمن الناس بل من الدعاة من يعتبر أن الخلافة على منهاج النبوة لن تقوم حتى نزول عيسى عليه السلام، فَيُفهم من كلامهم ضمنيا رفع الحرج و المسؤولية عن العمل الدؤوب لإقامتها، و قد يُخفي الموقفُ ما يخفيه من الجبن و الاستسلام أمام سطوة حكام الجبر.
ونبه الإمام من جهة أخرى إلى خطإ المؤرخين في إطلاق لقب الخلافة على الامبراطوريات الأموية والعباسية و العثمانية و غيرها من أنظمة الحكم بعد الخلافة الراشدة التي قوضها بنو أمية، و تلقيب أمراء هذه الدول بالخلفاء، مما يتعارض مع التسمية النبوية الشرعية، كلا و الله ما هم بخلفاء بل هم ملوك عض وجبر، فلفظ خليفة يحمل دلالة سامية جليلة، يعني خليفة رسول الله، و خلافة رسول الله تتأسس على الشورى و العدل و الإحسان، فمتى كان الظلمة المتسلطون أهل عدل و إحسان؟ ومتى عرف وارثو الحكم أبا عن جد معنىً للشورى، و معنىً لحرمة الأمة و كرامتها حتى نسميهم خلفاء ونوابا لرسول الله؟

تم بحمد الله صبيحة الجمعة 27 دجنبر 2013 م
اريخ النشر: الثلاثاء 4 فبراير/شباط 2014

[1] المنهاج النبوي تربية و تنظيما و زحفا، الشركة العربية الإفريقية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1989. ص 37.

[2] كتاب الإحسان، مطبوعات الأفق الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998. الجزء 1. ص 335.