الهجرة إلى المدينة

الحمدّ لله ربّ العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلام الله عليهم أجمعين.

أما بعد فقد قال الله تبارك وتعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.

لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالتبليغ والإنذار بلا قتال، وكان يدعو إلى الله جهرا ويمر بين العرب المشركين حين كانوا يجتمعون في الموسم من نواح شتى ويقول: "أيها الناس قولوا لا ءاله إلا الله تفلحوا"

ودعا إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق ونهى عن المنكر والبغي فآمن به بعض الناس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال، وغيرهم، وبقي على الكفر أكثر الناس وصاروا يؤذونه وأصحابه

فلما اشتد عليهم الأذى هاجر بعض أصحاب النبي إلى الحبشة الهجرة الأولى وكانوا نحو الثمانين منهم عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي في الموسم نفرا من أهل يثرب من قبيلتي الأوس والخزرج فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا ثم ازداد عددهم في العام التالي،
فلما انصرفوا بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ام مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان الناس من أسلم منهم القرءان. ويدعوان من لم يسلم إلى الإسلام.

فلما كثر أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيثرب أمر الله المسلمين بالهجرة إليها فخرجوا ارسالا، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة محل ولادته التي كانت أحب بلاد الله إليه يتحمل المشاق في سفره مع أبي بكر بعد أن أقام في مكة منذ البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك.

ولم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حبا في الشهرة والجاه والسلطان فقد ذهب إليه أشراف مكة وقالوا له: إن كنت تريد بم جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد ملكا ملكناك إياه، ولكن النبي العظيم أسمى وأشرف من أن يكون مقصوده الدنيا والجاه والسلطان.
ولم تكن هجرته التماسا للهدووء وطلبا للراحة فهو يعلم يقينا أنها دعوة حق ورسالة هدى لا بدّ أن يؤديها كما أمره الله وهو لهذا يقول لعمه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكف عن التعرض لقومه وما يعبدون “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله سبحانه وتعالى أو أهلك دونه.

لقد كانت الهجرة في سبيل الله لإقام صروح العدل والحق وبناء دولة الإيمان ونشر التوحيد في كافة أرجاء الجزيرة العربية بل في كافة أرجاء المعمورة،

كانت عملية جمع للقوى المؤمنة بالرسالة السماوية وتوحيد للطاقات التي استطاعت فيما بعد بفضل ربها تحطيم قوى الكفر والإشراك.

وكان من المهاجرين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه خرج من مكة مع أربعين من المستضعفين في وضح النهار ممتشقا سيفه قائلا لصناديد قريش بصوت جهير
يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمه أو تترمل امرأته أو ييتم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب،
فما تجرأ أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة.
وكان مشركو قريش قد أجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعوا من كل قبيلة رجلا جلدا نسيبا وسيطا ليضربوه ضربة رجل واحد حتى يتفرق دمه في القبائل،

فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم وأنزل الله تعالى: {وإذ يمكر الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه ومعه حفنة تراب فجعل يذرها على رؤسهم وأخذ الله عز وجل بأبصارهم عن نبيه وهو يقرأ {يس والقراءن الحكيم - إلى قوله - فأغشيناهم فهم لا يبصرون}

فلما أصبحوا فإذا هم بعلي بن أبي طالب فسألوه عن النبي فأخبرهم أنه خرج فركبوا في كل وجه يطلبونه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار مع أبي بكر حتى وصلا إلى غار ثور فدخلاه وجاءت العنكبوت فنسجت على بابه وجاءت حمامة فباضت ورقدت، فلما وصلت رجال قريش إلى الغار قال أبو بكر يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما”

ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبله المؤمنون بالفرح واستبشر الناس بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وسمى الرسول يثرب المدينة المنورة وآخى بين أهلها والهاجرين وسماهم الأنصار وبنى مسجده ومساكنه، وصار المسلمون على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع الدنيا ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة مثلهم كمثل البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ومثلهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فقد استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين ومدوا لهم يد المساعدة والعون حتى كان الأنصاري يقسم ماله ومتاعه بينه وبين أخيه المهاجر.

وفي السنة الأولى للهجرة أسلم عبد الله بن سلام وكان عالم اليهود بالمدينة وأعلم أحبارهم، وفيها شرع الأذان وأمر بالصلاة إلى بيت المقدس نحو سبعة عشر شهرا ثم نسخ بالأمر بالرجوع إلى استقبال الكعبة وليس في ذلك نسبة البداء إلى الله كما زعمت اليهود لأن الله لا يتغير علمه بل هو عالم في الأزل باختلاف مصالح عباده،
وهو يتصرف في عباده بما يشاء، وفي السنة العاشرة للهجرة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في المدينة المنورة في الموضع الذي توفي فيه وهو حجرة السيدة عائشة، وكانت وفاته في ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول صلى الله عليه وسلم.